البلدان غيرا من إستراتيجية التفاعل مع بعضهما لتتخذ منحى أكثر خطورة إلى درجة أعلن فيها المراقبون عن بالغ قلقهم من تطور الصراع بين إيران وإسرائيل خوفا من خروجه عن السيطرة واحتمالية اندلاع حرب مباشرة بينهما بعد أن اقتصر الصراع بينهما طيلة المدة الماضية على الحرب بالوكالة...
يشهد الصراع الإيراني-الإسرائيلي تصعيدا خطيرا قد يكون غير مسبوق بعد أن دخل مرحلة جديدة تتسم بالانتقال من حالة التهديد والوعيد إلى حالة تبادل الضربات المحدودة، فبعد أن كانت الحرب الإعلامية بين البلدين قائمة على إستراتيجية ضبط النفس هي السائدة، يبدو أن البلدين قد غيرا من إستراتيجية التفاعل مع بعضهما لتتخذ منحى أكثر خطورة إلى درجة أعلن فيها المراقبون عن بالغ قلقهم من تطور الصراع بين إيران وإسرائيل خوفا من خروجه عن السيطرة واحتمالية اندلاع حرب مباشرة بينهما بعد أن اقتصر الصراع بينهما طيلة المدة الماضية على الحرب بالوكالة.
بدأت حدة الصراع الإيراني-الإسرائيلي تتصاعد منذ انسحاب الرئيس الأمريكي ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في 2018 والذي تم توقيعه في 2015 للحد من نشاطات إيران النووية مقابل رفع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا، إذ تتهم إيران إسرائيل بأنها مارست ضغوطا كبيرة على إدارة ترامب من اجل الانسحاب من الاتفاق النووي، كما أن تطورات الحرب في سوريا قد زادت من نفوذ إيران على تخوم إسرائيل مما دفع الأخيرة إلى تنفيذ أكثر من 200 ضربة جوية بالطائرات والطائرات المسيرة والصواريخ الذكية منذ 2014 ولحد الآن، على مواقع عسكرية إيرانية في سوريا فضلا عن مواقع فصائل عسكرية في العراق ترى إسرائيل إنها تابعة لإيران.
والغاية من وراء هذه الضربات حسب الرؤية الإسرائيلية هي الحد من التهديد الإيراني لأمن إسرائيل، إذ يتبنى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إستراتيجية القضاء على الخطر الإيراني وهو في المهد قبل أن يكبر وبالتالي يصبح من الصعوبة التغلب عليه، وهذا ما نلاحظه في موقف إسرائيل من البرنامج النووي الإيراني، إذ أعلنت إسرائيل في أكثر من مناسبة إنها لن تسمح بامتلاك إيران للأسلحة النووية وأنها لن تتردد في توجيه ضربات عسكرية مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية لمنع إيران من تحقيق طموحها النووي، في المقابل تسعى إيران إلى تعزيز عوامل قوتها تجاه إسرائيل والضغوط الأمريكية على السواء وذلك من خلال إعلانها الانسحاب من الاتفاق النووي واستئناف عمليات تخصيب اليورانيوم وكذلك تعزيز قوة حلفائها في العراق وسوريا ولبنان.
إن الحرب بالوكالة ما بين إيران وإسرائيل رغم استمرارها لكنها بدأت تتزامن بمواجهات مباشرة بين البلدين، ولكن هذه المواجهات لا تأخذ طابع الحرب العسكرية الشاملة بل إنها ضربات نوعية متبادلة بين البلدين اتخذت أساليب متعددة منها الهجمات السيبرانية واغتيال قادة وعلماء فضلا عن حرب استهداف السفن، وقد بدأت القصة عندما أعلنت إسرائيل في أيار 2018 ومن خلال عملية للموساد عن الحصول على 55 ألف وثيقة تخص البرنامج النووي الإيراني، ويبدو أن إسرائيل قد وضّفت المعلومات التي حصلت عليها من هذه الوثائق للقيام بعمليات استهداف ذكي لمنشآت نووية وغير نووية إيرانية، حيث شهدت إيران في منتصف عام 2019 سلسلة من الانفجارات والحرائق الغامضة في بعض المواقع النووية والمقرات العسكرية والمصانع الحربية وأنابيب النفط ومحطات الطاقة ولعل من أهمها الانفجار الذي حدث في موقع نطنز النووي حيث شاعت تكهنات بأن إسرائيل تقف وراءه.
