الإصلاح لا يأتي من فراغ، بل عبر الوعي والتخطيط والكفاءة والقدرة على تحقيق الإصلاح، كما ان له مقومات واسس وفق موازين لا يمكن الاخلال بها او تجاهلها، فالسعي وفق المعطيات المطلوبة يعطي النتائج المرجوة، اما الاعتماد على الماضي والاستمرار في تجهيل المجتمع ومنع أي عملية اصلاح او تطوير...
ان الحاجة الى الإصلاح في مجتمعاتنا الإسلامية هي حاجة ملحة وضرورية لأسباب عديدة قد نتلمس البعض منها في حياتنا اليومية ونغفل عن الكثير منها، فعندما نرى مظاهر التخلف والجهل وتراجع جودة التعليم وانعدام الحريات العامة، وسيطرة النظم الاستبدادية، وغياب الشورى، وعسكرة المجتمع، وتردي الخدمات، وعدم وجود البيئة الامنة للإبداع والتطور، وتفشي الفساد، هي المظاهر السائدة في المجتمع نعرف ان ورائها أسباب أدت الى هذه النتائج الكارثية في مجتمعات ما زالت تمتلك من المقومات والأسباب ما يجعلها في صدارة الأمم والحضارات كما كانت في السابق.
ينبغي ان ندرك ان الإصلاح يأتي اولاً عبر الاعتراف بوجود المشكلة، بمعنى التشخيص، والا سيكون مجرد كلام او شعارات لا قيمة لها ولا وزن، فالاعتراف يعني السعي الى تشخيص مكامن الخلل، وتحليل الأسباب، وصولاً الى إيجاد الحلول، والاليات المناسبة لتطبيقها على ارض الواقع، ثم يأتي التقييم بعد ذلك لمعرفة حجم ونوع التطور، واهم المعوقات التي قد تعترض سبيل الحل، من اجل تحديث عمليات الإصلاح لحظة بلحظة، اما البقاء على نفس الوضع والقبول به، والركون الى السكون وانعدام الحركة، فهذا يعني الاستسلام الى الواقع وانتظار الموت.
ولا يعني السعي الى الاصلاح الانسلاخ (من/عن) ماضينا وحضارتنا وتراثنا وقيمنا وافكارنا وثقافتنا بكل تفاصيلها وتفرعاتها، فهي الوقود والمحرك لكل نشاط إصلاحي او حركة تسعى للتخلص من واقع أجبرت للعيش فيه، خصوصاً إذا كان الفرق شاسعا بين المظهر والجوهر، أضف الى ذلك، ان تختار الإصلاح وانت مؤمن بالقيم الإصلاحية التي تسعى لتطبيقها حتى اخر نفس في حياتك، يختلف تماماً عن التغني بماضي تليد وحضارة عظيمة وانت تعيش في كهف مظلم لا ضوء فيه.
ان أولى الخطوات نحو الإصلاح، بل وقبل الشروع فيه، كما يحددها المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي تتعلق بالقائمين على الإصلاح كما يقول: "وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلا فإن: فاقد الشيء لا يعطيه"، ويرى الشيرازي ان التخطيط العام لإصلاح المجتمع يبنى على دعائم وهي عديدة منها:
1: الإيمان.
2: توزيع القدرات (العلم والحكم والمال).
ويضيف (رحمه الله): "فإذا حصلت الموازنة الصحيحة بين المعنويات (الإيمان والعلم) والماديات (المال والحكم) لم ينزلق المجتمع في مهاوي الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة"، وهذا التشخيص يعطيك القدرة على التحرك في المساحة الصحيحة لتحقيق التوازن المطلوب للإصلاح بين المعنويات والماديات، وبالتالي القدرة على تصحيح المسارات الخاطئة التي تؤدي الى ميلان كفة على حساب الأخرى، ولا يتحقق هذا الامر الا من خلال توفر "الكفاءة" و"القدرة" لانهما من مقومات الإصلاح الاجتماعي الناجح في أي مجتمع يسعى الى النجاح، مثلما سبب تهميشهما ارتفاع نسبة المشاكل في مجتمعاتنا الإسلامية: "الكفاءة والقدرة هي من مقومات الإصلاح الاجتماعي، وما نراه اليوم من كثرة المشاكل في بلاد المسلمين فإن من أسبابها عدم القدرة والكفاءة القيادية".
