فشل كل رؤساء الحكومات السابقة في تحقيق وعودهم باستقرار تجهيز الطاقة الكهربائية لأسباب تتعلق بالأزمات السياسية والتخلف الإداري، فهل استطاع السوداني حل المشكلات السياسية والإدارية التي تعيق انتاج كهرباء مستقرة؟ الجواب نحصل عليه في صيف عام 2023، فهو أفضل صحفي استقصائي يربط بين ما يقال في البيانات الرسمية وما موجود على أرض الواقع...
يمكننا اختصار الحديث عن تناقضات العراق باستعارة وصف الشاعر بدر شاكر السياب لهذه البلاد العريقة بقوله: "يا بلاد المياه يا بلاد الظمأ"، فهي بلاد محيرة، إنها وفيرة الموارد وشعبها فقير، كثيرة المبدعين لكنها متأخر عن قطار الحضارة العالمي، ومن تناقضاتنا امتلاكنا لكل مقومات إنتاج الطاقة الكهربائية من نفط وغاز وأموال وكفاءات بشرية إلا أننا بلاد تحلم باستقرار التيار الكهربائي منذ عام 1991 وحتى الآن.
إصلاح الكهرباء بالنسبة لنا مثل حلم مستحيل، وزارة الكهرباء مقبرة للوزراء كما هي مقبرة للمال، وبها تقاس جودة الحكومة وكفاءتها، تنفق الحكومات المتعاقبة المال وتبرم عقوداً كلفت خزينة الدولة عشرات المليارات، والحديث المتداول في وسائل الإعلام والأوساط الرسمية يتراوح في حدود الستين والثمانين مليار دولار منذ عام 2003.
وزرائها مسخرة عند الشعب كما هم هدف مباشر لنيران الغضب الشعبي بسبب استمرار مشكلة انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة خلال اليوم، وما يزال الشعب العراقي يتذكر التصريح الشهير لنائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة في حكومة نوري المالكي الثانية السيد حسين الشهرستاني، التي قال فيها إن الحكومة لن تحل مشكلة الكهرباء فحسب، بل ستقوم بتصديرها.
أطلق الشهرستاني تصريحاته في الأول من أبريل نيسان عام 2012، في سياق إعلانه عن توقيع الحكومة لعقود تمهد لرفع قدرة العراق على إنتاج الطاقة الكهربائية محلياً إلى حدود 20 ألف ميغاواط، مقارنة بنحو 15 ألف ميغاواط يتوقع أن يصل إليها الإنتاج نهاية هذا العام.
في ذلك العام (أي 2012) وَعَدَ الشهرستاني بتجهيز الشبكة الوطنية بنحو تسعة آلاف ميغاواط، مقابل الطلب الحالي (عام 2012) البالغ نحو 14 ألف ميغاواط، وهذا يعني تقلص نقص التجهيز بحدود خمسة آلاف ميغاواط.
ليس هذا هو المأمول من خطة الحكومة، كانت تأمل أن يصل إنتاج الكهرباء نهاية عام 2013 إلى 20 ألف ميغاواط. (في 2023 ينتج العراق 24 ألف ميغاواط وحاجته الفعلية 30 ألف ميغاواط).
لو وصل العراق إلى هذا الهدف كان بمقدوره تلبية حاجة البلاد من الطاقة بالكامل، والحديث هنا للشهرستاني، بل ونسعى (كما قال الشهرستاني) إلى تصدير الفائض إلى الأسواق المجاورة.
بعد إحدى عشرة سنة تحولت مقولة "تصدير الكهرباء" إلى وسيلة للتندر وانتقاد الحكومات المتعاقبة في العراق لكونها تقول ما لا تفعل.
اعتاد الشعب العراقي على أزمة الكهرباء، لم يعد الأمر خياراً يمكن تغييره أو المطالبة به، إنما هو مصير محتوم، "الكهرباء لا تتحسن"، ولا تسأل عن الأسباب أو الحلول المقترحة، فقد تحدث الجميع عن مسارات الأزمة ولم نتقدم.
كلام من هذا النوع الذي نكتبه في مقالاتنا ومنشورتنا عبر مواقع التواصل يقرأه رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني ويعرف الكثير من تفاصيله والآلام التي يسببها للعراقيين، لذلك يقول بأنه وضع ملف إصلاح قطاع الكهرباء ضمن أولويات حكومته.
سافر إلى ألمانيا يوم الخميس (12 كانون الثاني يناير 2023) برفقة وفد حكومي رفيع ووقع مذكرات تفاهم مع شركة سيمنز الألمانية لتطوير قطاع الكهرباء في مجالات الإنتاج والنقل والتوزيع.
لا أريد الخوض أكثر في تفاصيل المذكرة بين الجانبين العراقي والألماني، أهل الاختصاص أدرى بالأمور الفنية، وهم يعرفون أن الجوانب الفنية للكهرباء تمثل جزءاً من المشكلة وليست كلها، ففي هذا الجانب لدينا نقص في الانتاج، وفي نفس الوقت لدينا أزمة في النقل، وأزمة ثالثة في التوزيع.
ومع الجوانب الفنية لدينا مشكلات إدارية لا تتعلق بوزارة الكهرباء فقط، بل تحتاج إلى إصلاح المنظومة الإدارية برمتها في العراق، وبما يضمن تأسيس نظام إداري أكثر كفاءة في تسيير أمور الدولة العراقية.
والمؤكد أن الحكومة لا تملك هذا البرنامج لإصلاح الإدارة العامة في البلاد، لأنه مرتبط بجانب أهم وهو إصلاح المنظومة السياسية، لأن غالبية المشكلات التي تضرب الإدارة مرتبطة بفشل السياسة وانتشار المحاصصة والمحسوبية والفساد.
لقد وصلنا إلى قاع الفوضى الإدارية لدرجة أن أوامر رئيس الوزراء وتوجيهاته لا تتحول إلى تطبيقات على أرض الواقع، بل تُرفض أو لا ينفذ اغلبها من قبل العاملين في القطاع الحكومي، وهذه المشكلة اعترف بها رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني خلال لقاء تلفزيوني قبل تشكيله الحكومة بأيام.
نتفق تماماً مع ما قاله المدير التنفيذي لقسم الطاقة في شركة سيمنز كريشتن بروتش إن "الطاقة المستمرة والمعتمد عليها هي الأساس للاستقرار المجتمعي بأي دولة"، لكن السؤال الأهم هو كيف نجعل الطاقة مستمرة؟
هل بالتعاقد مع سيمنز الألمانية؟
أبرمنا مع سيمنز وجنرال إلكتريك عقوداً ضخمة، ولا يكاد يأتي رئيس وزراء إلا ويوقع عقوداً مع هاتين الشركتين، والكهرباء هي ذاتها (نصف اليوم أو أقله تجهيز ونصفه الآخر يعتمد على المولدات الأهلية).
فشل كل رؤساء الحكومات السابقة في تحقيق وعودهم باستقرار تجهيز الطاقة الكهربائية لأسباب تتعلق بالأزمات السياسية والتخلف الإداري، فهل استطاع السوداني حل المشكلات السياسية والإدارية التي تعيق انتاج كهرباء مستقرة؟
الجواب نحصل عليه في صيف عام 2023، فهو أفضل صحفي استقصائي يربط بين ما يقال في البيانات الرسمية وما موجود على أرض الواقع.
اضف تعليق