يتم حاليا خوض معركتين في أمريكا أولها تداعيات فشل صراع طويل ضد ما يسمى باستئصال الإيديولوجيات الإرهابية الوحشية وثانيها تتعلق بمصير هيبة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عالميا، وبذلك فإن المستقبل القريب يعلل نفسه من جديد عند الاستعاضة بمشاهد الأمس، يقودنا السؤال الأكثر جدلا اليوم في المشهد الأفغاني...

إن رسم خريطة التنبؤ لما سيأتي بعد نهاية حرب أمريكا في أفغانستان التي يمكن اعتبارها ولادة قيصرية صاحبها موت الجنين المكنى إرهابا، وعودة سيطرة طالبان على المشهد السياسي بعد 20 عاما من حرب الإستنزاف التي عصفت بالبلاد، ذلك كما هو الإسفاف من قبل متشدقي الديمقراطية الغربية عند الحكم بموت أي نجاح محتمل لحركة طالبان في قيادة أفغانستان إلى بر الأمان.

لذا يمكن المحاججة أنه يتم حاليا خوض معركتين في أمريكا أولها تداعيات فشل صراع طويل ضد ما يسمى باستئصال الإيديولوجيات الإرهابية الوحشية -مع التحفظ على تسمية الحروب الأمريكية بحروب على الإرهاب- وثانيها تتعلق بمصير هيبة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عالميا، وبذلك فإن المستقبل القريب يعلل نفسه من جديد عند الاستعاضة بمشاهد الأمس، بالمقابل يقودنا السؤال الأكثر جدلا اليوم في المشهد الأفغاني إلى مدى نجاح حركة طالبان في خوض معركة البناء ولم الشمل المتناثر على مدار عشرين سنة من خلال تلافي أخطاء الماضي.

فإذا قمنا بفحص سريع لخطابات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 كصدى من الماضي القريب أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش في خاطبه بتاريخ 7 أكتوبر 2001 أن "الشعب الأفغاني المضطهد سيعرف كرم أمريكا وحلفائنا، وبينما نضرب أهدافًا عسكرية سنقوم أيضًا بإلقاء الطعام والأدوية والإمدادات على رجال ونساء وأطفال أفغانستان الذين يعانون من الجوع والمعاناة، إن الولايات المتحدة الأمريكية صديقة للشعب الأفغاني، ونحن أصدقاء لما يقرب من مليار شخص في جميع أنحاء العالم ممن يمارسون العقيدة الإسلامية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي عدو لمن يساعدون الإرهابيين والمجرمين الهمجيين الذين يدنسون دينًا عظيمًا بارتكاب القتل باسمه، هذا العمل العسكري هو جزء من حملتنا ضد الإرهاب... فإننا سنفوز بهذا الصراع من خلال التراكم الصبور للنجاحات... لن نتنازل ولن نتعب ولن نتعثر ولن نفشل، سيسود السلام والحرية."

يبدو اليوم صدى مثل هذا الخطاب بعد مشهد تشبث عدد من الأفغانيين بالطائرة الأمريكية وهي تغادر تراب أفغانستان أشبه بالصراخ الإنشائي والمزايدات اللفظية، بل وصمة عار للإمبريالية الأمريكية كما يحلو للبعض وصفها سقطت معها كل وعود الحرية والديمقراطية والسلام المنشود لتتضح قذارة الحرب على الإرهاب المزعومة بسبب تراجع الآمال في رسم عهد جديد من الحكم الديمقراطي المستقر في أفغانستان، وبذلك اهتزت القيم الديمقراطية الغربية، ولم تعد تلهم الشعوب في العالم لتصبح الديمقراطية تحت مظلة قيم الليبرالية الجديدة تشهد أزمة عالمية رغم أن جون بايدن دافع عن أمريكا بأنها حققت هدف الحرب على الإرهاب حين أكد بأن انسحاب أمريكا من أفغانستان ليس فشلا طالما أن حركة طالبان ملتزمة بكل الوعود وبنود الإتفاقية التي تنص على أن طالبان ستمنع الجماعات الإرهابية من العمل على الأراضي الأفغانية، لذا لا يمكن مقارنته بإخفاق الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الفيتنام.

