q
استكشاف هوية المسلم في عصر الحداثة وقدرته على تحقيق وجوده الإسلامي، واستكشاف التداخل الثقافي الحاصل في شخصيته وتأثير ذلك على سلوكه العام وتعبير ذلك عن طريقة التفكير وهل تنسجم مع التفكير الإسلامي؟ هل هوية الإنسان المسلم اليوم هوية ضائعة، لكي يتم اكتشافها مرة أخرى، نعيش مشكلة في اختلال المفاهيم...

في هذا المقال سوف نناقش محورا جديدا يطرح ويناقش جوهر السؤال التالي، من هو المسلم؟

اليوم يعيش الإنسان المسلم تحديات كبيرة جدا، وأهم تحدٍّ هو أزمة الهوية، ونقصد بها هوية بناء المسلم في ظل الفلسفات والأفكار والمناهج التي تحيط بهذا الإنسان، فنحن نعيش تقدما ماديا كبيرا جدا، وهذا التقدم المادي تستحوذ عليه مناهج مختلفة ثقافيا وفكريا، وتزخ بالأفكار والمعلومات والنظريات التي يمكن ان تتحكم بالإنسان.

استكشاف هوية المسلم

لذلك وجدتُ من المهم جدا أن ندخل في معرفة أزمة الإنسان المسلم في هذا العصر، والهدف من هذا البحث هو استكشاف هوية المسلم في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، وقدرته على تحقيق وجوده الإسلامي، وهذا هو من اهم اهداف هذا البحث.

وسنبدأ بعملية استكشاف التداخل الثقافي الحاصل في شخصية المسلم المعاصر من خلال مجموعة كبيرة من الثقافات الواردة إليه من الفضائيات، من المناهج الدراسية ومن الكتب، من الانترنيت ومن شبكات التواصل الاجتماعي، فهناك تداخل ثقافي كبير لدرجة أصبح من غير الواضح ماذا يحصل للمسلم في أفكاره ومعلوماته من مختلف الثقافات الواردة إليه وتأثير هذا التداخل الثقافي على سلوكه وتشكيل شخصيته.

بالنتيجة ما هي طريقة تفكير هذا الإنسان الذي ينشأ في هذا التداخل الكبير في عصر المعلومات، وهل تنسجم هذه الأفكار مع التفكير الاسلامي؟

هدف البحث

استكشاف هوية المسلم في عصر الحداثة وقدرته على تحقيق وجوده الإسلامي، واستكشاف التداخل الثقافي الحاصل في شخصيته وتأثير ذلك على سلوكه العام وتعبير ذلك عن طريقة التفكير وهل تنسجم مع التفكير الإسلامي؟

هل هوية الإنسان المسلم اليوم هوية ضائعة، لكي يتم اكتشافها مرة أخرى، الجواب نعم، فنحن اليوم نعيش مشكلة في اختلال المفاهيم، التي يحصل الإنسان فيها على أفكاره، فهناك أفكار غريبة على الإنسان المسلم بشكل عام، ولا نتكلم هنا بشكل مطلق، فهناك استثناءات، ونتيجة لغياب عملية المبادرة في البناء والتربية الاستراتيجية للإنسان المسلم، أصبح هذا الإنسان مفتوحا أمام كل الأفكار والثقافات والايديولوجيات.

الأفكار عندما تدخل إلى الإنسان فإنها سوف تشكل سلوكه، وطريقته ورؤيته للحياة، فقد أصبح المسلم اليوم مفتوحا أمام الفضاء الثقافي الوارد عليه، فنحتاج أن نستكشف هل فعلا هذه الأفكار التي تأتي لهذا الإنسان -بعضها أو كثير منها يمكن ان تفيده- وتبني شخصيته الإسلامية الحقيقية أم تؤدي إلى اغترابه، أو تبتعد هذه الشخصية عن الواقع وعن المنهج والتفكير الإسلامي، فالاستكشاف هو محاولة فهم البيئة المحيطة بالإنسان.

