q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الاغتراب الديني وضياع بوصلة الذات

اللامبالاة وباء العصر (14)

حين لا يكون لدى الإنسان ارتباطا حقيقيا مع الواقع، فإنه يحاول أن يبحث عن عالم آخر، لكنه يفشل في العثور على هذا العالم، لأن العالم الحقيقي يوجد في إطار وقواعد وسنن كونية، فالاغتراب الديني هو الانفصال والانفصام عن الواقع، لأن الدين الحقيقي يمثل القواعد الكونية التي وضعها الله سبحانه...

(صن دينك بدنياك تربحهما، ولا تصن دنياك بدينك فتخسرهما)

الإمام علي (ع)

كيف يؤثر الاغتراب على تشكيل الهوية واختلالها، وكيف يؤثر بالخصوص الاغتراب الديني على اختلال الهوية، وكيف يرتبط الاستقرار النفسي بالانتماء الديني، وكيف تتشكل العلاقة بينهما، وما هي العناصر الأساسية التي تؤدي الى بناء الانتماء الديني؟

عرضنا سابقا كيف تؤدي اللامبالاة إلى ضياع الانتماء، واختلال الهوية، حيث الاغتراب أصبح حالة متضخمة في هذا العصر وأدت الى تصاعد مشاعر عدم إحساس الإنسان الحديث بوجوده في الحياة، وعدم شعوره بأنه كائن مهم له أهمية وأهداف واضحة في الحياة، بل يشعر بأنه عبث.

وتتوالد فيه حالات من الانفصام عن الواقع، وافتقاده للشعور الجيد الذي يمكن ان يغذيه بطاقة إيجابية في العمل والحركة والاهتمام، ولذلك تصبح لديه حالة من اللامبالاة وعدم شعوره بالانتماء إلى المجتمع وافتقاده لهوية خاصة تشعره بوجوده المتكامل، فاللامبالاة تعني الاغتراب سببا او نتيجة.

يحدث الاغتراب عندما يفقد الشخص القدرة على التواصل مع روحه، بسبب ارتباطه الادماني مع الجانب المادي وهيمنة الحواس، فلايشعر بنفسه ولايدرك ذاته لذلك يحصل عنده الاكتئاب، وكلما ابتعد عن روحه زاد الانفصام، وقبع في عالم التعاسة والبؤس. ولكي يستطيع أن يعيش في هذه الدنيا بسعادة ويشعر بذاته ونفسه في هذه الحياة، فهو بحاجة الى التواصل المستمر والعميق مع روحه ونفسه، وتأتي الأهمية الكبيرة لهذا النوع من التواصل بأنه يغذي الروح والنفس ويمنح الناس أفكارهم الايجابية في الحياة.

عالم بلا روح

هنالك الكثير من الناس الذين لا يتواصلون مع أنفسهم وأرواحهم، وذلك بسبب الانغماس في الماديات، فالحياة المادية المحضة تمنع الإنسان من التواصل مع روحه، يضاف الى ذلك ان اللامبالاة تؤدي إلى وجود حاجز كبير بينه وبين روحه، وكلما ينغمس في الماديات أكثر وتزداد الجدران صلابة سوف يؤدي يتضخم شعوره بالاغتراب.

حينئذٍ لا ينتمي إلى نفسه وإنما لحياته وغرائزه، وينظر إلى العالم من خلال حواسه الخمسة وليس من خلال روحه، يسمع ويتذوق ويشمّ ويرى ويلمس، وهذه الحواس الخمسة هي التي تربطه بالعالم وليس روحه، فهو لا يمتلك البصيرة التي تساعده على فهم الحياة وتذوق جوانبها العميقة والاستمتاع بمعانيها الواقعية، وهذا هو الاغتراب بعينهِ.

كثير من الناس في العالم، مصابون بمرض الاكتئاب الذي ينشأ في الإنسان لعدم وجود ارتباط حقيقي مع نفسه ومع العالم الخارجي، فإذا كان الإنسان غير متواصل مع نفسه وذاته، فإنه لا يحس بأهميته وأفكاره ووجوده، ويصبح منتميا إلى عالم مادي، وينغمس في الترفيه والأكل والمطاعم والسيارات، هذا العالم الاستهلاكي الذي استفحل وانتشر بشكل كبير في العالم، بحيث بات عالم اليوم الذي نعيشه ونشاهده، هو عالم الفوضى والصراع والعبث، عالم بلا معنى لا روح فيه.

