نتائج العمل وآثاره العميقة انه يترسخ في بنية الانسان فالعمل يصنع الهوية، والهوية هي نتاج نوع وأسلوب وطريقة العمل وغايته، ونفسيته وروحيته وشاكلته وطريقة تفكيره وثقافته. إذا كان ذكيا في حياته وينظر إلى المستقبل، عليه أن ينتخب العمل الجيد الذي يساعده في تطويره الداخلي والمعنوي نفسيا وفكريا وثقافيا...
(فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ)
يًعدّ العمل من أهم المفاصل في منهج الغدير، فالعمل جوهري في الحياة وتأطيره بالقواعد الصالحة ضروري لكي يكون صالحا في الدنيا والآخرة، فكيف تم تأطير العمل في نهج الإمام علي (عليه السلام)؟
قال الإمام علي (عليه السلام) في حديث مرويّ عنه: (وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ)، إن مفهوم العمل عند الإمام علي (عليه السلام) ينظر إليه كجوهر للإنسان وكحقيقة لتحقيق ذاته، فهو مفهوم للوجود، وتحقيق للهوية وصناعتها، وبناء في طريقة الحياة، والعواقب التي تنتج عن سيرة الإنسان في الحياة.
الوجود، والحياة، والهوية، والعواقب، هذه أربع قضايا يمكن أن نلمسها بوضوح في عملية تشكيل الإنسان، وتشكيل المجتمع، فإذا أردتَ أن تفهم أي مجتمع يمكنك ذلك من خلال طريقة عمله، فالعمل هو التفاعل بين الزمن والحركة، وبالتالي ينتج الإنسان وثقافته وهويته، لذلك لابد لكل أمة أو مجتمع أن يكون لها إطار ومفهوم في قضية العمل، وإلا سوف تكون أمة فاشلة.
ماذا تعني ذخيرة الخير؟
نقلنا سابقا قول الإمام علي (عليه السلام): (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعى به رعيتك).
الذخيرة تعني ما يحفظه الإنسان وما يوفره الإنسان وما يجمعه لوقت الحاجة والعسر، ومعظم الناس يختزنون الأموال والذهب ويكتنزون الأشياء الثمينة كالذهب والفضة، والعملات الصعبة، والعقارات، كل هذا يتم حتى يحافظ الإنسان على حياته ويحمي مستقبله، فيدّخر هذه الأشياء ولا بأس في أن يكون الإنسان معتدلا مقتصدا في عملية الادّخار والتوفير.
لكن الإمام علي (عليه السلام) يرى أن أفضل الكنوز والذخائر هو العمل الصالح، فـ(قيمة كل امرئ ما يحسنه)، وقيمة الشيء تتحقق في عمل الإنسان وفي مهاراته، وفي عمله الصالح وليس بأمواله، لأن الأموال تأتي وتذهب، ولكن العمل يبقى مع الإنسان دائما، فهناك عمل صالح أو أعمال سيئة يجمعها الإنسان ويراكمها في محفظته.
العمل الصالح هو إطار لكل ما هو إيجابي وجيد، ونافع للإنسان، وفيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، وفيه تقوى وورع، وفيه خدمة ونفع للناس، وفيه ثمر للناس، وفيه عاقبة جيدة في الحياة، وفيه كلما يؤدي إلى تراكم إيجابي للإنسان.
البعد الاستراتيجي للعمل
من اهم نتائج العمل وآثاره العميقة انه يترسخ في بنية الانسان فالعمل يصنع الهوية، والهوية هي نتاج نوع وأسلوب وطريقة العمل وغايته، حيث تؤثر في صناعة شخصية الإنسان، ونفسيته وروحيته وشاكلته النفسية، وطريقة تفكيره وثقافته.
لذلك لابد للإنسان إذا كان ذكيا في حياته وينظر إلى المستقبل، عليه أن ينتخب العمل الجيد الذي يساعده في تطويره الداخلي والمعنوي نفسيا وفكريا وثقافيا، لأنها كلّها تتفاعل وتتداخل في تشكيل هويته واخلاقه العملية.
نلاحظ اليوم في تطبيقات العمل واساليبه وغاياته التكالب على عملية الربح والاستعجال في الرزق، والكسب المالي السريع والمادي، ومعظم المناهج والمدارس والمذاهب الاقتصادية والإدارية تركز على الجانب المادي دون ان تنظر الى ابعاده الإنسانية الواسعة والشاملة.
