مفهوم الانتماء نابع من مشكلة الاغتراب، وهو من أهم الحاجات الوجودية للإنسان، لأن الانتماء يعني العلاقة المترابطة مع المجتمع والقدرة على الاندماج الصحي، أي أنه ينتمي لكي ينمو او ينمو لكي ينتمي، ويتشكل الانتماء في شخصيته وهويته وذاته، وتتطور مشاعره وحياته حتى يحصل على هوية متكاملة...
في بحثنا عن النتائج النفسية لظاهرة اللامبالاة نصل الى أكثر الازمات تعقيدا التي يعيشها الشخص اللامبالي والمجتمعات التي تعم بها ظاهرة اللامبالاة، وهي ازمة الاغتراب التي تعبر عنها بشكل عميق ضبابية الانتماء وارتباك الهوية. فما هو مفهوم الاغتراب وماهي علاقته بالانتماء والهوية؟
مفهوم الاغتراب
الاغتراب هو مفهوم ينشأ من عدم قدرة الإنسان على الانسجام مع واقع الحياة، لاسيما الانسجام مع المجتمع، وغير مهتم بالروابط الحقيقية مع المجتمع، فيشعر بالغربة وعدم الانتماء وفقدان الهوية، وعدم الانسجام الاجتماعي يتحول الى عدم القدرة على العيش مع الآخرين، مما يؤدي الى اختلال الصحة النفسية باضطرابات نفسية، كالقلق والخوف، والإحساس بوجود فراغ داخلي كبير، لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش لوحده، بل لابد له من العيش مع الآخرين والانغماس في الأجواء الاجتماعية، حتى يستطيع أن ينمو نموا صحيحا يجعله يشعر بالتلاحم والتفاهم والتعايش مع الآخرين.
وعدم الشعور بالانتماء والهوية، يعدّ من أشد أمراض العصر الذي نعيشه اليوم، والخلل والعجز الذي أحدثه عدم الشعور بالانتماء والهوية سببه كما ذكرنا سابقا في موضوع العولمة، أن العالم اقترب كثيرا من الناحية المادية، ولكن ابتعد كثيرا من الناحية المعنوية، ولم يحقق ذلك التقارب المعنوي والأخلاقي والاجتماعي الحقيقي.
لذلك فإن مفهوم الانتماء الذي نناقشه والنابع من مشكلة الاغتراب، هو من أهم الحاجات الوجودية للإنسان، لأن الانتماء يعني الارتباط أو العلاقة المترابطة مع المجتمع والقدرة على الاندماج الصحي، وعندما يستمر الإنسان بالعيش فإنه يحتاج الانتماء الذي يأتي معناه من مفردة النمو، أي أنه ينتمي لكي ينمو او ينمو لكي ينتمي، ويتشكل الانتماء في شخصيته وهويته وذاته، وتتطور مشاعره وحياته حتى يحصل على هوية متكاملة.
البنية الذاتية للانتماء
تتشكل هوية الإنسان وتكون ناضجة من خلال استمرارية نموه النفسي والاجتماعي الصحي ومن ثم انتمائه للمجتمع، فهناك ترابط بين الانتماء والهوية، إنسان هذا العصر التكنولوجي غير منتمٍ، ولا يستطيع أن يشكل هويته، بسبب عدم وجود اندماج.
الهوية الشخصية هي البنية الذاتية التي تتشكل من خلال الانتماء، لكن اللامبالاة تحدث بتصاعد قوي مع انعزال الناس بسبب التطور التكنولوجي المادي، وعدم وجود التطور المعنوي، تجعله وحيدا منعزلا، منفصلا، فيضمحلّ انتماؤه الاجتماعي، ويضعف ارتباطه بالمجتمع تدريجيا، لذا نلاحظ أن هناك نوعا من الخلل الاجتماعي المتصاعد يوما بعد يوم عند الناس، من خلال العزلة التي يعيشونها بعيدا عن بعضهم البعض، حيث يعيش كل فرد لوحده بمعزل عن الآخرين.
فتنطفئ هويته تدريجيا، وبالنتيجة يؤدي هذا الانعزال واللامبالاة والاضمحلال إلى الشعور بالاغتراب وعدم الاندماج الصحي مع الآخرين، فيحدث الضياع والتيه وتبدد الهوية او قلقها او ارتباكها.
الاندماج القسري للمهاجرين
أضربُ مثالا عن ذلك، حول المهاجرين من مجتمعاتهم إلى مجتمعات أخرى، فهناك الكثير يهاجرون إلى بلاد أخرى، أما بسبب الوضع الاقتصادي والبحث عن عيش أفضل، أو بسبب الواقع السياسي او حاكم ظالم او الحروب او الصراعات، فيضطر هؤلاء الهجرة إلى بلدان أخرى، وإن كانت تلك المجتمعات تختلف اختلافا جذريا مع مجتمعات المهاجرين، سواء في الأعراف والمبادئ وفي طريقة الحياة والسلوك، فأما أن يندمج المهاجرون مع المجتمع الجديد، أو يجبرون على الاندماج قسريا، وأما يرضخون طوعيا في آخر المطاف.
الكثير من هؤلاء المهاجرين يعيشون منعزلين، وهذه العزلة سوف تؤدي إلى اختلال في شخصيته، إذ لا يُعقل أن الإنسان يستطيع مواصلة العيش منعزلا عن الآخرين، وفي كل الاحتمالات فان ذلك سيؤدي إلى اختلال شخصيته وضياع هويته، وظهور ردود أفعال عنيفة وانماط متشددة في سلوكياتهم وبعضهم بحثا عن الهوية ينتمي الى جماعات متشددة او إرهابية.
كما ان اللامبالاة تجعل الفرد محايدا تجاه القضايا التي تحدث في المجتمع، وبالتالي يصبح بلا موقف، ولا يهتم بالمعايير المشترَكة الجامعة، وهذا يؤدي إلى انقطاع انتمائه تدريجيا عن المجتمع، وهذا يؤدي إلى اختلال هويته.
وعندما يحدث هذا التطور باتجاه فقدان الانتماء، ومن ثم اختلال الهوية، فكل هذا يؤدي إلى مجموعة مظاهر نلاحظها في مجتمعاتنا وهي:
فجوات بين الأجيال
أولا: الاندماج الشكلي وليس الحقيقي، وبالتالي هذا النوع من الاندماج لا يحقق الانتماء الكافي، فيبقى الإنسان يشعر بعدم حصوله على هويته، فيؤدي ذلك أيضا إلى الانقلاب والتمرد على المجتمع كالشباب مثلا، فالشاب يبحث عن انتماء للمجتمع وعن الإحساس بوجوده فيه والشعور بذاته، في عملية مستمرة لتشكيل الهوية.
هؤلاء عندما يجدون مصدات ومعيقات أمامهم، فإنهم يتمردون على المجتمع، وتحدث فجوات بين الأجيال، فالجيل السابق يريد أن يفرض على الجيل الجديد أولويات معينة، فيما يأتي الجيل الجديد بثقافة مختلفة لاسيما في هذا العصر، فلا يقبل بما يفرض عليه الجيل السابق، لذلك نلاحظ أن الشباب أما يتمرد وينزلق في عوالم ثانية، أو أنه يكوّن ثقافته الخاصة، حيث كل جيل يأتي بلغته ومفرداته وكلماته وسلوكياته الخاصة.
يدل هذا على عدم وجود اندماج حقيقي وتواصل فعلي بين الجيل اللاحق والجيل السابق، لذا فإن هذه الفجوة لابد أن يتم تقليصها أو ردمها، وهذا يتطلب من الجيل السابق أن يتنازل قليلا، ولابد للجيل الجديد أن يتقبل آراء وأفكار الجيل الذي سبقه باسلوب حضاري، ليس المقصود بذلك التنازل عن المبادئ، وإنما هي عملية احتواء من قبل الجيل الأقدم، لأنه أكمل تشكيل هويته وثقافته، لكنه لا يستطيع أن يفرض ذلك على الجيل الجديد بالقوة.
إن عملية بناء وتشكيل الهوية يحتاج إلى أسلوب اللين، والرحمة، والحوار بين الأجيال الذي يعد من أهم الخطوات التي يمكن أن تخفف أو تقلّص من هذه الفجوة التي تفصل بين الأجيال.
الانتماء الى التطرف
ثانيا: من النقاط التي تتسبب في ضياع الانتماء، سلوك التطرف في البحث عن إيجاد الهوية والشعور بالانتماء، وعندما لا يستطيع الإنسان أن ينتمي إلى هذا المجتمع، ولا يندمج معه ولا يحصل على هويته، يصبح متطرفا ومتشدّدا في ردّ فعل عنيف، ضد المجتمع وضد كل شيء لأنه لم يستطع أن يصل إلى حالة الاندماج.
ويمكن ملاحظة ذلك في أمثلة عديدة منها، المسلمون الذين عاشوا في الغرب، فهؤلاء الذين اندمجوا قسريا مع المجتمع الجديد، لاحظوا تناقضا كبيرا بين ما يحملونه من مبادئ إسلامية تمت تربيتهم عليها، وبين الحداثة الغربية، فأدى ذلك إلى حدوث تصادم كبير أدى بدوره إلى وجود مجموعة من الشباب المتطرفين الذين انتموا بالنتيجة إلى الجماعات المتشددة او الارهابية، وهكذا أدى هذا النوع من الاندماج إلى تطرف عنيف، والسبب في ذلك يعود لاسلوب الإدماج القسري للمسلمين مع الغرب.
الانتماء الى الجريمة
ثالثا: دخول الإنسان إلى عالم الجريمة، وهو انحراف سلوكي يعبر عن غياب كامل عن المجتمع، وحقد على المجتمع والانتقام منه عن طريق الجريمة، لأنه بالنتيجة لم ينتمِ إلى هذا المجتمع فيذهب إلى مجتمع آخر أو جماعة جديدة يشعر معها بالانتماء كالعصابات مثلا، حيث يحاول أن يحقق هويته من خلال هذه العصابات، لينتقم من المجتمع الذي لم يحتويه، ويذهب للبحث عن هويته وذاته في هذه الجماعات المجرمة.
النفاق اشد اشكال الاغتراب
رابعا: هناك مشكلة تتعلق بضياع الهوية وعدم تحقق الانتماء للمجتمع، وذلك بسبب الأنظمة السياسية التي تحكم الشعوب بالاستبداد والظلم والقهر، فماذا يمكن أن تنتج هذه الأنظمة، غير انها تنتج النفاق، حيث الاستبداد يؤدي الى انتاج المجتمعات المهزوزة الهشة المفككة فيسودها النفاق، لأن الفرد لا ينتمي انتماءً صحيحا، فينمو متلونا حتى يبقى يعيش في هذا المجتمع الذي توجد في مخاطر كثيرة ومشكلات متراكمة.
إن عدم وجود انتماء منتظم وعدم الانتظام في عملية الانتماء تجعل الفرد لا ينمو نموا طبيعيا، فيعيش في خوف من النظام ومن المهيمنين عليه وسوء الظن بالآخرين ويستغرق بالخوف والشك والريب، فيضطر إلى مجاراة الآخرين فيصبحُ منافقا ذا أوجه عديدة، ويأتي النفاق على نوعين:
الأول: النفاق الخفي حيث يتلون الفرد ويمارس النفاق بشكل خفي من دون أن يعلم بذلك، أي يتربى على النفاق لكي يستطيع ان يعيش في هذا المجتمع، فيصبح سلوكا دائما متطبعا عليه دون يعي انه يمارس سلوكا غير طبيعي.
الثاني: نفاق معروف لصاحبه، فيتلون عدة أوجه مزدوجة من أجل مصالحه الخاصة، ويتعايش مع المجتمع بهذا السلوك ويظن بأنه يستطيع أن يجد له مكانا أو موطئا بين المجتمع من خلال النفاق، دون ان يظهر سلوكه الازدواجي.
من هو المغترب الحقيقي؟
المتلونون والانتهازيون موجودون في مختلف المجتمعات، لكن المنافق في جميع الحالات يبقى يعيش مغتربا مع ذاته ومع مجتمعه وإن كان موجودا فيه، لذلك تجد شخصيته متناقضة جدا بسبب كونه منافقا وكذابا وخائنا ونماما وتسقيطيا، وكل الانحرافات الأخلاقية تكون موجودة في المنافق. لأنه متلون ولهذا فهو مغترب اخلاقيا، وهو نموذج واضح لمفهوم للاغتراب ومظهر جلي لفقدان الهوية، بل ان هويته ان لا تكون له هوية.
بالتالي فإن الشيء الذي ينتهي إليه المنافق، هو الخيانة الاجتماعية، وهو ما نسميه اليوم بالفساد لأنه نتيجة للنفاق، وكذلك الفساد أيضا ينتج النفاق، فالعلاقة والأدوار متبادَلة بينهما، وهذا دلالة على عدم الانتماء الاجتماعي، لأن الانتماء الحقيقي والهوية الواضحة للإنسان تؤدي به إلى الأمانة الاجتماعية.
ومع فقدان الهوية الذاتية والاجتماعية فانه لا يستطيع أن يندمج اجتماعيا ويصبح عاجزا عن اكتشاف ما في داخله من قدرات ذاتية واجتماعية، بل في أحيان تكون قدراته مجرد احتيال يمارسه لخداع الآخرين، وقد يتحول اغتراب المنافق الى حقد عنيف تجاه الآخرين فيصبح ضد اجتماعي، ولكن ليس كل اغتراب يؤدي إلى النفاق، لكن المنافق هو شخص مغترب. في جميع الأحوال.
أحيانا يؤدي الاغتراب إلى أمراض أخرى، مثل الانحراف العقائدي، أو الانحراف نحو التطرف، والتشدّد، والإصابة أحيانا بأمراض نفسية، فلا تؤدي جميع أنواع الاغتراب إلى النفاق الذي اذا انتشر بين أفراد المجتمع يصبح أمرا خطيرا جدا، ويؤدي إلى التوحّش والتنافر والتدمير المتبادَل. لذلك يجب أن نفكر بضرورة صناعة مجتمع صالح يقوم على بناء الانتماء الحقيقي للمجتمع.
الكذب طريق النفاق الطويل
إن النفاق عملية تراكمية، يبدأ تدريجيا وبسلوك معين ويستمر بفعله حتى يتمركز فيه ويتطبع به، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، هذه الصفات جميعها من صفات المنافق وعدم وجود ارتباط حقيقي بين هذا المنافق وبين المجتمع، لأنه شخص أناني يفكر بنفسه ولا يؤمن بأي مبدأ ولا أي روح اجتماعية ولا أي ارتباط اجتماعي، فليس لديه هوية حقيقية، هويته النفاق والتلاعب والتلون.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (نفاق المرء من ذلّ يجده في نفسه)، أي أنه يشعر بالذل وهو الحقارة النفسية، وشعوره بالنقص يجعل منه منافقا، وهذا الشعور بالذل الحقارة والنقص يأتي عندما يكون المجتمع متوحشا، ينتشر فيه الاستبداد والخوف، فالإنسان حين يخاف يريد أن ينقذ نفسه، فيكذب، وإذا كذب فإنه سوف يفعل كل شيء، فالكذب هو طريق النفاق الطويل، لأنه يكون مستعدا لفعل جميع الرذائل. فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن النفاق يبدو لمظة سوداء، فكلما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب).
لذلك لابد أن ينتبه مجتمعنا إلى عدم التربية بالخوف لانه يحول الفرد الى شخصية قلقة ومريضة وبالنتيجة يؤدي بالنتيجة إلى بناء مجتمع من المنافقين، وحين يكون الفرد خائفا من كل شيء ومن الأشخاص ومن الواقع الذي يعيشه، فإنه سوف ينتهي إلى أنه لا يخاف من الله تعالى، وأخطر الأشخاص هم الذين لايخافون الله تعالى.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أربع من علامات النفاق: قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا)، وهذه هي صفات شخصية المنافق التي أراد الإمام (عليه السلام) أن يكشفها، لذلك لابد للإنسان أن يراجع نفسه من خلال مقارنة شخصيته بالصفات التي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبالصفات التي ذكرها الإمام الصادق (عليه السلام) لكي يتخلص من هذه الرذائل التي قد تكون فيه.
الوقاية من الاغتراب
لابد من التأكيد على أن الانتماء والهوية أمران غاية في الأهمية بحياتنا، وقد نتصور أن المشكلات التي نعيشها اليوم خارجية، لكنها في الحقيقة مشكلاتنا داخلية، فحين لا ينتج المجتمع الصلاح، فانه سينتج الفساد. فالتربية الخاطئة تؤدي الى ان يفقد الفرد ولاءهُ للمجتمع وللوطن، ويتحول الى متلاعب فاسد بدون مواطنة حقيقية.
لذلك نحن نحتاج إلى بناء المواطنة الحقيقية من خلال توفير الانتماء الحقيقي لهذا الإنسان، عبر التربية الصالحة والشعور بالإنصاف والعدالة وهذا يتم من خلال تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية بعيدا عن التعامل الطبقي والتفاوت والاستئثار والاستبداد، فكيف يكون للإنسان حس وانتماء وولاء للوطن إذا تم معاملته بأساليب النبذ والإهمال والتهميش.
لماذا أصبح الاغتراب ظاهرة عالمية؟
بعض المفكرين الغربيين يؤكدون على أن التطور المادي والتطور المديني للمجتمعات في العصر الحديث، أورث الكثير من القيم والسلوكيات المنحرفة فأصبحت في حالة اختلال، فانفرط التماسك والترابط الاجتماعي فيها، وتعملقت القضايا المادية بين الناس، لذلك لا يشعر الفرد بأنه منتمٍ لهذا الوجود الإنساني، ولا يشعر بالزمن، ولا الهدف ولا الحاجة، بل يعيش في مجتمعات بديلة أو مجتمعات افتراضية، تؤمن له المتعة واللذة فقط.
فلا يمكنه أن يمارس أعمالا روحية ومعنوية ترمّم ذاته وتهذب نفسه، فعوالم اللذة والمتعة في الأكل والشرب والترف واللهو أصبحت سجنا له، وهذا بالنتيجة يؤدي به إلى الاغتراب، ويعيش حالة الاحتقار الذاتي والشعور بالذل والامتهان في الحياة، ويكون منعزلا يستعبده الشعور بالعجز وعدم القدرة على مواكبة العصر الذي يسبقه.
لذا نلاحظ أن شبكات التواصل الاجتماعي اليوم، تولّد عملية الانهزام في نفس الإنسان دائما، وتغذيه بالشعور بالنقص والانهزام الذاتي وبعدم قدرته على التطور والنجاح في حياته.
الاغتراب الثقافي
هناك أيضا مشكلة الاختراق الثقافي، فحين يكون الإنسان غير محصّن في عملية اطلاعه على الثقافات الأخرى التي تأتي بأشكال جميلة مبهرة، وهو يفتقدها في مجتمعه، مثلا الابنية الحديثة بأشكال وتصاميم تكنولوجية جديدة ومبهرة، ومظاهر مادية عالية الإبهار، وهذا الاختراق الثقافي يتغلغل في ذاته ويثير التناقضات بين عالمه والعوالم الاخرى، فتتصدع أفكاره وتتغير سلوكياته ويتخلخل انتماءه، فيشعر بنفسه بأنه منهزم نفسيا في مجتمع متخلف وينهار بدون عقلانية امام الثقافات المتقدمة.
الاغتراب العنصري
عندما يتعرض الفرد الى تناقضات شديدة مع الآخرين وتتكرس فيه حالة الفشل الذاتي فسوف يصبح عنده رد فعل داخلي ويتحول نحو حالة الاحتقار لكل شيء، ونحو الانغلاق العنصري والكراهية والاستئثار، كل هذه الافرازات تأتي كنتائج لانغلاق المجتمعات على نفسها، ومحاولتها الحفاظ على هويتها بأسلوب متطرّف ومتعصب فتتصاعد فيها حالات العنصرية ضد الآخرين، مع أنها قد لا تعرف لماذا تتشكل فيها العنصرية، لكن تصادم الثقافات وتضارب المصالح والغرور الفئوي والشعور الجماعي بالنقص يؤدي الى التعصب الاحتقار الإنساني، لكن السبب الرئيسي لتشكل العنصرية هو بسبب عدم بناء الانتماء السليم والهوية الصحيحة، وبالتالي ظهور القلق والاغتراب الجماعي الذي يزرع الأوهام الايدلوجية المتراكمة تاريخيا.
أشكال الاغتراب الانهزامية
أحد أشكال الاغتراب التي تؤدي إلى اللامبالاة هو النرجسية، فالإنسان بطبيعته وجوهره يتكون من النفس والعقل، وأي تخلخل بين هذين المكونين الرئيسين سيؤدي بغياب العقل إلى الانانية والنرجسية وحب الذات فعندما يفشل الفرد في الاندماج الذاتي ينغلق على ذاته يفقد روح الانتماء وتتشكل فيه هوية فردية مطلقة، وكذلك فان التمحور حول ذاته وشعوره المطلق بالتفوق يرسم تناقضات حادة مع الآخرين وبالتالي منفردا ومغتربا غير منتميا جماعيا واجتماعيا.
صناعة الهويات القلِقة
يكثر الكلام اليوم حول صراع الحضارات أو صدام الحضارات، وصدام الثقافات، وهذه النظريات ليست صحيحة فالأصل هو التعارف والتعايش بين البشر (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات 13، لكن هذا التداخل الفوضوي والاحتكاك المادي الاعمى والغزو الثقافي غير الاخلاقي الذي يحدث اليوم بين البشر، له أضراره الكبيرة جدا، مثلا تصدير الإباحية والحفلات الراقصة والموسيقى الصاخبة والغناء والنتاجات السينمائية والتلفزيونية واشكال الموضة للمجتمعات الأخرى، وكذلك تصدير الانتهازية، والجريمة التي نلاحظها بالخصوص في معظم الأفلام الغربية المليئة بالعنف واللصوصية والخيانة.
هذا كله يؤدي بالنتيجة إلى صناعة هويات قلقة، غير مستقرة، فالحداثة الغربية عبر التصدير الثقافي تسعى الى تفكيك الانتماء والهويات وبالتالي تبقى المجتمعات بلا هويات فاقدة للانتماء تعيش البرزخ بين عالمين متناقضين.
فاذا اردنا أن نحدِّث ونطور مجتمعاتنا لكي نحقق التجديد والحداثة، فإن انفتاحنا على الآخر لابد أن يكون مدروسا حتى نستطيع أن نكون مجتمعات منتمية بشكل صحي، ونصنع هويات حقيقية ثابتة لأبنائنا، والانتماء لابد أن يكون للمبادئ والأخلاقيات والدين (كنتم خير أمة أُخرِجتْ للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، هذا هو الانتماء للأمة الإسلامية.
فالانتماء يكون للدين وبه تنشأ الهوية الصالحة، لكي يستطيع الإنسان أن يحصل على وجود حقيقي، أما إذا كان الانتماء فئوي خالص في جماعة منغلقة على نفسها، فهذا يعني الاغتراب الجماعي عن المجتمع الذي بدوره يؤدي الى غياب الهوية الجامعة وحصول الانشطارات والصراعات، لذلك نحتاج إلى رابط ديني عام يجمعنا ويوحدنا.
لماذا الانتماء للدين الإسلامي؟
لأنه دين الرحمة والسلام والتعايش والتسامح، وحتى غير المسلم يعيش مع المسلمين في حالة تعايش، لأن مبادئ الإسلام تجعل الناس منتمين ومترابطين فيما بينهم، فيخلق مجتمعات حقيقية، فيما إذا طُبِّق بشكل صحيح، ولا نطبّق الإسلام الشكلي ونترك الإسلام العميق كما تفعل بعض الدول والأنظمة والمجتمعات الشكلانية كما يصفها البعض.
إننا نحتاج إلى مجتمعات إسلامية تقوم على الصدق والأمانة والحرية والتعايش والمحبة والسلام، كما هو موجود في الآيات القرآنية، لذا يُبنى المجتمع الصحيح من خلال الارتباط الديني، ومن أهم القضايا التي سوف نتناولها، وتكلم عنها القرآن الكريم وتعد من أسس الإسلام هي الأمة الواحدة والأخوّة، فمبدأ الأخوة الدينية والإنسانية هو الذي يجمع الناس، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك).
أزمة الاغتراب الديني
هذا الإطار الذي جمع الناس هو الذي حقق الهوية والانتماء الحقيقي للإنسان، لكن عندما ندخل في عالم من الفوضى الحداثوية، ونستورد كل شيء دون أن نمحّص وندقّق فهذا لا يجدي نفعا، بالطبع نحن لا يمكن فرض على الناس اختيارات محدّدة، فكل إنسان حر في اختيار ما يريد، لكن لابد للإنسان أن يكون ذكيا ومؤمنا حقيقيا حتى يختار الشيء الجيد في حياته لتكون صالحة.
كثير من الناس ضاعوا بسبب الاختيارات السيئة، فاختاروا الطريق الذي يقع خارج إطار الدين، فتعرضوا لأنواع الانحرافات، أما انحراف أخلاقي أو عقائدي أو سلوكي، وبالنتيجة ضاع الارتباط وضاعت الهوية وحدث الاغتراب، لأنه الإنسان لم يجد نفسه، فأنت تحتاج إلى مكان صالح للعيش، وهل يصح أن تعيش في الصحراء، لا يمكن ذلك لأنها مجدبة ليس فيها ماء، لذلك فإنك تحتاج إلى بيئة جيدة تحتضن الإنسان بحيث ينمو فيها بطريقة صحيحة.
لذا نحتاج إلى بيئة إسلامية دينية، تقوم على مبادئ تتلاءم مع فطرة الإنسان، فينمو وينتمي انتماءً حقيقيا، وبالتالي تصبح لديه هوية حقيقية، يكون قادرا على الشعور بذاته وإدراك نفسه من خلال هذه الهوية.
ان مجتمعنا اليوم يعيش في أزمة، يمكن أن نسميها أزمة الاغتراب الديني، بحيث أصبح حتى المؤمن مغتربا في مجتمعه المسلم، لذلك لابد للإنسان أن يتعلّم كيف يعيش اجتماعيا ويتضامن مع الآخر بعيدا عن النرجسية وحب الذات، ويتعايش مع الآخر، ويفتح معه حوارا متكاملا، لكي يكون متقاربا معه، ويركّز على نفسه في جانب البناء الروحي والعقلي والتقليل من البهرجة الجسدية إذا صحّ التعبير، لتجاوز أزمة الاغتراب التي يعاني منها.
في البحث القادم سنتطرق لأسباب فقدان الانتماء وضياع الهوية، وكيف يمكن إيجاد الحلول لهذه الظاهرة المعاصرة والمعقدة.....
اضف تعليق