ومما عزز هذه التكهنات تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي غابي اشكنازي بعد يوم من انفجار نطنز إذ قال: "إن بلاده تفعل أشياء يمكن التزام الصمت إزاءها لمواجهة إيران"، ولم تتوقف حوادث العرقلة في المواقع النووية الإيرانية حيث كان آخرها في 11 نيسان الحالي عندما تسبب انقطاع الكهرباء في إلحاق ضرر بأجهزة الطرد المركزي لموقع نطنز النووي، ولمحت وسائل إعلام إسرائيلية على اثر هذا الحادث بأن ما جرى في موقع نطنز هو ناجم عن هجوم سيبراني، في المقابل اتهمت إسرائيل إيران بأنها تقف وراء الهجوم السيبراني الذي وقع في نيسان 2020 والذي استهدف ست منشآت للمياه في إسرائيل أدت إلى إيقاف مؤقت لعمل هذه المنشآت، وبعد ثلاثة أشهر استهدف هجوم سيبراني آخر مضخات المياه الزراعية الإسرائيلية في الجليل الأعلى، ويتضح أن إيران وإسرائيل قد دخلا في سلسلة من الأفعال والأفعال المضادة من خلال القيام بهجمات سيبرانية متبادلة يحاول من خلالها كل طرف إثبات قدرته على إلحاق الأذى بمصالح الطرف الآخر.
وتطورت مظاهر الصراع الإيراني-الإسرائيلي لتأخذ بعدا آخر تمثّل بعمليات اغتيال قادة وعلماء ولعل الأبرز منها هو اغتيال فخري زاده الذي يوصف بأنه مسؤول كبير في برنامج إيران النووي، ورغم أن إسرائيل لم تنفي ولم تثبت مسؤوليتها عن هذه العملية إلا أن التحليلات الاستخباراتية والتقارير الإعلامية ترجح أن تكون وحدة الاغتيالات في الموساد الإسرائيلي هي من خططت ونفذت العملية من أجل تعطيل البرنامج النووي الإيراني.
وشهد الصراع الإيراني-الإسرائيلي دخول البحار في ميادين المواجهة الجديدة بين البلدين، إذ أعلنت إيران في 2019 أن ثلاثة من ناقلاتها التجارية تعرضت لهجمات في البحر الأحمر متهمة بشكل ضمني إسرائيل بأنها تقف وراء هذه الهجمات وما يعزز هذا الاتهام أن إسرائيل تتهم إيران بأنها تقوم بعمليات نقل أسلحة عن طريق البحر إلى حلفائها من أجل استهداف إسرائيل، فضلا عن قيامها بالتحايل على العقوبات الأمريكية من خلال بيع النفط إلى بعض الدول من اجل الحصول على الموارد المالية، وفي 25 شباط 2020، تعرضت سفينة شحن إسرائيلية لهجوم في البحر، ووُجهت أصابع الاتهام إلى إيران، وتوالت عمليات استهداف السفن إذ أصيبت السفينة الإيرانية شهر كورد بالقرب من سوريا، تلتها إصابة سفينة الحاويات الإسرائيلية لوري في بحر العرب، ثم سفينة الشحن الإيرانية سفيز في البحر الأحمر، ثم أُعلن عن إصابة سفينة هايبريون راي الإسرائيلية بالقرب من ساحل الإمارات، وربما تزداد وتيرة الهجمات على السفن التجارية بين إيران إسرائيل.
ورغم أن هذه الهجمات محدودة ولا ترتقي إلى درجة الحرب الشاملة، لكن من المتوقع أن تتصاعد أكثر، لتشمل مناطق جغرافية أخرى وأنواع جديدة من سفن الشحن، وغير بعيد أن تتطور الحالة لتشمل هجمات على سفن عسكرية أو غواصات أو طائرات بدون طيار، لكن في الوقت نفسه تحرص كل من إيران وإسرائيل على ضبط الصراع وإبقاءه محدودا وتحت السيطرة لإدراكهما حجم المخاطر الضخمة التي تترتب على نقل الصراع بينهما إلى حرب شاملة سواء كانت الأضرار تقع على مصالح الدولتين أو على مصالح العالم ككل خصوصا في مجال أمن النقل والطاقة.
لذلك يسعى الطرفان إلى تجنب التصعيد، في وقت تدرك إيران أن أي تصعيد مع إسرائيل قد يضر بموقفها في المفاوضات مع أوروبا والولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، أمّا إسرائيل فإنها تتجنب التصعيد أيضا لأنها تدرك أن لإيران أدواتها التي تستطيع استخدامها في الوقت والمكان الذي تريد لتهديد أمن إسرائيل، كما أن إسرائيل تحاول تلافي أي عمل يضر بعلاقتها بالولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن التي تسعى إلى تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط ومن ضمنها إنهاء أزمة الملف النووي الإيراني من خلال إحياء الاتفاق النووي مع إيران والوصول إلى صيغة مرضية لكل الأطراف تسهم في إعادة الثقة بينهم وتمهد لشرق أوسط مستقر، لذلك تحرص كل من إيران وإسرائيل على إتباع إستراتيجية إدارة الصراع بينهما من خلال تكتيك الضربات النوعية وعدم التصعيد باتجاه الحرب الشاملة.
اضف تعليق