ولأن الحكومة لا تملك هذه المقدرة يصعب الحديث عن حل للتصدعات التي تعاني منها الدولة العراقية وستبقى مرافقة لنا وربما حتى للأجيال التي سوف تخلفنا ما دمنا حائرين بين الانحياز للدولة المدنية المستندة إلى القانون، أو الانحياز للعشائرية والجماعات السياسية الحاملة للسلاح...
اعتدنا في السنوات الأخيرة على قراءة أخبار عن هزات أرضية وبأوقات متقاربة في المحافظات الجنوبية والشمالية للعراق، إلا أنها هزات خفيفة قليلة الخطورة ولا تصل إلى مرحلة إحداث كوارث وسقوط ضحايا كما هو معتاد في أنحاء أخرى من العالم.
مقياس ريختر الذي يقيس اهتزازات الكرة الأرضية أغفل الاهتزازات التي تصعب السيطرة عليها، نتيجة التصدعات الكبيرة في أسس بناء الدولة العراقية ليس بصفتها مكوناً طبيعياً من صخور وتراب، إنما بمكوناتها الاجتماعية والسياسية والعقائدية.
كلما تقادم الزمن تتقارب خطوط الصدع العراقية وقد تتباعد حسب الأوضاع العامة والعلاقات إن كانت متوترة أو متوترة جداً، لم تتقارب أو تباعد لتأتلف وتنتج أساساً صلباً، إنما لتُزلزل الأرض تحت أقدام العراقيين كلما اقتربت من بعضها البعض، وتثير الهلع والقتل والتدمير بما يشبه الزلازل الطبيعية أو يزيد عنها.
آخر زلزال عراقي حدث قبل أيام في محافظة ميسان الجنوبية، اقتربت كتلتان سياسيتان من بعضهما بطريقة تشبه اقتراب الأعداء في ساحة المعركة، خطورة الاقتراب هذا تأتي من الآلة العسكرية المرعبة التي يملكها كل طرف.
ارتبكت محافظة ميسان نتيجة هذا الاحتكاك، وقتل حسام العلياوي وهو ضابط في وزارة الداخلية وشقيق القيادي في عصائب أهل الحق وسام العلياوي الذي قتل عام 2019، ولأن الزلزال لا يستثني أحداً قتل القاضي أحمد الساعدي يوم السبت الماضي.
تتصاعد الأصوات المنددة بما يجري والمطلب إيقاف النزيف، لكن حجر السياسة الساقط من أعلى جبل الخلافات لا يمكن إيقافه بمبادرة من هناك أو خطاب من هناك.
آخر عملية اغتيال طالت كرار أبو رغيف، أحد عناصر التيار الصدري بإطلاق النار عليه في مركبته في حي المعلمين، فيما تعرضت زوجته لإصابة خلال عملية الاغتيال.
زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصد الذي يعد أكثر الزعماء سيطرة على أتباعه ألمح إلى صعوبة ترميم ما تهدم، لأن الموجات الارتدادية ما تزال مستمرة ولأن بعض الأتباع قد لا يتقيدون بتوجيهات قادتهم.
السيد الصدر دعا "الأخوة في التيار والأخوة في العصائب إلى التحلي بالهدوء والتصالح بعيداً عن القيادات"، وأشار إلى إنه إذا كان البعض لا يلتزم بما يقوله السيد مقتدى ليعود إلى ما يجمع الطرفين وهو الانتماء لمدرسة فكرية واحدة اسمها المدرسة الصدرية.
الصدع السياسي
لا تثير هذه النزاعات بين الفصائل المسلحة المتابع للشأن العراقي وحتى المواطن نفسه، حتى وإن بدت مخيفة ومهددة للسلم الأهلي، فالجميع يعرفون (خبراء ومواطنون)، أن سلاح الجماعات المسلحة أقوى من سلاح الدولة، وإرادة الفعل والتنفيذ وممارسة أي شيء هي ميزة تتمتع بها الجماعات المسلحة أكثر من الحكومة والقوات الأمنية نفسها.
على سبيل المثال، عندما يكون هناك نزاع بين طرفين سياسيين يملكان قوة عسكرية ويسقط ضحايا لا تتدخل الحكومة لمعاقبة الطرفين لكونهما يملكان سلاحاً غير مرخص، ويمارسان دوراً لا يحق لهما ممارسته، إنما تدخل الحكومة كطرف وسيط لحل النزاع بطريقة مشابهة لعمل الأمم المتحدة التي لا تجيد سوى الاستنكار والتوسط بين أطراف النزاع.
هذا السلاح الذي تملكه جهات سياسية لها تمثيل في الحكومة والبرلمان يمكن أن نسميه بخط الصدع الأول الذي لا يمكن للدولة أن تؤدي دورها بفعالية مع وجوده، وسيبقى يؤرق كاهل قادة البلاد ما دامت بعض الجهات السياسية تملك السلاح.
سوف تتعرض المحافظات لزلازل سياسية وعسكرية وعمليات قتل بين مدة وأخرى، بينما لا تستطيع الحكومة فعل شيء لأنها أصغر من فرض إرادتها على الجميع.
الصدع العشائري
لا يحتاج الصدع العشائري إلى مزيد من الشرح فهو يشبه نظيره السياسي في جوانب عدة، العشيرة أقوى من سلطة الحكومة، ورغم أن العشائر تملك أسلحة فتاكة لكن ليس هذا فقط مجال القوة والمناورة لدى العشائر.
العشائر تملك شيئاً تفتقده الحكومة، إنها القيم التي يسير بها المجتمع، ويمكننا القول أنها القيم البدوية التي لا تعترف بالقانون إلا في مجالات المعاملات اليومية الروتينية، أما الخصومات والنزاعات فالحل يكون بيد العشيرة ولا يحق للحكومة التدخل.
وقد تتدخل الحكومة في بعض النزاعات العشائرية، إما بطريقة الوساطة كما يجري مع الجماعات السياسية المسلحة، أو لأن العشيرة ضعيفة وغير قادرة على مواجهة الحكومة، والتدخل الأخير بشأن العشائر الضعيفة بسيط ولا يكاد يغير المعادلة.
الصدع المختلط
الحكومة ذاتها متصدعة من الداخل، وتعاني من انهيارات تجعلها تتعثر عندما يتطلب منها القيام بفعل يوقف حالة الخصومة والاحتراب بين العشائر وبين الجماعات السياسية المسلحة.
لأنها (إي الحكومة) مكونة من أعضاء هم مزيج عشائري وسياسي مسلح لا يعترفون بالحكومة ككيان مستقل.
لأوضح المسألة أكثر، ينظر العنصر العشائري كما ينظر العنصر التابع لجماعة سياسية مسلحة – ينظر- للدولة على أنها أداة تمكنه من تنفيذ أهدافه حسب قيمه السياسية وتقاليده العشائرية.
فالانخراط في الدولة يعني تعزيزاً لقوة العشيرة أو الحزب السياسي، ولا تعني إطلاقاً الاندماج في قوانينها.
والفيصل فيما نقول، أنه عندما تتضارب مصالح العشيرة أو الحزب السياسي المسلح مع مصالح الدولة العليا يتم الانحياز لصالح العشير أو الحزب على حساب الدولة، وهذا صدع كبير لا يمكن إصلاحه بخطاب سياسي غير جدي، ولا بمبادرات آنية، إنما يتم إصلاحه بجعل مصالح الدولة فوق كل مصلحة، ومنع أي شخص من أخذ دور الدولة بحجة العشائرية أو الانتماء لجماعة سياسية مسلحة لأي سبب كان.
ولأن الحكومة لا تملك هذه المقدرة يصعب الحديث عن حل للتصدعات التي تعاني منها الدولة العراقية وستبقى مرافقة لنا وربما حتى للأجيال التي سوف تخلفنا ما دمنا حائرين بين الانحياز للدولة المدنية المستندة إلى القانون، أو الانحياز للعشائرية والجماعات السياسية الحاملة للسلاح.
اضف تعليق