كيف اصبح الدين منعزلا في المجتمع المابعد حداثوي: انه لم يعد مرتبطا بالمنظمات الدينية او في بلد او ثقافة معينة، والعقائد لم تعد متصلة في سياقاتها الأصلية. هذا يسمح للناس للاختيار والمزج بين العديد من أنظمة العقيدة، يأخذون ما يحبون ويرفضون ما لا يحبون. وسيجدون الدين يظهر...
يوضح ديفد ليون David Lyon رؤية ما بعد الحداثة للدين في كتابه (يسوع في ديزني، عام 2000). فيه يصف كيف اصبح الدين منعزلا في المجتمع المابعد حداثوي: انه لم يعد مرتبطا بالمنظمات الدينية او في بلد او ثقافة معينة، والعقائد لم تعد متصلة في سياقاتها الأصلية. هذا يسمح للناس للاختيار والمزج بين العديد من أنظمة العقيدة، يأخذون ما يحبون ويرفضون ما لا يحبون. وسيجدون الدين يظهر في أماكن غير متوقعة كما في العنوان (مدينة العاب ديزني).
في هذه الطريقة يصبح الدين مسألة اختيار ولذلك يجب النظر اليه ليس كإلتزام (كما يُنظر عادة للاديان التقليدية) وانما كإستهلاك. هذا ينسجم مع فكرة النمو في البيئة الشمولية للعصر الجديد وطبيعة الحركات الدينية للعصر الجديد (1)، انها دائما تشبه الشركات التي تبيع الروحانيات كسلعة. العامل الرئيسي في كل هذا هو التكنلوجيا. التلفزيون ومن ثم الانترنيت حاليا سحبا الدين بعيدا عن الكنائس باتجاه القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية. هذا ايضا يسمح للدين ليصبح اكثر خصوصية، ويمكن ربطه بفكرة الخبيرة الاجتماعية غريس دافي Grace Davie حول الناس الذين "يؤمنون دون انتماء" believing without belonging.
هذه التغيرات في الدين كانت لها نتائج هامة وكبيرة جدا حول ما اذا كانت للدين أية وظائف كما ادّعى دوركهايم و بارسون وماركس وببيفور. اذا كان الدين لا يتعلق بمجموعة من المعتقدات المشتركة وانما هو فقط عقيدة فردية خاصة، عندئذ فهو لا يمكن ان يقود الى ضمير جمعي. اذا كان الدين هو حول تلبية حاجات الفرد ورغباته كسلعة للاستهلاك بدلا من وضع أي التزامات على المؤمنين، عندئذ فهو سوف لن يضمن الانضباط الذاتي والسيطرة. الناس الذين يعبدون تماما دين خصوصي وفردي لا يعبدون المجتمع ذاته (البعض يدّعي انه يعبد نفسه).
وبينما يرى البعض ان النمو في الاصولية قد يكون مضادا تماما لإتجاه الاختيار والمزج في الدين، لكن هناك طريقة واحدة يمكن النظر بها للمسألة، وهي الطريقة التي يكون فيها الدين مصدرا للهوية. في مجتمع عندما تكون فيه المصادر الاخرى للهوية في حالة انهيار – القومية، الجنس، الطبقة، الاثنية، النوع جميعها مائعة وهويات متشظية طبقا لما بعد الحداثويون – فان الدين يمكن ان يكون مصدرا جذابا للهوية وهو حقا يمكن ان يصبح وظيفتها الاساسية.
ان مصدر الهوية لم يُنظر اليه ابدا كوظيفة للدين من جانب دوركهايم وماركس، لأن الافتراض كان هو ان أغلب الناس في المجتمعات هم متدينون ومعظمهم اعتنق نفس الدين. اما في المجتمع التعددي والمعولم والمتنوع، بالطبع لم يعد ذلك هو الموقف ولذلك فان الدور الجديد للأديان باعتبارها مصدرا للهوية، هو دور يتم إعتناقه والدفاع عنه بقوة ضد الهجمات من المعتقدات الاخرى او العلمنة.
يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ليوتار Lyotard، ان رفض السرديات الكبرى، مثل النظريات الحداثوية الكلية كالماركسية وايضا النظريات العلمية، يعني ان الدين هو مجرد سرد آخر، يتنافس مع الآخرين. وبينما، يبدو هذا للمتدينين انه يُضعف ويقلل من قيمة الدين، فهو في الحقيقة تحدّي لنظرية العلمنة، لأنها تقول ان "الحقائق" الدينية هي صادقة بنفس مقدار صحة الحقائق العلمية. ان فكرة كون الناس يستطيعون اختيار حقيقتهم الخاصة هو عامل آخر في تجديد حيوية العقائد الدينية للمجتمع.
عالم الاجتماع البولندي بومان Bauman (اعلاه) جادل بان جماهير الحداثة كانوا يبحثون عن نظريات دائما صحيحة- حقائق عالمية، ولكن شعوب ما بعد الحداثة تهتم في العقيدة او النظرية او الحقيقة التي خدمتهم في ذلك الوقت وفي ذلك المكان. كل هذا يتناسب جيدا مع انتقادات نظرية العلمنة التي تأتي من بيرغر، والفكرة بان السوسيولوجيين يحتاجون لممارسة الكثير من الانعكاسية reflexivity (2) في دراستهم للدين. العقائد الخاصة بالباحثين -او غياب المعتقدات الدينية لديهم– يجب التفكير فيها عند دراسة الدين في المجتمع المعاصر. يؤكد بيرغر ان نقص الانعكاسية يعزز نظرية العلمنة، لأن السوسيولوجيين في أقسام الجامعة كانوا يشغلون جامعة علمانية، وهم افترضوا ان أي شخص آخر هو مثلهم.
تقييم رؤى ما بعد الحداثة للدين
1- كان بيرغر صائبا تماما بان نظرية العلمنة هي مركزية اوربية والدين لازال ينمو في أجزاء اخرى من العالم. ان ما يتجاهله العديد من السوسيولوجيين الما بعد حداثويين هو انه بالنسبة للغالبية الكبرى لأولئك المتدينين، لايزال الدين تقليديا بشكل كبير ويستمر في تنفيذ وظائفه التقليدية. بالنسبة للمسلمين عبر العالم الاسلامي، مثلا، الاسلام لم يكن منفصلا عن المسجد او عن سياقه التقليدي. ويصح نفس الشيء على العديد من المسيحيين في افريقيا وامريكا اللاتينية. البعض يجادل ان نظرية العلمنة هي خاطئة ليس بسبب ان الدين قد تغير، وانما في الحقيقة –في أجزاء كبيرة من العالم– بقي هو ذاته بشكل كبير.
2- ايضا، اذا كان التلفزيون والوعاظ في اليوتيوب يشكّلون أمثلة على تغيير الدين، فان ليون ربما ضخّم من أهمية تلك العوامل. أغلب الجمهور ايضا سوف يحضرون مراسم دينية لأن هذه الاشياء يتم تسويقها لجمهور ديني. التكنلوجيا الحديثة وسّعت من إمكانية إبلاغ الرسالة الدينية، لكن هذا لا يعني بالضرورة تغيير الطبيعة الأساسية لتلك الرسالة، او معناها للجمهور.
3- كذلك، لازال هناك الكثير من الدليل بأن نظرية العلمنة في الديمقراطيات الغربية الليبرالية هي صائبة. ورغم النمو في حركات العصر الجديد لكنها لا تتحدى شعبية الاديان الكبرى ولا حتى الالحاد. العديد من اولئك الذين يستهلكون افكار العصر الجديد هم سعداء في إعتبار انفسهم مسيحيين او غير ذلك، وهم في الحقيقة ليس لديهم ايمان ديني. اولئك "المؤمنون بدون انتماء" والذين يعبدون بالإنابة من خلال رجال الدين المهنيين ربما صحيح، كما يرى بروس، انهم لايؤمنون ابدا.
اضف تعليق