الاغتراب عن النظام العام

الروح بوصلة الانسان للاهتداء نحو العالم الخارجي، وعندما ينفصل الإنسان عن روحه، ينفك عن النظام العام في الحياة سوف يشعر بالاغتراب مع العالم الواقعي، فهذه الحياة خاضعة لنظام عام وسنن وقواعد كونية، والكثير من البشر في عالم اليوم لا يرتبط بهذا النظام الحقيقي الواقعي الكوني الذي خلقه الله تعالى، بل يرتبط بعالم صنعه الآخرون، صنعوا عالما بديلا خاصا بهم، لا ينتمي للعالم الحقيقي.

الرفاه المادي والواقع البديل

العالم الذي نعيشه اليوم هو عالم الماديات والتكنولوجيا، والرفاه المادي البحت، وهو عالم الأفكار التي لا ترتبط بجوهر الأديان، ولا ترتبط بالروح والمعاني الحقيقية للحياة، وإنما ترتبط بعالم الربح واللذة والمنفعة والعبث، فالحداثة التي نلاحظها اليوم، سواء كانت حداثة فكرية، أو تكنولوجية، أو حداثة الشوارع والعمارات، هو عالم آخر ليس حقيقيا يغطي على المعنى التطوري الذي يحتاجه الانسان.

عندما يدخل الإنسان في هذا العالم لا يشعر بالارتباط الحقيقي، بل هو ارتباط جسدي يقوم على اللذة التي ستنتهي لأن أجلها قصير، مثل الطعام الذي يأكله الإنسان حيث يشعر بلذة الطعام في الثواني التي يتناول بها الطعام، وبعد ذلك تنتهي تلك اللذة، وهكذا هي اللذة المادية.

لذلك فإن العيش في عالم كهذا غير متوازن بين الروح والمادة يجعل الإنسان مغتربا، مبتعدا عن نفسه، وكلما ابتعد الإنسان عن نفسه ولا يعرف ماذا يريد وبماذا يفكر، فإنه يزداد كآبة، لأنه يزداد اغترابا وانفصالا عن الواقع الحقيقي وينغمس في عالم بديل.

العوالم الافتراضية التي نلاحظها اليوم هي عوالم بديلة، يصنعها الآخرون كما صنعوا مثلا (الميتافيرس) وهو عالم افتراضي، يجعل الإنسان يعيش نوعا من الوهم، كالمخدرات التي تجعل الإنسان يعيش في عوالم غير حقيقية يرتبط بها بعد الانفصال عن واقعه.

الطريق المعبّد

حين لا يكون لدى الإنسان ارتباطا حقيقيا مع الواقع، فإنه يحاول أن يبحث عن عالم آخر يرتبط به، لكنه يفشل في العثور على هذا العالم، لأن العالم الحقيقي يوجد في إطار وقواعد وسنن كونية، فالاغتراب الديني هو الانفصال والانفصام عن الواقع، لأن الدين الحقيقي يمثل القواعد الكونية التي وضعها الله سبحانه وتعالى.

حين يحقق الإنسان الانتماء الديني، فإنه سوف يسلك الطريق الذي أرشدنا الله سبحانه إليه، فالانفكاك عن عالم الدين، هو في الواقع انفصال وانفصام واغتراب عمّا يجب على الإنسان أن يعيشه، وكلما اقترب الإنسان من الله سبحانه وتعالى ومن أوليائه الصالحين، كان أقدر على التواصل مع روحه وذاته، وعندما يقترب من الله يقترب من روحه ونفسه ويتواصل معها، ويسير في الطريق المعبّد الذي لابد للإنسان أن يسير فيه لكي يحصل على الصحة الفكرية والصحة النفسية اللازمة للعيش السليم في الحياة.

هناك عدة أشكال للاغتراب وعدم الانتماء الديني الذي يجعل الإنسان في حالة من التناقض الشديد بين عناصره الداخلية والخارجية، فيقع في حالات من الغموض في مسارات حياته والعيش بقلق من المستقبل، ويفقد القدرة على التعامل مع المجهول حيث يتآكله الشك في داخله، فالاختلال يتسلط على هويته غير المستقرة.