ولذلك يوضح الإمام علي (عليه السلام) في منهجيته مفهوم العمل بشكل آخر أكثر دقة وعمقا وفهما، ينقله من المفهوم الضيّق إلى المفهوم الواسع الكبير، حتى يعطي الإنسان بعدا للمستقبل، بعدا استراتيجيا قويا يربط بين الدنيا وبين الآخرة، بحيث تكون الدنيا امتدادا للآخرة، فيستفيد الإنسان فائدة مطلقة من حياته ووجوده ومعيشته.
منقوص رابح ورابح منقوص
فعنه (عليه السلام) انه قال: (اعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الْآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ، إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ وَاللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ وَدَخِلَ الْيَقِينُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ وَكَأَنَّ الَّذِي، فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ، فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
في هذه الرواية بالخصوص، هناك رؤية عميقة ورؤية واسعة وأفق واسع في عملية تحليل العمل، في الربح والخسارة، الرزق، العمر، الرؤية للعمل والحياة، حيث غالبا ما تكون نظرة الإنسان للحياة ضيقة، فيوجه (عليه السلام) الإنسان نحو انفتاح البصيرة لما هو أوسع وأشمل وأكثر تركيزا، بمعنى أن تكون ذكيا في استثمار العمل الذي تقوم به، وفي استثمار الحياة استثمارا مطلقا.
خطورة النظرة الاستهلاكية
1- (ما نقص من الدنيا...): إن الدنيا صغيرة وأفقها ضيّق، أما الآخرة فإن مفهومها عظيم وكبيرا جدا وواسع، فكلما يركز الإنسان على الدنيا ينقص وكلما يركز على الآخرة يكبر ويرتفع، لأن رحلة الآخرة تبدأ في الدنيا، فتكون آفاق الإنسان واسعة ويكون له القدرة على استثمار المستقبل بشكل كبير جدا.
إذا كان أحدهم يمتلك مبلغا من المال، مثلا عشرة ملايين دينار، فيقول إنني أصرف من هذا المبلغ لمواصلة العيش للأكل والشرب، وتنقضي حياته فيصرف ويستهلك هذا المبلغ، فتكون نظرته نظرة استهلاكية ضيقة في الدنيا، بينما لو أنه كان ذكيا فإنه يستثمر هذه الملايين العشرة استثمارا في عمل معين كأن يفتتح محلّا أو يستثمره في صناعة معينة، فيكون لديه تخطيط للاستثمار المالي، فيبقى عنده المال ويمكن مستقبلا إذا كان عمله جيدا أن يكثر ماله ويتوسع عمله.
هذا المثال يوضح الفرق بين الاستثمار الدنيوي والاستثمار الأخروي، فالاستثمار الأخروي يعطي للإنسان ربحا ماديا ومعنويا كبيرا في الدنيا، وهذه قاعدة للتقدم والنهضة في الحياة، وقاعدة للارتقاء، ويفهم الإنسان هذا العمل، بالقدرة على الاستثمار الهائل في توسيع آفاقه لرؤية المستقبل.
الاستثمار الدنيوي للآخرة
2- (فكم من منقوص..) هناك من قد لا يمتلك أموالا كثيرة لكنه يكون بقوة وجودة عمله رابحا في الدنيا والآخرة، وحتى بالمقاييس المادية لا يكون خاسرا. وعلى العكس فإن الذي يفكر بالربح الدنيوي فقط لأنه سيكون خاسرا في النهاية، لأنه لن يكون رابحا في الآخرة.
مثلا إذا كان هناك إنسان يمتلك مليارات الدولارات، لكنه يدّخر هذا المبلغ ولا يتصرف به، فما فائدة ذلك، فهذا الإنسان يعد خاسرا وليس رابحا، وهو مبتلى بالمال، ولم يستثمر المال، فعندما يموت فهو خسران طبعا، لكنه لو كان قد استثمر هذه الأموال في أعمال الخير وقضاء الحوائج ومساعدة الناس وفي عملية الاستثمار الدنيوي للآخرة، والاستثمار الدنيوي لخدمة الناس وتجويد حياتهم ورفع الفقر عن الناس ومساعدة المرضى وبناء المدارس والجامعات، فهذا العمل يكون مزيد في الآخرة وليس منقوصا في الدينا.
