لقد أفرزت الانتفاضات نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدّماً وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي. لقد بدأ الشباب بكل حيويته وطاقاته ومبادراته، وعلى الجميع اليوم الاستماع إليه والوقوف خلفه ليصل إلى طريق الديمقراطية، وليتمكّن من حماية ثورته...
أظهرت الانتفاضات الشعبية ضمور دور الدعاة الحزبيين الأيديولوجيين، العقائديين، الذين بشّروا الناس بالجنة، أو بعالم يحقق الوحدة العربية أو تحرير فلسطين (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في مملكة الأرض، بل على قيم السماء.
هكذا ظلّت الأمور تجريدية أحياناً، فالصراع على القيم والمثل التي كان لها أن تتحوّل إلى خطط وبرامج، وهذه الأخيرة إلى أعمال وأفعال، هو الفارق بين كلام الأمس وكلام اليوم. وهذا ما ينبغي فهمه والتعامل على أساسه، ولعله أكبر الأسئلة التي تواجه عملية التغيير!
لم تكن الرومانسية القديمة كافية لإشعال حماسة الشباب، بما فيها الوعود والآمال الكبيرة والشعارات البرّاقة، البعيدة المنال؛ لقد حلّت محلّها الواقعية السياسية، بلا شعارات كبرى ولا وعود أقرب إلى السراب.
لقد انتظمت الملايين بشعارات مبسّطة: عاشت الحرية، تعديل الدستور، القضاء على الفساد واحترام حقوق الإنسان. هكذا سدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته، وهو يبرّر خطاب الحاكم بالقمع السياسي أو بالقمع الفكري وبحرق البخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المعارض الذي كان بعيداً أو غائباً أو مخادعاً، أو الأغلبية الصامتة المغلوبة على أمرها، كلهم كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة، وإنْ التحقوا بعد حين وسط جو من الدهشة والارتباك.
لقد أنهت المعركة الحقيقية التي أرادها الشعب، المعارك الوهمية الصغرى، حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، رافعة أفضليات الجماهير المبادرة وجيل الشباب المتقدّم الذي قاد الشعب كله إلى الالتحام بكل فئاته، جاعلاً من انتفاضته، ولأول مرة في الوطن العربي، ثورة شعبية سداها ولحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبراغماتيته، ناقضاً مفاهيم ومسلّمات سادت، كمقولة أن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوفر لها قيادة مُلهمة أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم حزب قائد "طليعة"، أو أن التغيير لن يتحقق في ظل أنظمة استبدادية ودكتاتورية عاتية دون تدخل الجيش، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها انجاز التغيير دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً " العامل الدولي" الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر دام ثلاثة عشر عاماً، إلى الاحتلال البغيض.
وأثبت جيل الشباب بأنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة، فدخل في سبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية دجّنت الشعوب بعوامل الجوع والخوف فضمنت خضوعها اللامحدود بمكان أو زمان، وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات، مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه وقهره في أولى خطواته نحو الوجود والكرامة.
لم يكن للانتفاضات رمز قائد أو زعيم مخلّد أو ملهم مخلّص، يصبح لاحقاً "معبوداً" ومقدساً، وفوق حدود النقد. ولم يكن لها أيضاً نصوص مقدسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانت تواجه الواقع المعقّد بشعارات واضحة ورمزية وواقعية في آن واحد. ومثلما ضد الصنميّة، فإنها كانت ضد النصوصية، أي أنها ضد المسلّمات واليقينيات والقدسيات والسلفيات المشوّهة والوعود الزائفة، وعابرة للطوائف والطبقات الاجتماعية والمجموعات القبلية والعشائرية، واضحة في مطالبها، وحاسمة برفضها للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدة إخلاصها ونزاهتها والتزامها بمطالب شعوبها.
إن الانتفاضات بإسقاطها الدكتاتوريات وضعت سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكية: أين دورها وما هو موقعها من الخريطة السياسية الجديدة؟! تلك التي ظلّت تلوك خطابها ولغتها الخشبية عقوداً من الزمان، سواءً أكانت شيوعية أم قومية أم إسلامية، حتى دون مراجعة أو نقد على الرغم من كل المتغيّرات؟ هكذا قدّمت الجماهير الغاضبة الفعل الثوري الواقعي الحسّي، على حساب الأيديولوجيات والوعود والخطابات الاجتماعية والثقافية، التي سمعتها كثيراً.
حقاً لقد أفرزت الانتفاضات نمطاً جديداً من التفكير والممارسة متقدّماً وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي. لقد بدأ الشباب بكل حيويته وطاقاته ومبادراته، وعلى الجميع اليوم الاستماع إليه والوقوف خلفه ليصل إلى طريق الديمقراطية، وليتمكّن من حماية ثورته، قبل أن يتم الالتفاف عليها أو سرقة منجزاتها أو اللعب بمستقبلها.
إن انفجار الغضب العفوي الجماهيري في مواجهة "الفجور"، النيوليبرالي، المتمثل في أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، هو "شرط انتقال الخوف من ضفة الناس إلى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلّة الأمل" على حد تعبير غسان سلامة!
اضف تعليق