حراس الحقيقة أنفسهم فشلوا في صد الهجمات المتعددة ضدها، جرفهم التيار فصاروا ضمن معسكر التجهيل سواء بقصد أو بدون قصد، الصحافي والباحث الأكاديمي، ومن على شاكلتهم الكثير سقطوا في الاختبار، تخلى الصحفي عن رفيقته "الحقيقة" جعلها ضحية تنهشها أنياب الشعبوية والبروباغندا السياسية، حمل الكثير من الصحافيين راية الشعبوية لمجاراة عامة الناس...
أنت صحفي، أنت باحث أكاديمي، محلل سياسي، أو إنسان مهتم بقضايا الفكر والعلم، لا تستطيع الولوج إلى هذه العوالم بدون رفيقة لدربك، تستأنس معها في الليالي الصعبة، تحتضنك في عزلتك حيث يهجرك الجميع، تضع اسمك على عرش التأريخ.
أي رفيقة هذه التي تضع عاشقها على مسار التأريخ؟ ما هي مواصفاتها؟ وهل يمكنني ملامستها؟
نطرح السؤال على العالم الانجليزي إسحق نيوتن لأنه يعشقها بشدة، يجيب:
إنها أعظم من أفلاطون رغم كونه صديقي، أرسطو أيضاً صديقي، لكن أعظم أصدقائي هي، إنها الحقيقة.
نيوتن على حق، لو فضل صديقه أفلاطون على حساب صديقته الحقيقة كان مصيره النسيان حيث لا قداسة للمفكرين القدماء، نعم نحترمهم، نذكر مقولاتهم، لكننا نخضعها للاختبار، ما يصلح منها للعصر نستخدمه، وما لا يصلح نستبعده، أو نبقيه كتراث علمي فقط.
نيوتن يريد أن يذكرنا بأن الفكرة يجب أن تبقى مستقلة عن قائلها، والغاية في البحث العلمي هي الوصول إلى الحقيقة وليس رفع شأن عالم معين، أو التقليل من شأن شخص آخر كان معارضاً لها.
في عصرنا الراهن حيث يعيش الإنسان على منجزات الحقيقة نشعر وكأننا نسير عكس حركة التأريخ، نشن الحرب ضد الحقيقة بأدوات لم يصنعها سوى أصدقائها، أصبحت لدينا عوالم جديدة، اقتربت المسافات، لدينا القدرة على عبور الحواجز ومشاهدة الشعوب الأخرى، العالم قرية صغيرة، بنقرة زر تستطيع الوصول إلى حيث تشاء، كل ذلك بفضل علماء خاضوا صراعاً مريراً مع الجهل والأفكار المتجمدة ليكشفوا لنا عن حجم الفوائد الهائلة من مرافقة الحقيقة.
هناك فرق بين من يكتشف بعض الحقائق العلمية، وبين من يستخدمها، كان الإنسان يحلم بالوصول إلى أي جزء من الأرض بنقرة زر، وحينما أتيحت له الفرصة بفضل الاكتشافات العلمية، ركب صهوة منجزات العلم لنشر أنماطه الجامدة والتضليل وتزييف الحقائق.
الانسان العادي المستخدم للمخترعات العلمية الحديثة يمارس الحرب ضد الحقيقة بأشكال متعددة، يكفي أن تفتح هاتفك الذكي لترصد حجم التزوير والفبركة والواقع المصنع.
حراس الحقيقة أنفسهم فشلوا في صد الهجمات المتعددة ضدها، جرفهم التيار فصاروا ضمن معسكر التجهيل سواء بقصد أو بدون قصد، الصحافي والباحث الأكاديمي، ومن على شاكلتهم الكثير سقطوا في الاختبار، تخلى الصحفي عن رفيقته "الحقيقة" جعلها ضحية تنهشها أنياب الشعبوية والبروباغندا السياسية، حمل الكثير من الصحافيين راية الشعبوية لمجاراة عامة الناس طلباً للتفاعل حيث الأرقام والإحصائيات الزائفة معيار للإنسان في عصر التفاعل الرقمي، تغريدة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تتحول بسرعة إلى ترند، أما تغريدات العلماء لا يكاد يعرفها أحد.
حتى العلماء انجرفوا مع التيار صار لدينا تركيب جديد للمجتمع العلمي اسمه نظام التفاهة كما يسميه عالم الاجتماع الكندي آلان دونو، حيث تهتز معايير الكفاءة فيصعد إلى أعلى السلم من لا كفاءة لهم، يتسيدون المشهد في المجتمعات عبر جلب أناس آخرين مثلهم يفتقدون للقدرة على أداء الدور المنوط بهم، كل ما يملكونه جمهور يصفق.
أمثلة شتّى في مسألة انتشار "التفاهة" كما يصفها دونو في التربية والاقتصاد مروراً بظواهر العنف والفساد التي تخترق مجالات مخصصة للمدافعين عن الحقيقة كما يقول العنوان، وهم النخب الأكاديمية والعاملين في مجال الصحافة، بدأت هذه النخب تكسب سلطتها من معرفتها بأساليب وأدوات التقصي عن الحقيقية، إلا أن مخرجاتها ابتعدت إلى مجالات أخرى، في الغرب يسيطر الإعلام على تشكيل العقول بأخبار مليئة بالفضائح.
يتأمل المفكر الفرنسي جان بودريار في كتابه المصطنع والإصطناع مسألة اختفاء الحقيقة خلف جدران تدفن الواقع، في رأيه أن وسائل الإعلام لا تعرض لواقع، ولا صورة عنه، بل هي صورة جديدة يصنعها الإعلام كلياً ويسوقها على أنها تمثل الواقع.
ولدينا نحن في الشرق حيث السيادة العليا للبروباغندا والتزوير، قلة أولئك الذين صمدوا في أماكنهم وقفوا يصدون الهجمة تلو الهجمة، لكن جهودهم لا تكفي إنه فيضان من المعلومات المغلوطة، اقطع المعلومات وافصلها عن سياقها وانشرها في فيديو قصير جداً عبر "توك توك" أو "شورتس يوتيوب"، واترك الباقي للباحثين عن الإعجابات والتفاعل الوهمي.
لو كانت صديقتي لهجرني أصدقائي، وفقدت تفاعلاتي، وتعرضت للتنمر والاتهامات بالجمود وعدم فهم الواقع، لكنني لو أبقيتها صديقتي الوحيدة ودافعت عنها بشدة لن تخذلني مهما انجرف الجمهور وسيعود هذا الجمهور المتنمر للاعتذار.
كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، أعظم رفيق للحقيقة، لقب بالصادق الأمين، صحيح أنه تعرض لمختلف التحديات والصعوبات، لكنه انتصر على الحشد الجماهيري.
انتصر سقراط وغاليليو وسبينوزا وروسو وغيرهم على مجتمع اللايكات والتفاعل السريع، صحيح أن انتصارهم جاء بعد انفصال ارواحهم عن أجسادهم، لكن الحقيقة أصرت أن ترفع شأن من يرافقها وتبقيه حياً على طول مسيرة التأريخ.
هل يستطيع أي إنسان الوقوف ضد القطيع وقيمه المزيفة؟ هل نستطيع الانتصار للحقيقة؟
من الصعب علينا فعل ذلك، لكن المؤكد أننا لو فعلنا لخلدنا التأريخ.
اضف تعليق