هناك من يتصوّر أنه إذا صرف من أمواله على مشاريع كهذه، فإن ماله ينقص، لكن هذا التصوّر خاطئ، وهذا هو معنى الاستثمار الخاسر، وقد يكون هناك إنسان يمتلك أموالا قليلة لكنه بهذا المبلغ القليل يقوم بالعمل الصالح، كالمشاركة في الخدمات والخيرات ومساعدة الفقراء، فنلاحظ أنه يكون رابحا في الدينا، فمن خلال هذا العطاء ربح الدنيا وربح الآخرة.
لذلك يجب أن لا يكون تفكيرك ضيقا، فتتصوّر بأنك إذا صرفت أموالك في الأعمال الصالحة سوف تنقص، من الخطأ أن تفكر بهذه الطريقة، فهذا تفكير الخاسرين، لأن التفكير الرابح هو أن تصرف المال في أعمال الخير والصلاح، حتى يعطي ذلك قوة واكتنازا لك في الآخرة عبر ذخيرة العمل الصالح.
الحلال الواسع والحرام الضيق
3- (وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ... )، فالأمر واسع جدا وفيه نِعَم كبيرة، وليست قليلة، والحلال واسع جدا، والشيء الحرام قليل جدا، لكن مشكلة الناس أنهم يتركون الحلال الواسع ويذهبون وراء الحرام الضيّق البائس الظلامي.
في بعض الأحيان نسمع من بعض الأشخاص تذمرا غير سليم، فيقولون لماذا تحرمون أشياء كثيرة، وكل شيء عندكم حرام؟، لذلك أنا لا ألتزم بالدين؟، ولكن على العكس من ذلك، فإن الحرام في الدين قليل جدا، والحلال واسع وكبير، فلا يجوز أن تضيّع الحلال بالذهاب وراء الحرام.
قد تكون المحرمات كالخمر ولحم الخنزير والربا والزنى والكذب قليلة وهي تأتي لمصلحة الإنسان وتبعده عن المفسدة حتى يكون في صلب الحلال الذي هو في مصلحته، فادخلوا في العمل الحلال فهو المربح لكم، ومن هنا فإن فالدنيا واسعة لكم.
إن السارق أو اللص الذي يفكر ويخطط لسرقة مليون دينار، لو أنه غيَّر تفكيره هذا، وبذله في التفكير الحلال، فقد يربح عشرة ملايين دينار، لكنه إنسان بائس، لأنه يذهب وراء الشيء الضيّق ويترك الواسع، فهذه القاعدة في العمل مهمة جدا لتحقيق نتائج العمل الرابح.
الرزق بين الوظيفة والرغبة
4- (قد تكفَّل لكم بالرزق... )، لكن الإنسان يكون أنانيا ويذهب وراء نفسه فقط، فتكون حياته ضيقة جدا، مع أن الحياة واسعة وفيها الرزق الواسع والربح الكثير والربح المزيد، وقد تكفّل الله سبحانه وتعالى له بالرزق، وشمل الجميع بالرزق.
فيذهب الإنسان بقوة نحو رزقه ويترك مسؤولياته ووظائفه، فقد يحتاجه المجتمع أن يعمل كرجل دين، لكي يرشد الناس إلى الدين والاصلاح، لكنه لا يعمل ذلك بل يذهب إلى وظيفة مادية فيها ربح مادي محض، بينما كان من الواجب عليه أن يكون رجل دين، والحال إن رزقك مضمون، فاعمل بمسؤولياتك وليس بمشتهياتك.
إنه الفرق بين الرغبة والوظيفة، فرغبتي تدفع بي نحو ربح الأموال الكثيرة والحصول على حياة مرفهة أكثر، وتكون لديّ شهرة بين الناس بأنني غني، لكن هذه ليست وظيفة وإنما رغبة، مع أن الرزق بالنتيجة مضمون للإنسان، فالإنسان الذي يعمل في وظيفته ورزقه معه، أفضل من الإنسان الذي لا يعمل في وظيفته، ولو أنه عمل في وظيفته، لحمل أفضل وأجود الذخائر في الدنيا وفي الآخرة.
لذلك لابد أن يختار الإنسان العمل المسؤول، وبهذا صار لدينا العمل المزيد، الرابح، الواسع، الكثير، والعمل المسؤول أيضا والرزق المضمون.
