كنت البارحة في الساعة الثانية عشرة ليلا أتابع أخبار قناة (BBC) الإخبارية الانكليزية؛ التي كانت تنقل مقاطع تدمي القلب من معاناة المهاجرين العراقيين والسوريين غير الشرعيين؛ الذين تعرض الكثير منهم للموت غرقا، هؤلاء الذين هربوا من ظلم الحكومة العراقية المشغولة بهمومها عن مصلحتهم، ومن ظلم داعش التي ولغت بدماء الأبرياء وهتكت الأعراض، وسلبت المال، وسبت النساء، وهددتهم بالموت هم وأطفالهم ونسائهم، فبت وأنا كمن تجرع سما زعافا، أتقلب كالملسوع، وقد جافاني النوم.
وفي تمام الساعة الرابعة من صباح هذا اليوم، نهضت متعبا بعد أن أنهكني الأرق، فاديت صلاة الصبح، وجلست لأكتب كعادتي، فعادت ذكرى المهاجرين إلى خاطري، مما أعجزني عن الكتابة، فقررت أن اقرأ لأشغل نفسي، وصدف أن كتاب (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) للحافظ ابن حجر العسقلاني، كان أمامي على المكتب، فاخترته، وفتحت صفحة عشوائية منه، وإذا بي أفاجأ بحديث، عن جرير البجلي، قال: قال رسول الله (ص): "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين".!
واه وألف واه علينا إذا، خسرنا الدنيا والآخرة، وتبرأ منا رسول الله (ص) ولا أدري كيف، إذ تضطرنا الحياة لنهرب من أوطاننا للنجاة بأنفسنا، وتغلق الدول العربية المجاورة المستقرة أبواب حدودها بوجوهنا، وتمنع دخولنا، ولا يبقى لنا إلا الموت ذبحا على يد الدواعش، أو الهجرة والإقامة بين اليهود والنصارى؛ الذين يسميهم الفقهاء البطرون (المشركون)، والذين رحبوا من قبل بآلاف منا، هربوا إليهم من جور الطغاة، فاستقبلوهم وأكرموهم وأغاثوهم وأحسنوا إليهم.
وتعظم المصادفة حينما تعرف أن أغلب السياسيين الذين يقودون البلد اليوم هم من الذين أقاموا بين ظهراني (المشركين) الطيبين الكرماء العقلاء الإنسانيين، وعاشوا على راتب المعونة الذي كانوا يقدموه لهم، وكانت كرامتهم محفوظة وجيوبهم مملوءة وبطونهم متخمة وأنفسهم مصانة.
إن ما يمر به عالمنا العربي اليوم من هرج ومرج وقتل وهتك أعراض ومصادرة حريات، جعل الناس كلهم يفكرون بالهجرة، والشجاع الجريء المجازف منهم، باع كل ما يملك ودفعه إلى المهربين لكي يوصلوه هو وعياله إلى دول (المشركين) ليعيش بسلام ونعيم بينهم بعيدا عن إخوته من المسلمين؛ الذين لم يرحموه، ولم يمدوا له يد العون.
إن الذين هاجروا لم يكونوا بعيدين عن معرفة أو سماع هذا الحديث ومع ذلك، أقسم أنه لو فتحت دول (المشركين) الرحيمة أبواب الهجرة، ورحبت بكل القادمين إليها، لرأيت بلداننا قد أقفرت من الناس، دون أن يلتفت أحد منهم إلى حديث جرير البجلي.!
فهل سيتبرأ رسول الله (ص) من هؤلاء جميعا باعتبار أنهم سيقيمون بين (المشركين) الطيبين لمجرد أنهم حاولوا البحث عن بلد يحفظ كرامتهم؟
أليس من المفروض أن يتبرأ النبي أولا (ص) من الإسلام المعاصر؛ الذي امتنع بكل أهله وكل بلدانه وكل خيراته أن يقدم لهم أبسط معونة ممكنة تحفظ لهم كرامتهم في يوم محنتهم؟
وهؤلاء الذين هاجروا وسلموا من الموت غرقا بعد طول معاناة، هل تعتقدون أنهم سيبقون على ولائهم للإسلام والمسلمين، وأنهم إذا سمعوا حديث البجلي، سيرجعون إلى بلدانهم لكي لا يتبرأ منهم النبي؟
إن هذا الحديث لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا ما نجحت حكومات البلدان الإسلامية بمعاملة المواطن بنفس الأسلوب الذي يعامله به أهل البلاد الأجنبية؛ التي يحل ويقيم فيها، أما مع كل ما يحدث، فإني أتبرأ من كل من يستطيع الهجرة إلى بلدان المشركين ولا يهاجر.!!!
اضف تعليق