الإسلام يركز على تحرر الانسان من القيود المادية عبر تهذيب النفس وزرع الاخلاق والقيم النبيلة فيها، إضافة الى الاستفادة من الجانب المادي بقدر ما يخدم الانسان ويوفر له الراحة والسعادة والامن والرفاه. الانغماس في أحضان المادية سيخلق مجتمعات خالية من معاني الإنسانية والتسامح والاخاء، واجيال لا تؤمن بضرورة التعايش...
يعيش الانسان حالة من الصراع الدائم بين الجانب المادي والمعنوي، الذي يتشكل منهما، خلال مسيرته في هذا الدنيا بحثا عن السعادة المنشودة، ولان الانسان خليط بين هذا الجوهر والمظهر، يبقى هذا النزاع والتجاذب قائم حتى ينتصر طرف على حساب الآخر في نهاية المطاف، وهذا الانتصار سيحدد بطبيعة الحال السلوك الإنساني الذي سيتبعه، والجانب الأخلاقي في تعامله، والمبادئ التي سيؤمن بها، وهل سيتحول في النهاية الى انسان حر يملك السعادة والاطمئنان والنجاح ام الى مجرد تابع يهضم أفكار الاخرين، ومقلد لا يمكنه التحرر من القيود التي فرضت عليه.
هذا الصراع في حقيقة الامر هو جزء من سعي الانسان للبحث عن جوهره وسبب خلقه وما اودعه الله (عزوجل) فيه من إمكانيات هائلة، وقوة عظيمة، واسرار كبيرة، وطاقات لا يمكن الإحاطة بها او تحديدها، وبين المظهر الباحث عن الماديات واللذة السريعة والنزوة الزائلة التي يختلط فيها المسموح والممنوع والحلال والحرام، وبالتالي فان الوصول الى التوازن هو ما يسعى اليه الانسان الحر، الانسان الذي تحرر من القيود الوهمية المفروضة عليه نتيجة للتحولات السريعة التي يشهدها عصرنا الحالي.
يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، وهو معنى دقيق للتوازن الذي يسعى اليه الانسان المدرك لحقيقة الاختلاف والاشتباك بين المادية والمعنوية، وهذا المعنى يتكرر كثيرا في القران الكريم لإيصال الرسالة الى الانسان في ضرورة تحقيق التوازن والوسطية والاعتدال في مختلف جوانب الحياة وعدم الميل الى جهة على حساب الآخر فيؤدي الى اختلال هذا الميزان وبالتالي الوصول الى حالة من الحسرة والندم، فعلى سبيل المثال ولتحقيق التوازن في الجانب الاقتصادي يقول تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، وهناك الكثير من الآيات المباركة والاحاديث والروايات الشريفة التي دلت على هذا المعنى.
اذن ينبغي ان يدرك الانسان إذا أراد النجاح في حياته وتحقيق السعادة التي يسعى اليها بان قيمته: "ترتبط بروحه ونفسه أولاً، لا ببدنه المادي فحسب"، وفي ذات الوقت لا ينبغي نكران او تجاهل الحاجات المادية التي هي من الحاجات الضرورية والاساسية لدى الانسان ايضاً، لكن الأهم كما يقول الامام الراحل السيد محمد الشيرازي هو انه: "لابد من ان يرتفع الانسان معنويا أولا ثم يرتقي ماديا ثانيا"، خصوصا ونحن نعيش في زمن مادي بامتياز لان: "هذا العصر الذي نعيش فيه الان هو عصر السرعة والتقدم، وعصر النمو والازدهار المادي، وهو يمضي نحو الامام بسرعة الضوء كالبرق الخاطف، وفرصة العمر في هذا العصر قيمة وثمينة، فلا بد من اغتنامها واستغلالها واستثمارها بالكيفية الصحيحة"، خصوصا اذا مالت كفة المادية لدى الانسان وأصبحت هي الجوهر، والفلك الذي يدور حوله، اذ: "ان الانسان كلما تقدم في الحضارات المادية وزادت معارفه، تعددت أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها أكثر فأكثر، وزاد حرصه وتشعبت مسالك طموحاته، ولذا يطلب الانسان أكثر من القدر المحتاج اليه".
فلا بد للإنسان ان يكتشف خلال حياته الطريق الأقرب الى تحقيق هذا التوازن بين الجوهر والمظهر الذي يشكله، او بين المعاني الروحية والاشياء المادية في حياته، فخلال رحلة البحث والتقصي قد يصل الانسان الى الغاية المنشودة، والى الحقيقة الضائعة، والسعادة التي يبحث عنها، بينما قد يضل اخرون طريقهم وينغمسوا في ملذات زائفة تؤدي الى هلاكهم وتأكلهم من الداخل، وفقدانهم لجوهرهم وانسانيتهم.
يقول الامام الشيرازي (رحمه الله): "يهتم علماء الدنيا من المخترعين والمكتشفين والأطباء ومن أشبه بتقديم الخدمات المادية للمجتمع الإنساني، أما الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) وعلماء الدين، فإنهم مضافاً إلى ما يقدمونه لسعادة البشر مادياً، يهتمون بالجانب الروحي أيضاً الذي هو أهم من الجانب المادي بكثير"، إذا يعتبر الشيرازي ان اهم الفوارق والاختلاف بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان وبين تهذيب الشريعة الإسلامية هو: "ان تهذيب الانسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين"، وبالتالي فان الإسلام يركز على تحرر الانسان من القيود المادية عبر تهذيب النفس وزرع الاخلاق والقيم النبيلة فيها، إضافة الى الاستفادة من الجانب المادي بقدر ما يخدم الانسان ويوفر له الراحة والسعادة والامن والرفاه.
والخلاصة فان الانغماس في أحضان المادية سيخلق مجتمعات خالية من معاني الإنسانية والتسامح والاخاء، واجيال لا تؤمن بضرورة التعايش والانسجام والتعاون بين البشر، وهذا ما سيجلب الدمار والفقر والعنف والاستبداد للجميع، وسيحول العالم الى مكان يعج بوباء المادية وغير صالح للسكن.
هذا التطرف المادي يقابله التطرف المعنوي في الجانب الاخر، فالابتعاد عن العمل، ومنع السعي في هذه الدنيا او الاجتهاد فيها، خوفا من الوقوع في المحذور، سيحول الانسان الى شيء لا قيمة له او وزن، ولن يحقق له السعادة التي يبحث عنها، بل سيحول حياته التي عاشها الى مجرد خسارة بلا ربح.
وبالتالي فان الانسان الحر هو الانسان الذي يبحث عن الوسطية والاعتدال في كل خطواته وتحركاته وقرارته، كما يسعى لتحقيق التوازن بين متطلبات حياته المادية وقِيمهُ المادية من اجل النجاح في حياته، وتحقيق السعادة الروحية والمادية والتوازن بينهما.
اضف تعليق