فلا مجال يدعو للريبة أن الحرب في أفغانستان خلفت اقتصادا يحتضر وظروفا مأساوية- ناهيك عن ما يقارب 100 ألف مدني قتل ونزوح مليوني شخص، وهو ما عبر عنه الرئيس السابق ترمب أن الجميع قد سئم الحرب، بالمقابل ارتفاع فاتورة الحرب الأمريكية وحجم الخسائر التي مني بها الطرف الأمريكي طيلة عشرين سنة حتى أطلق عليها تسمية حرب الإقتراض- وهي المعركة الجديدة التي تقف بشراسة في وجه حركة طالبان، ومن هنا إذا أردنا توصيف الوضع بنظرة أقل تشاؤما تحتاج أفغانستان إلى رؤية معمقة عن ما إذا كان للديمقراطية مستقبل في ظل هذا الاضطراب تزامنا مع التطورات التي تشهدها البلاد بعد الإنسحاب الأمريكي الذي عكس باطن الحرب على الإرهاب، والتي منحت أملا مزيفا عن الديمقراطية الليبرالية الجديدة رغم أن العديد من شعارات تلك الحرب تعكس أو تعبر عن الأفكار الليبرالية الجديدة التي جوهرها الحرية وحقوق الإنسان، وسيادة القانون والديمقراطية، واقتصاد السوق والرأسمالية، هذا يعني حتمية إعادة رسم أرضية جديدة للديمقراطية العقلانية من قبل حركة طالبان وكل الأطراف المتنازعة، والتي تتكيف مع تطلعات الشعب الأفغاني وخصوصياته بعيدا عن زناد البنادق وانفجارات القنابل.

بل يجب أن تتجسد أولا من خلال درء مظاهر الإستبداد، والحوار المثمر للتسوية السياسية من أجل تفادي انزلاق البلاد إلى حرب أهلية مدمرة، ثانيا الإنفتاح على العالم عبر قنوات الإستثمار الأجنبي والشركاء الإقليميين على غرار باكستان وروسيا والصين، هذه الأخيرة أبدت رغبتها في خوض معركة إعادة الإعمار في أفغانستان وتفعيل سبل التعاون الإقتصادي والتسوية السياسية لبناء السلام، وبذلك يمكن تحديد بعض تداعيات الإنسحاب الأمريكي وسيطرة حركة طالبان من خلال سيناريوهات محتملة للمشهد السياسي في أفغانستان.

سيناريو عودة سيطرة الجماعات الإرهابية: يتأكد هذا السيناريو انطلاقا من الغموض الذي يكتنف كيفية التحقق من الإتفاقية المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وطالبان وآليات إنفاذها، ما يشكل مناخا خصبا لعودة نشاط بعض الجماعات الإرهابية على غرار تنظيم داعش والقاعدة.

سيناريو الحرب الأهلية: يتأكد هذا السيناريو- الذي نستبعد حدوثه لأن طالبان قد وعت الدرس- في حالة رفض طالبان للحوار السياسي وتقاسم السلطة، وبالتالي الفشل في الوصول إلى تسوية سياسية مع بقية الأطراف، وتعثر مباحثات السلام.

سيناريو التسوية: وهو نقيض السيناريو السابق يفترض التزام طالبان بالإتفاقية والسعي نحو التسوية السياسية عبر تغليب الإرادة الشعبية ومصلحة عودة الإستقرار في البلاد والمضي قدما نحو إعادة بناء السلام وإعادة الإعمار، وهو السيناريو الذي نرجحه، فليس من مصلحة أي طرف العودة إلى تبني خيار حرب أخرى ستكون أكثر استنزافا ودمارا، حيث يعد قرار العفو عن المترجمين والمتعاونين مع أمريكا منذ 2001 دليلا على ذلك.

* باحثة من باتنة/الجزائر
samia20171935@outlook.fr

اضف تعليق