هناك طريقتان رئيسيتان في النظر الى العالم. النظرة الحديثة والنظرة التقليدية. سبب وجود نظرتين اثنين فقط هو لأن جميع الطرق الاخرى هي اشكال مختلفة لهاتين النظرتين.
النظرة التقليدية هي الطريقة التي نظر بها الانسان الى العالم منذ البداية. هي نفس طريقة الامريكيين الاصليين والاستراليين الاصليين والامبراطورية الصينية والامبراطورية الهندية والفارسية ومصر القديمة والانكاس والحضارة الاسلامية والمسيحية (قبل التنوير) وجميع المجتمعات الانسانية الاخرى.
الطريقة الثانية – النظرة الحديثة للعالم – هي الطريقة التي بدأ بها الناس في اوربا النظر للعالم بعد القرن السابع عشر (التنوير).
هذه الحركة بدأت في اثينا القديمة في ظل حكم القائد الديمقراطي بركليس واكتسبت زخما خلال الحضارة "الكلاسيكية". لكنها لم تتطور الى نظرة حديثة حقيقية للعالم – اي الى النقطة التي لم يعد بها الناس يفكرون بالطريقة التي فكروا بها طوال تاريخهم.
ومع سقوط روما، سقطت النظرة الكلاسيكية ولم تُبعث مرة اخرى الى ان جاء عصر النهضة – الذي يعني "اعادة احياء" ويشير بشكله الأدق الى اعادة احياء الحضارة الكلاسيكية. ومن هنا بدأت النظرة الحديثة تتبلور بشكل اكثر وضوحا.
ولكن حتى اثناء عصر النهضة بقي الناس يعتقدون كثيرا بالرؤية التقليدية للعالم، ولم تبدأ الرؤية الحديثة للعالم الاّ في المرحلة التي سميت بـ"التنوير" في منتصف القرن السابع عشر.
ما هي الرؤية التقليدية للعالم؟
باختصار، ان احدى السمات الرئيسية المشتركة التي تميزت بها مختلف الحضارات التقليدية هي انها رأت الكون ككل مفكر وقابل للادراك. هي لم تقل لنا، كما قالت مؤخرا الرؤية الحديثة للعالم:
"هل تستطيع توضيح تصورات الانسان فيما يتعلق بموضوع الشمس والقمر؟ انهما بلا معنى، طالما ان الشمس كرة هائلة من الغاز المشتعل والقمر ليس الا جرما يدور باستمرار حول الكوكب".
الرؤية التقليدية للعالم تؤمن بان جميع الاشياء لها معنى، وان الشمس والقمر يجسدان المبادئ الرئيسية التي تحكم الكون.
هل يمكن اعتبار هذا نوعا من الجهل؟ وان الناس لم يفهموا الغاز او القمر؟ هذا بالطبع ما تحاول ترسيخهُ بروبوغندا ما بعد "التنوير". العديد من المجتمعات التقليدية لا تعرف الكثير عن الخصائص المادية للكون، لأنها ليست ضمن اهتمامها الرئيسي. من جهة اخرى، هناك القليل جدا من تلك المجتمعات عرفت مقدارا مدهشا عن الحقائق الفيزيائية لكنهم ادركوا بانها فقط اشارات خارجية للمبادئ الأبدية – وليست مجرد "احداث" فيزيائية كما يتصورها العقل الحديث.
حدود الطريقة العلمية
ان "التنوير" جاء بمذهب جديد، بدأت تتشكل معه الرؤية الحديثة للعالم. هذه العقيدة تقوم على اساس ان الاحاسيس الفيزيقية هي وحدها المصدر الوحيد للمعرفة الاكيدة. بعملهم هذا هم رفضوا الايمان بحكمة كل الانسانية المتوفرة امامهم. هم اعتقدوا بان الطريقة العلمية و"الدليل" هما المصدر الوحيد للمعرفة. ولكن ما هي الطريقة العلمية؟ هي نظام للإدراك يتألف من الملاحظة، الفرضية، التجربة، التنبؤ، النظرية. انها ترتكز على منطق ومشاهدات العالم المادي وخصائصه. انها تستبعد كل ما هو متجاوز او موجود بشكل مستقل عن الكون، ولهذا فان الطريقة العلمية لا تستطيع اكتشاف ما هو خارج العالم المادي طالما هي ترتكز على ملاحظة الاشياء فقط من داخل هذا العالم.
ديكارت تبنّى منهجا جديداً في الشك الحديث، وهو كان مفكرا راديكاليا. هو قال اننا في النهاية لا نستطيع التأكد من اي شيء، بما في ذلك دليل حواسنا. كل ما نستطيع معرفته على نحو مؤكد، دون الاعتماد على الحكمة التقليدية، هو "انا افكر اذاً انا موجود". هو كان صائبا تماما. اذا كنّا نشك شكا حقيقيا، فان المنطق يفرض علينا ان لا نمنح استثناءاً خاصا لمعطيات الحس او لدليلها المفترض.
ومع حلول التنوير وُلد "المذهب "التجريبي"، واصبح "الدليل" المادي هو الاساس الوحيد لأي معرفة ممكنة بينما نُبذت جانبا وبقوة كل الحكمة الانسانية المتراكمة منذ آلاف السنين.
كان هذا قرارا عشوائيا خالصا بامتياز. انه اصبح طريقة في الايمان. طريقة واحدة محددة ترسخت بعمق في الوعي الجمعي الحديث وحيث لا يمكن تصور اي طريقة اخرى غيرها، وعندما يرون هناك طريقة اخرى، هم يدّعون انها تثبت صحتها عبر امتثالها لمتطلبات طريقتهم.
ادّعاء الدليل المادي لأشياء غير مادية هو اتجاه خاطيء بسبب ارتكاب ما يسمى "خطأ التصنيف" category mistake الذي يوضع فيه صنف معين من الاشياء ضمن صنف آخر لا علاقة له بالاول، كما لو نحكم على جمال اللوحة طبقا لوزنها، اذ ان صنف الجمال لا يتقرر بصنف الوزن.
اضف تعليق