الغاية من البحث

سبر أغوار المسلم وشخصيته والوصول إلى حقيقة وجوهر شخصية المسلم في الإسلام من خلال التعرف على القيم الفطرية الأصيلة الإسلامية، والتي يمكن أن تشكل شخصيته وطريقة تفكيره بالاستناد إلى القرآن الكريم وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) أي بالاستناد إلى الثقلين.

منهج البحث

نحاول أن نفرز الشخصية المبهمة الضائعة في عصر الحداثة، عن الشخصية الأصيلة التي تنبع من القيم الفطرية ضمن منهجية القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام)، المنهجية القائمة على فهم القيم الفطرية الإسلامية لقراءة خطاب القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام).

من هو المسلم الذي أراده الإسلام لنا، هل هو المسلم الإنسان العابد الزاهد، هل هو الإنسان الاجتماعي، هل هو الإنسان الذي يعيش من اجل الدنيا ام يعمل من أجل الآخرة؟

هناك آيات قرآنية وأحاديث شريفة عن المسلم، وعن المؤمن، وصفات هذا الإنسان المسلم التي تحدد شخصيته وتشكلها، بالإضافة إلى منظومة القيم الفطرية التي تشكل طريقة التفكير الإسلامي.

التحديات في عصر الحداثة

في البدء نحاول استكشاف أهم التحديات التي يواجهها الإنسان المسلم اليوم في عصر الحداثة التكنولوجية والمادية والمعلوماتية الكبيرة الهائلة.

أولا: يتميز هذا العصر وهو عصر الحداثة وما بعدها، بكثرة المغريات والملهيات التي تملأ أوقات الإنسان، بالترف والمتعة واللهو واللعب، والكسل والضجر، في السابق كان الإنسان عاملا، وكانت حياته فيها جدية واجتهاد وعمل، وكان الإنسان متحركا أما في الزراعة أو الاعمال الحرفية، فهو إنسان كادح، وكانت الأدوات المادية في الحياة قليلة.

بينما في هذا العصر، أصبحت الأدوات المادية كثيرة جدا، فأصبح عصرا سهلا، لا يوجد فيه ذلك الجهد الكبير، بالنتيجة تحول هذا العصر من عصر الجدّ والاجتهاد إلى عصر اللهو الكثير واللعب الزائد، بسبب وجود كثير من وسائل اللهو واللعب، في السابق كان الأطفال يلعبون بألعاب بريئة وفيها حركة، أما الآن فإن الطفل منذ الصِغَر يلعب ويلهو بألعاب الأجهزة الذكية وهو يجلس في مكانه دونما حركة.

في حين أن الألعاب سابقا كان فيها خبرة وتعلّم وإبداع، وفيها حركة وبناء للإنسان، أما اليوم فالموبايل أو (البلي ستيشن) أو ألعاب الإنترنيت، أو ألعاب الفيديو الأخرى، جعلت الطفل مستغرقا في حالة اللهو بحيث أصبح عديم الخبرة في الحياة وبلا إبداع، لذلك تعدّ كثرة الملهيات والمغريات تحديا كبيرا أمام الإنسان المعاصر الذي أصبح مترفا حتى لو كان فقيرا، وأصبح هاجس اللهو واللعب والمتعة لصيقا به، سواء بالنسبة للأطفال أو بالنسبة للشباب او حتى بالنسبة للكبار.

لهذا ينحصر تفكير الشباب اليوم بكيفية الحصول على المتعة واللهو واللعب بكثير من المغريات اللامتناهية، وهذا الترف يصنع من الإنسان المعاصر الخمول والكسل والملل، الإنسان سابقا كان يستيقظ مع صلاة الفجر ولا ينام في النهار، أما إنسان اليوم فإنه ينهض بعد صلاة الظهر، وهذا يدل على فرق كبير بين العصرين السابق والحالي.