العمْرُ حتميّ والرزق متغيّر
5- (فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل...)، إن العمرَ أولى من الرزق، لأن العمر يذهب وينتهي (والعصر إن الإنسان لفي خسر)، لكن الرزق من الممكن أن يأتي مرة أخرى، فإذا خسرت رزقك اليوم يمكن أن يعوضك الله تعالى في يوم آخر عمّا خسرته، لكن إذا خسرتَ عمرك، فإن العمر لا يُعوَّض، لأن العمر حتمي، والرزق متغيّر، فلا تضيّع عمرك في رزقك، بل عليك أن تستثمر رزقك في عمرك، وتستثمر عمرك في العمل الصحيح والصالح.
في إحدى المرات قرأت في دراسة حول كيفية عيش اكثر الناس، فهناك إنسان لديه آمال وطموحات منذ الصِغَر، فيدرس ويواصل دراسته إلى أن يصل إلى منصب وظيفي عال يدرّ عليه أموالا كثيرة، ثم بعد ذلك يتزوج وينجب أولادا ويشتري سيارة وبيتا، ثم يستمر يجمع الفلوس كي يؤمِّن مستقبله في مرحلة الشيخوخة، فقد يعبر الخمسين أو الستين سنة ويصل إلى سن التقاعد لكي يبدأ الراحة ويستأنِس بحياته.
لكنه حين يبلغ هذه المرحلة من العمر، لن تكون لديه القدرة الجسدية على الراحة والأنس والتمتع بحياته الباقية، فقد سخّر عمره كلّه في جمع الأموال والامراض، وعندما حانت مرحلة استثماره لعمره، لم تعد لديه القدرة على ذلك، لذلك فإن العمل لابد أن يكون في إطار استثمار العمر، وأن لا يقضي العمل على العمر، لذا يجب استثمار العمر استثمارا صحيحا لأنه (لا يُرجى في العمر ما يُرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رُجى غدا زيادته)، بمعنى أن الرزق سوف يرجع إليك، وستحصل عليه، وإذا لم تحصل على المال اليوم فإنك ستحصل عليه غدا أو بعد غد.
الرؤية المستقبلية المستدامة
6- (وما فات أمس من العمر...) يجب أن تكون لديك رؤية للمستقبل بشكل دائم، ولا تفكر في الماضي، فالرجاء يكون مع القادم، وليس مع الماضي (لكي لا تأسوا على ما فاتكم)، ويجب أن تركز على المستقبل وعملك فيه، (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، كل هذا يجب أن يتم في إطار التقوى، حتى تُحسن العاقبة، هذا هو إطار العمل كله في حياتنا، وإذا كنا كذلك فسوف نستطيع أن نكون من الذين يذخرون العمل الصالح ذخرا مركّزا وجيدا، واكتناز العمل الصالح اكتنازا هائلا، واستثمار العمر بالشكل الصحيح.
استنباطات واستنتاجات
هناك بعض الاستنباطات يمكن أن نلاحظها من خلال هذه الرواية العظيمة التي تحتاج إلى مقالات كثيرة إذا أردنا أن نبحثها بالتفصيل، لكننا نطرحها هنا استنباطات قد ينتج عنها استنباطات أخرى، منها قضية العمل الكثير، العمل المزيد، العمل الرابح، العمل الواسع، العمل مع استثمار العمر، العمل مع المسؤولية، العمل مع القادم وليس مع الماضي الذي يجب أن نتعظ من تجاربه ونستثمرها في المستقبل.
الاستنباطات التي يمكن أن نأخذها من هذه الرواية هي:
اولا: العمل بالأهداف العالية والغايات البعيدة المدى.
هذا هو العمل الحقيقي، أما العمل قصير المدى والعمل الذي ليس فيه غايات كبرى، فهو عمل ضيّق، لذلك يعطينا (عليه السلام) دائما رؤية للسير نحو الغايات الكبيرة، والغاية الكبرى هي الآخرة التي يجب أن يسبقها العمل الصالح، لأن ذخيرة العمل الصالح تضمن للإنسان النتائج الجيدة. ونقصد ببعيدة المدى أن الإنسان ينظر إلى غاياته كلها من المبدأ إلى المنتهى.
ثانيا: مفهوم الربح والخسارة في العمل
يشكل هذا المفهوم النظرية الاقتصادية كلها في العالم اليوم، وهذه النظرية قائمة على الربح والخسارة، وهذا المفهوم الذي يستخدم في عملية الربح الرأسمالي فيه أضرار هائلة جدا، لأنه ربح غير مسؤول، ربح ليس فيه تقوى، ربح لا ينظر إلى العواقب بل ينظر إلى الأرباح التي يحصدها، وإلى أرصدته التي ترتفع في البنوك.
