الانتصار الحقيقي هو اعادة قوت الفقراء ودنانيرهم إلى جيوبهم، ولا يمكن استعادتها إلا بالتركيز على الخطط الاقتصادية والمفاوضات السياسية مع الولايات المتحدة لوقف نزيف الدينار، وإذا أوقفنا النزيف سوف ننتصر وتنتصر شعوبنا، والإنتصار الاستراتيجي الأكبر يتمثل بتأسيس اقتصاد قوي قادر على مواجهة التحديات المحلية والدولية...
العراق يختنق بحبل ورقي يلتف على رقبته وبعقدة جديدة كل صباح، سعر الدولار 150 و155 ثم 157 و160 ألف دينار لكل ورقة نقدية من فئة 100 دولار، كل سنت يزيد في سعر الدولار تقابله خسارة في قوت العراقيين جميعاً، لكن الضرر الأكبر على الطبقة المتوسطة والفقيرة.
الفصائل الشيعية الحليفة لإيران معنية بهذا الأمر، فهي الممسكة بزمام السلطة، ورئيس الوزراء ثمرة لاجتماعاتها وصراعاتها الكبيرة ضد التيار الصدري، وصعود محمد شياع السوداني بالطريقة التي جرت قبل شهور اعتبرت انتصاراً سياسياً لحلفاء إيران الراعي الرسمي لمحور المقاومة.
بمعنى آخر أضيف انتخاب السوداني إلى قائمة الانتصارات المتتالية لهذا المحور في لبنان وغزة واليمن والعراق وسوريا، وفي الجمهورية الإسلامية نفسها حاضنة المقاومة وإمبراطوريتها.
لكن الاحتفال لم تكتمل فصوله حتى ظهر الشيطان مجدداً، وبدأ بقضم قوت العراقيين، سعر الدولار أمام الدينار بدأ يرتفع مثل وحش مرعب يستعرض عضلاته كل يوم حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، ارتبكت الأسواق وتسرب الخوف لدى العراقيين، وانحسر عدد المواد الممكن شراؤها بنفس الراتب خلال الشهور الماضية، فارتفاع الدولار يقابله انخفاض في قيمة الدينار ومن ثم تدمير للقوة الشرائية المعتمدة على العملة المحلية.
يبدو أننا سجلنا أهدافاً كثيرة في مباراة واحدة، وما أن وصلنا إلى المباراة النهائية المهمة حتى خسرنا لقب البطولة بهدف واحد لصالح البنك الفيدرالي الأمريكي.
الفرق كبير بين تسجيل عدة أهداف في مباراة غير مهمة، وبين تسجيل هدف واحد في مباراة نهائية تحقق على إثره اللقب المنشود.
الفوز بالبطولة يقابله بالجانب السياسي الفوز بالحرب، أما الفوز في مباراة ضمن البطولة يقابله سياسياً تحقيق انتصار في معركة معينة، لكنه لا يحسم الحرب.
المحور الإيراني حقق العديد الانتصارات خلال بعض المعارك، وتعرض لهزائم كبيرة في حروبه، ومن حروبه الخاسرة ما يجري في العراق وسوريا واليمن وإيران نفسها من انهيار للعملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، فشل المحور فشلاً ذريعاً في بناء اقتصاد ديناميكي قادر على العيش باستقلالية تامة بدون الحاجة إلى المغذيات الأمريكية.
إيران التي تمثل امبراطورية مقارنة بحلفائها أقرت ضمنياً بضعفها الاقتصادي من خلال عملها المحموم لكسر القيود غير العسكرية المتمثلة بالحظر الاقتصادي، وحققت ما أرادت عبر الاتفاق النووي ففتحت أسواقها نحو العام الخارجي وبدأت بعقد الصفقات وروجت لذلك على أنه أحد أهم فتوحاتها، لا سيما وأن أوراق الدولار المطبوعة في بلاد "الشيطان الأكبر" بدأت تتدفق إليها بسهولة أكبر.
لم يستمر الاحتفال الإيراني طويلاً، فقد جاء الرئيس الامريكي دونالد ترامب ومزق الاتفاق ومنع أوراق الدولار من التدفق نحو طهران، معلنا نهاية الأحاديث عن الانتصارات الدبلوماسية والاقتصادية الإيرانية، وصعود خطاب الانتصارات العسكرية غير المهمة مقابل ورقة نقدية لا يمكن محاربتها بالبندقية والمدفع، إنما بتغيير السياسات واتباع خطوات واقعية بقليل من شيطنة أمريكا، وكثير من العمل لإصلاح البنية الاقتصادية والإدارية المتهالكة في بلدان المقاومة.
الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته الجديدة لم تكتفي بما فعله دونالد ترامب، فقد وسعت نطاق الخنق الاقتصادي لمحور إيران وليصل إلى أحد أقوى حلفائها وهو العراق، البلد الذي كان يطلق سراح ملايين الدولارات العراقية في البنك الفدرالي الأمريكي بتوقيع رئيس الوزراء ووزير ماليته، إلا أنه حُرم الآن من هذه النعمة، الدولارات الأميريكية لا تخرج من حساب العراق لدى الفدرالي الأمريكي إلا بقرار من واشنطن وليس من بغداد.
السبب هو منع عبور أوراق الدولار الخضراء نحو بلدان تشك واشنطن بأنها تتحايل على الحظر الغربي فتنقل العمل الصعبة إلى هناك حيث تُشترى ورقة المائة دولار بملايين الأوراق النقدية للعملات المحلية لمحور المقاومة.
العراق يتعرض لخسارة كبيرة نتيجة السياسة الأمريكية الجديدة، بل إن هناك مخاوف حقيقية لدى قوى المقاومة المسيطرة على حكومة بغداد من تحول أزمة ارتفاع أسعار الدولار في البلاد إلى بداية لانهيار الوضع الاقتصادي وعودة الاحتجاجات الشعبية فتضطر حكومتها إلى الاستقالة على نفس طريقة استقالة حكومة عادل عبد المهدي عام 2019.
لن يستطيع العراق ولا أي دولة في العالم التخلص من النفوذ والسطوة الأمريكية، لذلك يُنتظر من هذه الدول التعامل بواقعية مع الدولة الأعظم حالياً، لا تنفعنا خطابات الانتصارات العسكرية، فهي ضئيلة أما القوة الجارفة للاقتصاد والنفوذ الأمريكي، ومن يستطيع تأسيس اقتصاد قوي يمكننا وصفه بالمنصر، أما إسقاط طائرة هنا وتفجير دبابة هناك فهي مفيدة في مواضع معينة لكنها لن تنفعنا الآن في حل مشكلتنا مع توحش الدولار بوجه فقراء العراق.
كما أن أزمتنا الحالية لا تحلها خطابات تتهم الولايات المتحدة بالتآمر ومحاولة إسقاط حكومة السوداني، علينا البحث عن حلول في ظل شيطانية الولايات المتحدة كما تصفها الفصائل الشيعية، وأن نعالج الموقف قبل ضياع الوقت.
بالنهاية الانتصار الحقيقي هو اعادة قوت الفقراء ودنانيرهم إلى جيوبهم، ولا يمكن استعادتها إلا بالتركيز على الخطط الاقتصادية والمفاوضات السياسية مع الولايات المتحدة لوقف نزيف الدينار، وإذا أوقفنا النزيف سوف ننتصر وتنتصر شعوبنا.
والإنتصار الاستراتيجي الأكبر يتمثل بتأسيس اقتصاد قوي قادر على مواجهة التحديات المحلية والدولية، لكن هذا بعيد المنال ولا يفهمه من يقودون العراق الآن.
اضف تعليق