اليوم يعيش الإنسان عصر الاسترخاء، وهو بالنتيجة يولّد الكثير من المشكلات الفكرية، والاجتماعية، والصحية عند الإنسان، لهذا ازداد مشكلات الإنسان نتيجة لحالة الاسترخاء التي يعيشها، وأحيانا أحد المشاكل الأساسية للاسترخاء هو الكسل والضجر، عندما يصبح الإنسان ضجِرا كسولا وملولا فسوف يُصاب بحالة من الاكتئاب ويبدأ بالبحث عن وسائل اسوء.

حب التملّك للأشياء

ثانيا: تحدي الأشياء، فإن هذا العصر أصبح يعجّ بالأشياء الكثيرة التي تدور حوله، أو يدور حولها، كل شيء موجود بدءً من الأدوات المنزلية وأجهزة النقل والوسائل الشخصية وكل الأشياء الأخرى، فأصبح الإنسان يعيش حالة من التخمة في الاستهلاك، وحالة متضخمة من حب التملّك للأشياء، ولا يكتفي بحدّ معين، فإذا كان يمتلك جهاز موبايل فهو يريد النوع الجديد منه او يترك القديم، وإن كان لديه سيارة عادية، يريد سيارة أكثر تطورا.

لهذا أصبحت عنده حالة من الاستغراق في عالم الأشياء، هذا النوع من الاقتناء للأشياء لا يدخل في باب تجريب هذه الأشياء والاطلاع عليها، فالتجريب شيء آخر، إن سمة هذا العصر كثرة الأشياء والنهم الاستهلاكي والحرص في الحصول عليها، لذلك يسيطر إدمان التسوّق، وإدمان امتلاك الأشياء على معظم الافراد.

بمعنى أنه لا يشتري الأشياء لأنه يحتاجها، بل لأنه يريد أن يتملّكها، فتغول حب التملك وأن يحصل على كل شيء، لهذا بات يريد الحصول على المال بأية طريقة كانت، سواء كان سيقع في الديون أو سلوك الطرق غير المشروعة، لذلك من سمات هذا العصر عالم التملك ووله الاستحواذ على الأشياء.

تحدّي الماديّة الحداثوية

ثالثا: المادية الحداثوية فيها جانب خفيّ وعميق جدا، غائب عن كثير من الناس ولا ينتبهون له، وهو محاولة الحداثوية المادية كسر كل الأطر الإنسانية، وأن تعبئ التمرّد على الأخلاق، وهدفها كسر القيم، بحيث تصبح سلوكيات الاستهلاك هي الحاكم المطلق.

بعض المفكرين الغربيين يعتبرون أن محور الرأسمالية هو الاستهلاك، فلا وجود لقيمة أخرى، وإنما قيمة الاستهلاك فقط، ولذلك تؤدي قيمة الاستهلاك إلى كسر كل القيم والأطر الإنسانية، فلا يبقى أي إطار إنساني ولا قيم إنسانية، ولا قيم فطرية، بل تنشأ من هذا العالم الفوضوي قيم وسلوكيات جديدة، محورها الأساسي العبث والمادية والاستهلاك.

عالم الاستهلاك المعلوماتي

رابعا: يزخر هذا العصر بالمعلومات والأفكار والثقافات التي تبثها الآلة المعلوماتية الفخمة جدا، فإذا أردنا أن نقارن بين عصرين، عصر ما قبل المعلوماتية وعصر ما بعد المعلوماتية، سوف نلاحظ أن الإنسان سابقا إذا كان يحصل على معلومة واحدة، فإنه في هذا العصر يحصل على مليون معلومة، ولا توجد مبالغة في هذا القول.

المشكلة الأساسية أن معظم هذه المعلومات والأفكار في هذا العصر وبشكل مطلق، تقوم على غسل المخ والتضليل والإعلام الغامض والتسطيح، وتؤدي الى بناء شخصية تعاني من الاختلال، يمكن السيطرة عليها وتكون مستهلِكة فقط للسلع الانتاجية التي تنتجها الشركات الرأسمالية، عملية غسيل المخ لصالح العالم الاستهلاكي القائم على الربح من دون أي قيم إنسانية، فالربح هو الهدف والغاية.