كيف يحصل الاغتراب الديني؟

في ازمات كورونا، ظهر ما يسمى بالقلق الوجودي، الذي شكل حالات من الضغط الشديد على الإنسان والمجتمعات، خوف وقلق من المستقبل ومن عدم إحساس بالمعنى من وجوده وماذا يعني هذا الوجود، هذا هو الاغتراب بعينه، حيث يتّضح في أوقات معينة للإنسان، نتيجة لعدم وجود إحساس بالأمان لديه ويفقد القدرة على ملامسة اليقين والاطمئنان لعدم وجود إيمان بالآخرة وما يكون فيها من ثواب وعقاب وحساب.

ويمكن ملاحظة الاغتراب الديني في عدة أشكال:

الارتباط الشكلي بالدين

أولا: الارتباط الشكلي بالدين، دون وجود ارتباط بجوهر الدين وغاياته ورسالاته، فالإنسان يكون مسلما بالاسم أو في الهوية فقط، وقد تكون لديه بعض العبادات، لكنه يفتقد الارتباط الجوهري للدين، ويبقى ارتباطه شكليا لأنه تعلّم على ذلك، هذا النوع من الناس يشعر بالاغتراب ولكن بصورة أقل من الإنسان المنفصل عن الدين بشكل كامل.

إن الاغتراب يتحول مع الوقت إلى اغتراب شديد عند الإنسان قد يقوده في بعض الاحيان إلى الانتحار، بسبب فقدان الإنسان للعلاج الروحي، وعدم الشعور بالانتماء للحياة، السؤال هو لماذا نحن نتناول هذا الموضوع، نقصد موضوع الانتماء والاغتراب، والجواب هو لأهمية هذا الموضوع، لأن الإنسان إذا لم يمتلك الانتماء ويشعر به فإنه يُصبح مريضا، حتى لو أنه لم يُقدِم على الانتحار، فإنه سوف يشعر بالتعاسة المزمنة أو الدائمة، لعدم شعوره بالانتماء للحياة.

هذا النوع من الناس يبحث دائما عن بدائل، وكلما بحث عن بديل فإنه يفشل، ويذهب للبحث عن البديل الثاني ويفشل أيضا، وذلك بسبب الارتباط الشكلي بالدين.

الانحراف العقائدي

ثانيا: الانحراف العقائدي، هناك بعض الناس لم يفهموا العقائد والدين بشكل جيد، وهناك بعض الأسئلة في أذهانهم ولكن لا يوجد من يجيبهم عنها، أو أن الإنسان هو شخصيا لديه نوع من التكبر في رأيه، فيؤدي ذلك به إلى الانحراف العقائدي، بحيث يتصور أنه إذا دخل في عالم عقائدي جديد، أو حصوله على أفكار بعيدة عن الدين أو العقائد الدينية، فإنه يستطيع أن يحل مشكلته، كما فعل الذين حاولوا ان يخلقوا بديلا عن الأديان لكنهم فشلوا.

الالتزام بالأحكام الشرعية

ثالثا: عدم الالتزام بالأحكام الشرعية، وهذا ما يدفع بالإنسان إلى عدم أداء المسؤوليات الدينية بصورة صحيحة، لأن الأحكام الشرعية منبثقة من نظام كوني، ولذا فالإنسان الذي لا يلتزم بالأحكام الشرعية، فإنه لا يلتزم بالنظام الكوني، فإن الحلال والحرام شُرّع لصالح الإنسان.

هل من المعقول أن الإنسان الذي يحلل لنفسه الخمر يعتقد أن الخمر مفيد له، فقد أثبت العلماء بأن حتى القليل من الخمر مدمِّر ومضرّ بالإنسان، وأن الخمر لا ينفعه مطلقا، لذلك فإن عدم الالتزام بالأحكام الشرعية هو نوع من الاغتراب، بسبب غرور الإنسان بالحياة المادية، بالنتيجة وباعتبار أنه أصبح متنورا ومتجددا فإنه لا يلتزم بالأحكام الشرعية وهذا من الأخطاء الكبيرة، لأنه ذلك سوف يقوده نحو الابتعاد عن طريق الدين.

الشك والايمان

رابعا: التشكيك واهتزاز الايمان، وجود حالة من التشكيك في نفسه واهتزاز الإيمان في داخله، فيصبح شخصية مشكّكة، تعبر عن وجود حالة الاغتراب عنده، وقد تكلمنا سابقا عن التسليم لله سبحانه وتعالى، وأنه أفضل علاج للحالات النفسية والمعنوية والاكتئاب والادمان، فعندما يسلم الإنسان نفسه لله سبحانه وتعالى فإنه يتخلى عن ذاته، والتخلص من إشكالات الخوف والأنانية والقلق، فيخرج من نفسه لله سبحانه وتعالى.

أما الإنسان الذي لا يسلم نفسه لله سبحانه وتعالى، ويغوص في الكون ويبحث عن أشياء خارج قدراته، فإنه يقع في حالة من الشك والتشكيك في نفسه ويؤدي الى زوال الإيمان، ويصبح التشكيك حالة ثابتة لديه ويؤدي به إلى حالة الاغتراب عن الدين والنفس والعالم الحقيقي.

فعن الإمام علي (عليه السلام): (الشك يحبط الإيمان)، أي يقضي على الإيمان، لذا لابد أن تكون عند الإنسان رؤية ايجابية واقعية متبصرة تزيل الشك من نفسه، ولا يصح أن يبحث الإنسان عن أسئلة كبيرة خارج قدراته المعروفة، ولابد أن يحافظ على إيمانه حتى يستطيع مواصلة حياته، ولا نعني بذلك (إيمان الجهلاء)، وإنما إيمان نابع عن علم ومعرفة. الشك في بعض الأحيان يتحول إلى وسواس وقلق زائد عن اللزوم عند الإنسان يؤدي الى احباطه وتشاؤمه وانحرافه.

الإنسان البليد

عن الإمام علي (عليه السلام): (الشك يطفئ نور القلب)، والقلب هو مصنع ومعمل المشاعر الطيبة والجيدة والعاطفة والحب، لذلك عندما يدخل الشك فيه ويستسلم له، فإن قلبه ينطفئ نوره، ويصبح بليد المشاعر وقاسي القلب. وعن الإمام علي (عليه السلام): (من كثر شكّه فسد دينه).

استغلال الدين

خامسا: استغلال الدين لأغراض خاصة، فعن الامام علي (عليه السلام): (لا يترك الناس شيئا من دينهم لإصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه)، الفرد الذي يستخدم الدين لأغراضه الخاصة فإنه سوف ينفصل عن الدين تدريجيا، ويصبح له دينه الخاص الذي استخدمه في بناء مصالحه الخاصة، ويستعمله كوسيله لتحقيق مآربه.

سوف يحدث لهذا الإنسان انفصام حقيقي عن الدين، ويقترب أكثر من الاغتراب لأنه يعرف بأنه يكذب ويخدع الناس بسلوكه هذا، بالإضافة إلى أنه هو نفسه يفقد الثقة بنفسه ومشاعره، لأنه يستخدم الدين كي يصل إلى السلطة والمال.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (صن دينك بدنياك تربحهما، ولا تصن دنياك بدينك فتخسرهما)، أن تجعل الدنيا في خدمة الدين، وليس العكس فتربح الدين والدنيا، أما إذا استخدمت الدين من أجل الدنيا فسوف تخسرهما معا، وهذه معادلة مهمة في قضية الربح والخسارة عند الإنسان وكيف يربح الدنيا والدين أو كيف يخسرهما.

الانفصام الأخلاقي

سادسا: الانفصام السلوكي والأخلاقي، ويحدث هذا عندما لاينسجم سلوك الإنسان مع مقتضيات دينه، وهذا يؤدي به إلى نوع من الاغتراب الناشئ عن التناقض، حيث يحدث الانفصام عند الإنسان ويصبح لديه شخصيتين، في الخارج شيء وفي داخله شيء آخر، وهذا هو الاختلال، انفصام بين سلوك الإنسان وبين ما يؤمن به، كما في الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف 3.

لماذا تصبح النفس رهينة؟

يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌۢ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍۢ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍۢ وَعَذَابٌ أَلِيمٌۢ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) الأنعام 70.

هذه الآية الكريمة تعبّر عن كل ما تطرقنا له حول قضية الانفصام بين الدين والدنيا، والانفصام بين النفس والانسان، وبين الروح والإنسان، وانفصام الإنسان عن العالم، فالذين اتخذوا دينهم لَعِبا ولهوا، هؤلاء هم الذين دخلوا في عالم المادة وتركوا عالم الروح، واغترّوا بهذه الدنيا، بحيث أصبح لديهم استسلام مطلق للأشياء السيئة التي يعملونها.

(أن تُبسل نفس بما كسب) في العنوان الأول تعني استسلام النفس، وفيها معانٍ عديدة من ضمنها، يكون عند الإنسان من خلال ممارساته السيئة التي يقوم بها، تتكون لديه ممانعة قوية للقبول بالحق والحقيقة، وما كسبه في هذه الدنيا من لهو ولعب يجعله شخصية متفردة متطابقة مع سلوكه الخاص الذي قام به، وهذا السلوك هو الذي يشكل شخصيته التي يصعب تغييرها.

العنوان الثاني، أن تكون النفس رهينة، على سبيل المثال إذا دخل الإنسان في عالم العصابات، وأصبح أحد أفرادها، سوف يصبح رهينة لهذا العالم وتورط فيه، فأصبح عالما خاصا به ولا يستطيع أن يخرج منه، لذا فكل ما يفعل الإنسان من أشياء سيئة يصبح رهينة لها.

العنوان الثالث، يقول المفسرون حول هذا المعنى، أن تستسلم النفس لهذا الواقع الذي صنعه الإنسان بنفسه، ولنفترض أنه دخل في الحكم وعالم الصفقات والفساد والرشاوي، بحيث أصبح هذا العالم الذي دخله في مضمون شخصيته فلا يستطيع الخروج منه، ولن ينزع نفسه من هذا العالم، واستسلم لهذا الشيء الذي شكّله في نفسه فيصبح (ليس له ولي ولا شفيع)، ومهما يحاول أن يخلص نفسه في عالم الدنيا والعالم الآخر لا يستطيع ذلك.

الانغماس في عالم الانفصام

فيكون له ارتباط وثيق بعالم الفساد والذنوب والمعاصي، وبعالم الدنيا التي شغله باللهو واللعب، وهذا هو الانفصام الكبير نتيجة الانغماس الشديد في هذا العالم وهو الاغتراب عن العالم الواقعي.

لذا نلاحظ أن الدكتاتوريين لا يتورعون عن القتل، وعن شن الحروب، وعن قمع الناس، وعمل الحرام ومصادرة أموالهم وسجنهم، لأن شخصيته أصبحت بلا مستقبل، لأنه مستقبله هو ما يكسبه من خلال أفعاله، لذلك هو يائس من أن يكون له في عالم الآخرة (ولي أو شفيع)، وكل ما كسبه مثلا 100 مليار، فإذا سقط هذا الإنسان في وحل الدنيا، ماذا ستفيده الـ 100 مليار في الآخرة؟

يوجد لدنيا نوعان من الانتماء، أما الانتماء الديني أو الانتماء الدنيوي، وقد ذكرنا ذلك في الآية الكريمة أعلاه، فالانتماء الديني يصل بالإنسان إلى الاعتقاد بحياة مستمرة في عالم الآخرة، وأن هنالك حساب وكتاب، أما الانتماء الدنيوي فيقول لك أنا معنيّ بهذه الدنيا فقط، ولا يوجد عندي شيء فيما بعدها، ولكن هذا يخالف الفطرة والضمير والعقل والواقع وسيرة العقلاء.

وهذا الشخص مهما ازدادت ثروته لا يشبع ولا يتوقف عند حد، ولا يشبع من السلطة بل يريد المزيد، حيث لا يحصل عنده الإشباع، ويعيش حالة من الانفصام عن الواقع الذي لابد له أن يربي فيه روحه ولكنه يعيش في نقيض تعيس تتحكم فيه مطامع ثرواته ومسارات ذنوبه.

إن الانتماء الديني يؤدي إلى بناء هوية مستقرة، لماذا؟

مجموعة القيم الفطرية

أولا: لأن الدين يحقق للإنسان العزة والكرامة والاحترام، ولأن الدين قيم ومبادئ تنسجم مع فطرة الإنسان، والدين هو الذي يحقق ذلك، ويحقق له الاعتبار والاحترام أيضا باعتباره إنسان.

أهم نقطة جاء بها الدين الإسلامي في قضية الوجود الإنساني (ولقد كرّمنا بني آدم في البر والبحر)، فتكريم الإنسان هو أعظم قيمة لوجوده وحياته.

يقول الإمام علي (عليه السلام): (الدين عزّ) أي أن الدين رفعة للإنسان واحترام له، وأيضا يقول (عليه السلام): (الدين أشرف النسبين)، هذا الحديث يعطينا رؤية حول معنى الانتماء، فالإنسان لديه انتماء بالنسب، أي ينتمي لهذه الأسرة أو لتلك العشيرة، فيشعر أنه له وجود إنساني مستمر، وسوف يأتي أبناؤه ويشكلون امتداده وهذا شرف له.

وجود الإنسان مستمر، لكن الدين أشرف النسبين، وأشرف الانتماء، فأقوى انتماء للإنسان هو الدين الذي يفوق الانتماء للأسرة والعشيرة.

كيف نحقق الأمن النفسي؟

النقطة الثانية حول الانتماء الديني وهل يحقق بناء الهوية المستقرة، أن الدين يزيل القلق والشك ويحقق الاطمئنان النفسي، ويحمي الإنسان من السقوط ويحقق له الأمن النفسي، ويتحقق الاستقرار النفسي من خلال تحقيق الاطمئنان، ونبذ الشك المولد للقلق والتشاؤم والسوداوية، لاسيما اننا نلاحظ في عالم اليوم حالة القلق والشك واليأس والحالة السلبية، وهي نتيجة لعدم وجود اطمئنان واستقرار نفسي، وعدم وجود إيمان.

الإيمان الحقيقي الذي يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، هو الذي يحقق له الارتباط النفسي والانتماء الديني الذي يحقق بدوره الهوية المستقرة، الشك والقلق يولد دائما حالات اختلال مستمرة تؤثر على هويته، لا يعرف ما هي هويته لأنه في شك مستمر دائما، ودائما يصل إلى طريق مسدود وإلى حائط كبير يقف أمامهُ، فلا يصل إلى شيء ولا تكون الطرق معبدة له لكي يستمر في حياته.

الآية القرآنية تقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأنعام، 82. الإيمان الحقيقي يوجد عن الإنسان الذي يكون إيمانه فيه عدالة واحترام لنفسه وللآخرين.

هؤلاء الذين يصلون إلى هذا النوع من الإيمان، أهم شيء عندهم أن يحصلوا على الأمان في الحياة، (وهم مهتدون)، فالطريق أمامهم معبّد ومفتوح وغير مسدود.

الانتماء الديني يقود إلى الهداية

خلاصة القول أن الانتماء الديني يحقق الأمن النفسي والخارجي للإنسان، أحيانا لا يشعر الإنسان بالأمن حتى لو توفر له الأمن الخارجي، فهناك فقدان للأمن دائما، والسبب في ذلك لأن الإنسان يعيش في حالة قلق دائمة، لكن الإيمان وذكر الله واطمئنان القلب يقوده نحو الأمن، حتى لو لم يتحقق الأمن الخارجي، لكنه يشعر بالأمن في داخله وهو الأهم.

كذلك الانتماء الديني يفتح الطريق أمام الإنسان نحو الهداية، فيكون طريقه معبَّدا دائما، أما بعض الناس السوداويين فإنهم يرون الطريق مسدود دائما، لكن من يتحقق له الانتماء الديني فإن طريقه مفتوح لذلك يصل إلى الهدف، فهؤلاء الذين يهتدون يصلون إلى أهدافهم بالتوكل على الله سبحانه وتعالى.

الأمن والهداية تبني لدى الفرد الانتماء الديني الذي يحقق له الانتماء النفسي ويحقق وجوده وهويته الحقيقية.

إنها أمراض نفسية يُصاب بها الإنسان وتنتقل إلى المجتمع بسبب سيطرة الشك عليه، لفقدانه للإيمان (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، بمعنى وجود الارتباط وحصول التواصل بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الله سبحانه وتعالى، وبين العالم، وكل هذا يولّد الأمن عند الإنسان، ويشعر بوجود قوة في داخله.

شعور الإنسان بالأمن يعني وجود قوة في نفسه، وفي داخله، تجعله صلبا في مواجهة التحديات الصعبة، ولديه صبر في الحياة واستقامة، لذلك يكون لديه أمن نفسي وكذلك أمن اجتماعي، وفكري وعقائدي، يحقق له الاهتداء فيكون الدرب مضيء له دائما.

(بذكر الله) تعني وجود ارتباط دائم للإنسان مع الله سبحانه وتعالى، بعضهم ينظر هذا المعنى كأنه مجرد شعار، لكنه ليس شعارا وإنما حياة، والتوكل على الله هو ارتباط بقوانين الله سبحانه وتعالى في الحياة، حيث يصبح الإنسان في علاقة حقيقية مع الحياة، وهذه العلاقة تؤدي به إلى انتمائه الصحي وتحقيق هويته المستقرة.

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق