إنها مفارقة أن نطلب من القوى التي انبثقت من نظام العشوائيات السياسية الاستجابة لمسألة تفعيل دور القضاء وتحكيم سلطة الدستور والقانون التي تريد إزالة العشوائيات القائمة، لكننا نستند في دعوتنا هذه إلى الخطاب السياسي السائد والذي يركز على طلب الإصلاح وتعزيز دولة المؤسسات حيث لا توجد طريقة لبناء دولة حامية للمواطن...
المحكمة الاتحادية العراقية هذه الأيام أكثر لاعب مؤثر في توجيه دفة العملية السياسية نحو مسارات دستورية بعيداً عن العشوائية السابقة التي عُرِفَت فيما بعد بالتوافقية والصفقات والتنازلات المتبادلة بين السياسيين على حساب حقوق الشعب.
القرارات السياسية التي تجري خارج نطاق الدستور تُغلف بمواد عازلة تحميها من سخونة النقد، فالمرشح لرئاسة الجمهورية يشترط أن يكون عراقياً وحسن السمعة وممن يملك مقومات تسنم هذا المنصب التي حددها الدستور، لكنه لم يشترط قومية كردية لمن ينال المنصب.
سياسياً الواقع مختلف، الشرط الأساسي لترشيح الشخص لرئاسة الجمهورية أن يكون كردياً أما الشروط الأخرى فتأتي بدرجة قليلة الأهمية، وهناك تقليد أكثر تحديداً لكنه أقل رسوخاً، إذ يراد من مرشح الرئاسة أن يكون كردياً ومن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
على نفس الطريقة ينتخب رئيس مجلس النواب، الشرط الأول بالنسبة لقادة البلاد السياسيين أن يكون سنياً، المفارقة هنا أن رئاسة البرلمان توزعت بعدالة بين المحافظات السنية "ديالى والموصل والأنبار" مع الأخذ في الاعتبار استحالة انتخاب رئيس لمجلس النواب من محافظة النجف أو ميسان.
تبقى رئاسة الوزراء وهي أهم منصب تنفيذي من حصة الشيعة الذين حصروها في محافظاتهم الوسطى فقط، بينما يحلم الجنوبي الشيعي بهذا المنصب ولا يصل إليه.
أطلق على هذه القسمة غير الدستورية بتوزيع المناصب بين البيوتات، (البيت الشيعي الأكبر، والبيت السني، والبيت الكردي).
هذه القسمة لا تستند إلى نصوص دستورية، إنما تعود لقاعدة أسسها الحاكم المدني للعراق بول بريمير واستمرت حتى هذه اللحظة تضرب أي محاولة لجعل الدستور المرجعية الأولى والحَكَم في فض المنازعات لنتحول من دولة البيوتات المبنية بعشوائية سياسية، إلى دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقوانين.
صحيح أن طريقة البيوتات الشيعية والسنية والكردية تدير العملية السياسية برمتها، وتتخذ من التقسيم الطائفي والقومي قاعدة للعمل وكأنها "قاعدة نظامية"، لكنها مبنية بطريقة عشوائية شبيهة بالعشوائيات المنتشرة في جميع المحافظات العراقية التي شوهت المدن وخلطت الريف بالمدينة وراكمت السكان في مدينة بينما أفرغت أخرى نتيجة عدم الاعتماد على قانون ينظمها.
قد يكون من الصعب الملامس للمستحيل إنهاء فكرة البيوتات السنية والشيعية والكردية، إلا أن المحكمة الاتحادية تستطيع العمل على تطويق هذه العشوائيات السياسية عبر إحكام قبضتها على المناطق المحيطة بهذه البيوتات.
على سبيل التوضيح منعت المحكمة ترشيح هوشيار زيباري لرئاسة الجمهورية رغم ثقله كشخصية كردية وثقل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي رشحه، قرار كهذا يمثل خطوة متقدمة لتطويق السياسة العشوائية بحزام من القرارات المستندة للدستور.
ومع استمرار عملية التطويق يدفع ذلك لو استمر بنفس القوة القوى السياسية إلى التفكير بالتبعات الدستورية بشأن أي خطوات تتخذها حتى لا تقع بنفس الإحراج والهزيمة التي تعرض لها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يعد أقوى الأحزاب الكردية وأحد أهم الفاعلين على المشهد العراقي عموماً.
في رحلة تطويق العشوائيات السياسية تحتاج المحكمة الاتحادية إلى دعم القوى السياسية الراغبة فعلاً في إصلاح الوضع الراهن، من خلال الاستجابة لقراراتها وعدم إطلاق الاتهامات والابتعاد عن التخوين والتشكيك بالمحكمة لأنه يقلل من فعاليتها.
فكل قرار تتخذه المحكمة الاتحادية مرهون بوجود أحزاب لها قدرة كبيرة على الاستجابة والتفاعل والدعم لترسيخ القيم الدستورية والقانونية على حساب القيم العشائرية وسيادة قوة السلاح والمال في مجال العمل السياسي.
إنها مفارقة أن نطلب من القوى التي انبثقت من نظام العشوائيات السياسية الاستجابة لمسألة تفعيل دور القضاء وتحكيم سلطة الدستور والقانون التي تريد إزالة العشوائيات القائمة، لكننا نستند في دعوتنا هذه إلى الخطاب السياسي السائد والذي يركز على طلب الإصلاح وتعزيز دولة المؤسسات حيث لا توجد طريقة لبناء دولة حامية للمواطن ومهابة محلياً وخارجياً بدون وجود قاعد عمل ثابتة وأحكام محددة منصوص عليها بالدستور والقوانين المنبثقة منه.
اضف تعليق