اليوم هناك شركات عالمية كبرى، نقلت معاملها إلى بلدان فقيرة، مثال على ذلك شركات ماركات الملابس في العالم وهي معروفة، هذه الشركات تصنع هذه الملابس بأبخس الأثمان في بنغلادش، والذي يعمل في صناعتها، الأطفال الصغار والنساء الضعيفات، وبمستوى عمل يصل إلى ما فوق 15 ساعة في اليوم، يعملون من دون توقّف، بأجور بخسة، الهدف من كل ذلك هو الربح الأكثر.
أرباح قائمة على دموع الأطفال
الأيدي العاملة رخيصة جدا، لأن صناعة هذه الملابس لو تمّت في بلدان الشركات نفسها، تكون أجور العمال عالية، لكن هذا الربح قائم على دموع النساء والأطفال ودمائهم، فكيف نضمن أن هذا النوع من الربح له قيمة، وهو قائم على الاستغلال وعدم وجود الإنصاف، استغلال فقر الإنسان وضعفه وحاجته وجوعه من أجل استعباده.
إن هذا النوع من العمل يصير استعبادا، هل يجوز تشغيل الطفل 15 إلى 16 ساعة في اليوم؟، وهو طفل صغير من المفترَض أن يتعلم في المدرسة ويحصل على الفرص الجيدة في الحياة.
لكن النظام الرأسمالي الذي يدّعي التقدم والليبرالية وحرية وحقوق الإنسان، يسلب الأطفال حقوقهم من أجل الربح الرأسمالي غير المنصف، فالمهم عند هذه الشركات الرأسمالية هو الربح أولا، وهذه المشكلة ليست موجودة في النظام الرأسمالي فقط، وإنما تسلّلت إلى عقول الناس أيضا.
الربح بالنسبة لهم أهم شيء مهما كانت النتائج والعواقب، حيث يتم تدمير الإنسان نفسه ويدمّر المجتمع أيضا، لذلك فإن العمل لابد أن ينظر فيه الإنسان إلى الآخرة وإلى العواقب (واتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون). هذا هو الإطار العام للعمل.
ثالثا: العمل بين الرغبة الذاتية والوظيفة الإنسانية والشرعية
المهم هو العمل المسؤول النابع من الوظيفة، وليس من الرغبة الذاتية في الكسب والحصول على المادة.
رابعا: العمل المنتِج
العمل المنتِج هو الذي يأتي بنتائج بعيدة المدى وليس بنتائج قصيرة المدى، حتى في النظريات الاستراتيجية للإدارة والاقتصاد العمل الناجح هو الذي يكون فيه بعد نظر وبعد مدى، وهو العمل المخطّط له تخطيطا استراتيجيا بعيد المدى، إذا صنع الإنسان منزلا له بطريقة بناء رديئة، ربما لا يستمر هذا البناء خمس أو عشر سنوات، لكن إذا صنع الإنسان بيتا بطريقة جيدة فإنه يبقى مئة سنة بسبب صناعته الجيدة.
لذا لابد أن ينحاز الإنسان للعمل بعيد المدى، والإمام علي (عليه السلام)، أشار الى أن أكثر شيء بعيد المدى هو الآخرة، والعمل المنتج للآخرة، لأن العمل إذا لم يكن للآخرة فهو غير منتِج، ويبقى عملا ناقصا وخاسرا.
خامسا: العمل ينكشف بأرباحه الشاملة والمستقبلية
كيف نعرف أن هذا العمل جيد أو غير جيد؟، نعرف ذلك من خلال الأرباح التي يحققها في المستقبل، إذا أنشأت مصنعا لصناعة السيارات أو المكائن، يمكن أن تحصل منه على بعض الأرباح، لكن إذا كان هذا المعمل يلقي بنفاياته وملوثاته في الأنهار أو في الهواء.
هذا المعمل خلال عشرين سنة سوف يدمّر البيئة كلّها، وتصبح البيئة مسمومة، ويُصاب الناس بالأمراض السرطانية وضيق التنفس وعدم وجود حياة طيبة، والماء نفسه يصيب الإنسان بالأمراض، فمثل هذا المعمل لا يوجد فيه ربح مستقبلي وإنما ربحه سريع لأصحابه.
لهذا فهو عمل فاشل، وإذا أردت أن تنشأ مصنعا لإنتاج السيارات يجب أن تشيّده في مكان لا يؤذي الناس، ولا تُرمى نفاياته في الأنهر، ولا ملوّثاته في الهواء، فكل ما يقوم به الإنسان مثل فتح محل، أو يبني مدرسة يجب ان يكون في هذا الاطار.
بعضهم يفتتح مدرسة يستثمرها لتحقيق الربح المادي، لكي أستقطب الأطفال إلى المدرسة وأحصل من عوائلهم أرباحا مادية، ولكن هل ساهمتُ هذه المدرسة بتخريج جيل جيد يحمل تربية جيدة وعلم وأخلاق جيدة؟، فهل تخرج هؤلاء الأطفال بمستوى علمي وأخلاقي وتربوي راقٍ؟؟
هذا هو الفرق بين الربح المادي الضيق قصير المدى، وبين الربح الواسع، هذا ما يتم اكتشافه من رؤية الإمام علي (عليه السلام).
سادسا: العمل وثيق مع الزمن والحركة
لا يمكن لأي عمل كان ليس فيه زمن وليس فيه حركة، فالعمل الحقيقي يتم مع استثمار العمر الصحيح، واستثمار الزمن بشكل جيد، وأيضا الحركة المركزة، الحركة النافعة، الحركة المخطَّط لها، وهنا لا نقصد أن يتحرك الإنسان في مكانه أو يدور حول نفسه، وإنما يجب أن يكون هناك تطور في حركته.
فمن لا يتحرك لا يتقدم، في بعض الأحيان نلاحظ صاحب المحل يجلس بلا حركة وكذلك العامل الذي يعمل عنده يكون مشغولا بالموبايل، فالمتبضع حين يرى صاحب المحل وعامله مشغولين يترك المحل ويخرج إلى محل آخر، وهكذا يخسر الزبون، فهذا عمل خاسر.
سابعا: العمل بعواقبه
العاقبة الحسنة، وماذا يُثمر هذا العمل للمجتمع، وليس ماذا يُثمر للشخص نفسه، أي بماذا يفيد المجتمع ويفيد الفرد؟، وما لا يفيد المجتمع، لا يفيد الفرد، وإن كان الفرد يتصوّر بأنه سوف يستفيد من هذا العمل، لكنه لن يستفيد منه، العمل الحقيقي هو العمل الاجتماعي، أي يتم في إطار المجتمع.
لذا فإن العواقب الأخلاقية مهمة جدا، والكذب فاشل في العمل، والغش والخيانة، أما الثقة فهي مهمة، ومحور كل الأعمال الثقة، فإذا فُقِدَت الثقة انتهى العمل، لذلك يجب أن ننظر إلى العواقب، فبعض الأشخاص يقوم بعمل بدايته تكون جيدة، لكن فيما بعد يتدنّى عمله ويفشل.
هو يتصوّر أن الناس سوف يمر عليهم غشّه ورداءة بضاعته وعمله، كما نلاحظ أن الباعة اليوم يأتون ببضاعة رديئة، لكن الناس يكتشفون ذلك، وإذا اكتشف الزبون رداءة البضاعة مرة واحدة سوف تنهار الثقة، لذلك هذا العمل ليس فيه عواقب، وأهم العواقب هي العواقب الأخروية.
ثامنا: قيمة العمل بوسائله
العمل الذي لا تكون فيه وسائل جيدة فهو عمل غير صحيح وغير سليم، فلابد أن يختار الإنسان العمل الذي يتناسب مع الأهداف والغايات، وهو العمل الواسع والكثير والمزيد والاستثماري، يجب يتم عبر الوسائل الجيدة بدقة، وسائل أخلاقية، وسائل إدارية، ومختلف القضايا التي ترتبط بغايات العمل ونجاحاته.
فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَكُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ وَالْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَمَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ).
هذه هي قيمة العمل بعواقبه وقيمة العمل بوسائله، فالوسائل مهمة في استنبات العمل، واستنبات عذوبة النبات، وعذوبة النتائج والعواقب، فلابد للإنسان أن يسقي عمله سقيا عذبا، سقيا صحيحا، سقيا سليما، حتى ينبت عمله نباتا طيبا لذيذا مثمرا.
اضف تعليق