أسباب الاختلال العالمي

لذلك من المشاكل التي نلاحظها في عالم اليوم، أن السبب الرئيس للاختلال العالمي هو الاستهلاك، أو تضخم الاستهلاك بما يفوق الحاجات الأساسية التي يحتاجها الإنساني، فأدى ذلك إلى إنتاج كمّ كبير من المشكلات والأزمات، مشاكل صحية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، ومشاكل بيئية أدت الى تدمير البيئة.

فالعالم اليوم يعيش حالة من التحطم البيئي الهائل، بسبب الاستهلاك، إنهم يريدون تخفيض الغازات الملوِّثة للجو، التي أدت إلى الاحتباس الحراري، عن طريق صنع الطاقة المتجددة، أو الطاقة البديلة، لكن كل هذا لا ينفع في عملية معالجة التغيّر المناخي الشديد، الذي ينفع في هذا الجانب هو تخفيض الاستهلاك، فعندما تنخفض صناعة الحاجات إلى الحد المطلوب فقط، سوف ترتاح الطبيعة وتهدأ.

إن التحطم الطبيعي والبيئي الذي يحدث اليوم، سببه أن العالم يعاني من شحة الأمطار والمياه، بسبب انبعاث الغازات والتغيّر المناخي، لأن هدفهم أن تربح الشركات، فإذا خفّضوا الاستهلاك هذا يعني تقليل الأرباح، فمثلا بدل أن يصنع 200 مليون سيارة في السنة، يمكن ان يصنعوا 20 مليون سيارة، لكن هذا يشكل خسارة للشركات الكبيرة، لذلك فإن منطق الربح لديهم فوق الاستدامة الصالحة في الحياة.

إن منطق الربح تهديمي، قائم على الطمع والحرص والتكالب على الدنيا، لذلك هو منهج تدميري يدمر الطبيعة والمجتمعات والإنسان لكي يستمر الربح، حتى لو تعلق ذلك بإنتاج الأسلحة، فلا يتخلون عن إنتاج الأسلحة، بل يتخلون عن عملية بناء الحياة الطبيعية للإنسان، فالربح هو المسيطر وهو القيمة المطلقة.

الرأسمالية تدميرٌ للطبيعة والإنسان

كل هذا يؤدي بالنتيجة إلى عملية تدمير الطبيعة وتدمير الإنسان، هذا هو عالم الرأسمالية، والمسلمون اليوم يعيشون في مناطق هي الأكثر عرضة لهذه التحديات، وهي تحديات الاستهلاك وتحديات تدمير البيئة والطبيعة.

أمر طبيعي أن الأفكار والثقافات التي تصل إلى المسلم، تؤثر على بناء تفكيره وطريقة سلوكه في الحياة، فهناك الكثير من الناس اليوم لاسيما الشباب، تغيَّرت طريقة تفكيرهم بالحياة، وأصبحت طريقة غير واضحة، لكن الشباب يعتقدون أنها نوع من الانفتاح، لكنها ليست كذلك، بل هي ضياع للهوية.

حتى أن بعض الشباب ادخلوا الكثير من الكلمات الأجنبية في كلامهم، وتخلوا عن اللغة العربية، وهذا يعني أن طريقة تفكيرهم قد تغيّرت، مثلا لا يأخذ الكلمات التي تنبع من القرآن الكريم، ولا من الأحاديث الشريفة، حتى أن بعضهم ينظرون إلى هذا الأمر على أنه نوع من التخلف، وقد حدث هذا بسبب التأثر الكبير بالمعلومات التي تأتي إليهم، وهذا من أقوى التحديات التي يجب أن نناقشها في عملية تشكيل هوية المسلم.

المناهج المستوردة

خامسا: إن المناهج التي تهيمن على إدارة المجتمعات هي في جوهرها غير إسلامية، فهي في غالبها، كالسياسة والاقتصاد والتعليم مناهج مستورَدة، وتأتي من مجتمعات ثانية تختلف عن أسلوب التفكير والمنهج الإسلامي.