كما يقسم الامام الشيرازي المجتمع الى (مجتمع صغير) و(مجتمع كبير) حيث: "يشكل الناس في هذه الحياة من حيث انتسابهم إلى العائلة أو المدرسة ونحوها مجتمعاً صغيراً، وهذه المجتمعات الصغيرة باندماجها مع بعض تكون مجتمعات كبيرة"، وبالتالي فان "العائلة" التي اعتبرها الأساس او اللبنة الأولى في المجتمعات الصغيرة التي يضمن إصلاحها اصلاح المجتمعات الكبيرة، لأنها الجزء الأهم من أجزاء المجتمع التي ينبغي التركيز عليها بشكل خاص.
ويحدد الشيرازي المسؤوليات في اصلاح المجتمع الصغير في قوله: "والمجتمع الصغير تقع مسؤولية إصلاحه على الأب والأم والمعلم، فاللازم على الأبوين أن يتعاملا مع الأطفال تعاملاً متزناً يجمع بين العقل والعاطفة معاً، بدون إهمال أو تشديد، حتى تستكمل التربية جميع جوانبها العقلية والعاطفية، لأجل أن يستشعر الطفل بالأمن والاستقرار النفسي، وفي الوقت نفسه يعلمانه النظام والانضباط والنظافة والأدب والعمل، وحب الآخرين والمشاركة الإيجابية معهم، وعدم الاستبداد بالرأي، وألا يكون أنانياً".
أما إصلاح المجتمع الكبير فيرى بانه: "من أكثر الأمور تعقيداً وخطورة، إذ تتداخل في إصلاحه وتغييره نحو الأحسن عوامل كثيرة، منها: عامل الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والعمران، والتربية، هذا النوع من الإصلاح بحاجة إلى تخطيط عام وبرنامج كامل يشمل أموراً وجوانب متعددة ويعالج المشاكل من جذورها".
ان إعادة المجتمع نحو الصلاح، بحسب ما يرسمه السيد الشيرازي، تعتمد على أسس خمسة وهي:
1. التنظيم واحتواء الجماهير: ولأن أساس كل تنظيم وإصلاح هو الجماهيرية، فلابد من التوجه إلى الجماهير، لأنها المبدأ والقاعدة، وكل حركة اتخذت الصنمية والفردية والأنانية والاستبداد انفصلت عن الجماهير وكان مصيرها السقوط الحتمي.
2. التوعية العصرية: التوعية المناسبة والمواكبة للعصر، بعد الإيمان بالله تعالى وبرسله، هي الرشد والنضوج والفهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من الأمور المرتبطة بإدارة البلاد والعباد.
3. السلم: من شروط إصلاح المجتمع اتخاذ منهج السلم واللاعنف، أما العنف فهو سبب للفساد والإفساد.
4. شورى المرجعية: وهذا أمر واقعي سهل المنال إن وعت الأمة ذلك الأمر وعياً سياسيا دينيا، فإن في هذا الأسلوب تحكيم عبر الانتخابات الحرة للفقهاء المراجع الذين هم نواب الأئمة بملء حرية المجتمع، بدون ديكتاتورية الدولة وتسلطها على المرجعية، وبمعاونة أهل الخبرة الذين يعتمد عليهم المجتمع، لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وحينئذ لا يكون ضغط في التقليد أيضا، فإذا أراد جماعة من المجتمع أن يقلدوا مجتهدا آخر غير من هو في السلطة العليا يكون لهم ذلك بدون مزاحم.
5. الاكتفاء الذاتي: فالحاجة الاجتماعية حاجة متبادلة وضرورية لإقامة المجتمع الإنساني وديمومته، أما الحاجة التي تفقد شخصية صاحبها، وتجعله ينقاد إلى الآخرين، ويستسلم لإرادتهم، فهي التي لا ينبغي أن تكون عند المؤمن، لأنها تذله وتدمر شخصيته، وتسلب صفة القيادة عنده، وتفقده استقلاليته، فيلزم علينا أن نحرر شعوبنا الإسلامية، وذلك بتنمية قدراتنا وطاقاتنا وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
الخلاصة ان الإصلاح لا يأتي من فراغ، بل عبر الوعي والتخطيط والكفاءة والقدرة على تحقيق الإصلاح، كما ان له مقومات واسس وفق موازين لا يمكن الاخلال بها او تجاهلها، فالسعي وفق المعطيات المطلوبة يعطي النتائج المرجوة، اما الاعتماد على الماضي والاستمرار في تجهيل المجتمع ومنع أي عملية اصلاح او تطوير بحجج واهية تخدم مصالح معينة فهو ما يؤدي الى تراجع مجتمعاتنا نحو الخلف وترك زمام القيادة والتقدم لمجتمعات أخرى تتحكم بكل عوامل القوة في الاقتصاد والسياسية والثقافة والعلوم والتكنولوجيا وغيرها لصالحها من اجل ضمان استمرار تفوقها.
اضف تعليق