نأتي هنا بهذا المثال، إن معظم الدول الإسلامية الآن تستخدم الربا، حتى لو كان البنك إسلاميا، فماذا يعني هذا؟، أنه يعني بأننا استوردتنا الاقتصاد الغربي الرأسمالي القائم على الربا، ووضعناه في حياتنا، كذلك المناهج الدراسية، في المدارس والجامعات، إنها مناهج غربية، لأنها ليس لها علاقة بالواقع الإسلامي، ولم تعتمد على الأسس الإسلامية.

هذا يعني أن تفكيرنا أصبح غير إسلامي، لأن هذه المناهج تولد في الإنسان المسلم شخصية أخرى، فطريقة تفكيره مختلفة، لأنه ما دام المنهج المستورَد هو أساس صفاته في حياته، فهو يكون شخصية مختلفة، كما في علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم الأخرى، وكذلك التعليم الموجود لدينا، لذا فإن الإنسان عندما يعتاد ويتعلم هذا المنهج فإنه لا يستطيع أن يخالف هذا المنهج في طريقة تعامله مع إدارة المجتمع السياسية أو الاقتصادية أو الإدارة التعليمية، لأنه بالنتيجة أصبح معتمِدًا على منهج تغريبي اغترابي.

أزمة الهوية الثقافية

لذلك نحن نعيش أزمة هوية، وأزمة ثقافة، وأزمات متتالية، لأن هذه المناهج لا تلائمنا، ربما تلائم تلك البلدان ومجتمعاتها، لذا يجب أن نأخذ ما هو مفيد لنا، وما يتلاءم مع القيم الإسلامية الفطرية، مثلا لديهم قاعدة أو مبدأ (الربح فوق الأخلاق)، هذا منهج غير إسلامي، لأننا نقول ونعمل بعكس ذلك (الأخلاق فوق الربح). فكل عمل يقوم به الإنسان في تجارته وعمله وربحه لابد أن يكون مستندا إلى الأحكام الشرعية.

لذلك فإن البناء المنهجي الخاطئ أدى ببعض الناس إلى تجاوز الأطر الشرعية، في الحلال والحرام، ويتضح ذلك في رؤية الإنسان للعقائد، التوحيد والنبوة والعدل والإمامة والمعاد، ورؤيته للأحكام الشرعية في الحلال والحرام أيضا، النتائج تتضح في هذه القضايا عمليا، فلكي يطبق أحدهم هذه المناهج سيقوم بالتجاوز على الأحكام الشرعية، وبذلك سوف يخرج عن الطريقة الإسلامية في التعامل والمنهج.

كيف تؤثر التحديات على تشكيل شخصية الفرد المسلم؟

أولا، تؤدي هذه التحديات إلى تشكيل شخصية أخرى، فقد يبدو الإنسان مسلما في الظاهر، لكن في الحقيقة تكون ثقافته وقيمه الأخلاقية غير إسلامية، فيؤدي ذلك إلى إنتاج شخص آخر.

ثانيا، اختلال الهوية وتشكيل شخصية ازدواجية ومتناقضة، وتكون بالنتيجة متطرفة، فالتطرف هو نتيجة لعملية اختلال الهوية عند الإنسان، ولا يمكن الجمع بين نقيضين، فلا يمكن أن تكون صادقا وتربح بالكذب، حين تكذب على المشتري لا تسمى صادقا، ولا يمكن أن تكون عادلا حين تستخدم العدل للظلم والتجاوز على حقوق الناس.

لذلك هذه التحديات خلقت نوعا من الازدواجية بين قضيتين أو شيئين، بين الإنسان المسلم الظاهري وبين المسلم الجوهري، فالإنسان المسلم يجب أن يكون مسلما في ظاهره ومسلما في جوهره، فهذه التحديات أدت بالنتيجة إلى هذا التناقض الأخلاقي والهوياتي الذي يعدّ عاملا مهما في عملية بناء الحضارة.

التطرف التغريبي

عندما يفقد الإنسان أصالته وبنيته التحتية التي تشكل طريقة تفكيره وهويته، وتصبح مصنوعة من عالمين أو متمازجة بين عالمين، بالنتيجة يصبح الإنسان شاردا، متغرِّبا، ولا يعلم ما هو انتماءه، ويمكن ملاحظة هذا الشيء في الشخصيات التي تعيش في الغربة، لاسيما في الدول الغربية، فتوجد ضغوط على هؤلاء الناس الذين يعيشون هناك (ليس المسلمين فقط وإنما من أي دين أو عرق آخر).

فهو يأتي بقيم شعبه وطريقة تفكير شعبه ويدخل في الغرب، وهو وكثير من الناس ليس لديه تلك القوة والتماسك في شخصيته، بحيث يحافظ على هويته وأصالته، فيحاول أن يندمج مع المجتمع الجديد، فأما أن يتنازل عن هويته الأصلية في البلد الذي يعيش فيه، أو يحاول أن يجمع بينهما، كأن يجمع بين شكلين ولا يستطيع ذلك.

الاندماج بهذا المعنى هو اندماج غير حقيقي، فتصبح لديه ازدواجية واختلال في الشخصية، وهؤلاء الذي يحدث لديهم اختلال في الشخصية يصبحون متطرفين، لأنه يشعر أن لا هوية له، فيحاول أن يتمرد على تلك الثقافة التي يعيش فيها، من خلال التطرف الشديد أو العنيف، وهذا يدل على أن الازدواجية تدفع به للرجوع إلى ثقافته الأصلية بأسلوب العنف.

الانتماء الى عالمين

الثقافة الأصلية هي عملية تعليم وتربية مستمرة واستدامة، وعملية بناء فكري واخلاقي تراكمي، حتى يصل إلى تلك النقطة، لذلك فإن هذه التحديات سواء كان الإنسان يعيش في البلاد الغربية أو يعيش في بلده فإنها تؤدي إلى عملية الازدواجية.

على سبيل المثال من القضايا الازدواجية التي تظهر اليوم في الهوية، هي قضية الحجاب، فقد أصبح الحجاب اليوم ظاهرة منتمية إلى عالمين، حجاب شكلي بعنوان الحداثة، فأصبح الحجاب حداثوي، ينتمي إلى عالمين، أحدهما عنوان الحداثة والانتماء لهذا العصر وهو ليس بحجاب لأنه لا ينتمي في الواقع إلى التفسير الإسلامي. التفسير الإسلامي يأتي في إطار الأحكام الشرعية التي وضعها الإسلام للحجاب.

ما الذي يجب على المسلم أن يفعله أمام هذه التحديات؟

سوف نتطرق لهذا الموضوع مستقبلا بتفصيل أكبر، لكن أهم شيء في هذه المواجهة هو الوعي، فالاندماج بأشكاله المختلفة دون وجود وعي وبنية قوية في عملية التربية والتفكير سيؤدي إلى انصهار الإنسان في تلك العوالم الجديدة، وبالنتيجة ضياع هويته، كما ان الانعزال خاطئ أيضا، بل عليه أن يدير عصره إدارة عقائدية وفكرية وثقافية وأخلاقية وتربوية، حتى يستطيع أن يستوعب ويحتوي هذه التحديات، لكي يستطيع ان يعيش ناجيا وصالحا وسالما هو وأولاده.

إن الشخصية المسلمة ينبغي أن تكون شخصية متزنة لا تطغى الى طرف، ولا تميل إلى طرف آخر، وتكون متزنة في سلوكياتها وفي أقوالها، وأفعالها، لكي تحقق تشكّل الشخصية المتوازنة التي تستطيع أن تواجه مختلف التحديات الأخلاقية والثقافية المعاصرة.

للبحث تتمة...

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق