الدول المصنعة للسلاح والمهيمنة على أسواقها تتصارع فيما بينها للهيمنة على صادرات الاسلحة في العالم وما أزمة الغواصات الفرنسية إلا واحدة من مؤشرات هذا الصراع، الذي بدأ يتفاقم في الآونة الأخيرة ليشهد العالم حربا غير معلنة بين شركات صناعة السلاح العالمية من أجل الهيمنة على صادرات السلاح...
"كنّا نظن إننا أصحاب ولكننا تلقينا طعنة في الظهر"، هذا ما قاله السفير الفرنسي في استراليا بعد قرار حكومته بسحب سفيريها من واشنطن وكانبيرا أثر انسحاب استراليا من اتفاق مع فرنسا تم توقيعه في 2016 يقضي بتجهيز البحرية الاسترالية باثنتي عشرة غواصة تقليدية متطورة بقيمة تصل إلى 90 مليار دولار، وترى فرنسا أن هذا الاتفاق يُعد انجازا لها في ميدان صناعة السلاح وتصديره، لكن هذا الانجاز تم احباطه باستسلام استراليا للضغوط الامريكية بمباركة لندن، الامر الذي أثار غضب فرنسا واستياءها والذي قد يدفعها إلى مراجعة حساباتها الاستراتيجية بشأن العلاقة مع واشنطن.
والحقيقة أن الدول المصنعة للسلاح والمهيمنة على أسواقها تتصارع فيما بينها للهيمنة على صادرات الاسلحة في العالم وما أزمة الغواصات الفرنسية إلا واحدة من مؤشرات هذا الصراع، الذي بدأ يتفاقم في الآونة الأخيرة ليشهد العالم حربا غير معلنة بين شركات صناعة السلاح العالمية من أجل الهيمنة على صادرات السلاح العالمي الذي يدرّ ارباحا خيالية، إذ بلغت صادرات الولايات المتحدة من السلاح في عام 2020 ما يقارب 175 مليار دولار وهي تحتكر نسبة 37% من صادرات السلاح العالمي وتأتي روسيا بالمرتبة الثانية بنسبة 20 % بينما تأتي فرنسا بالمرتبة الثالثة بنسبة 8.2% تقريبا، وتليها كل من المانيا والصين بنسبة 5.5 % و5.2% على التوالي.
لقد وجه الانسحاب الاسترالي من اتفاق الغواصات الفرنسية ضربة مؤلمة لفرنسا على المستوى المالي والاستراتيجي، إذ تقدر خسائر شركة (نافال) الفرنسية من جراء إلغاء العقد الأسترالي ما يقارب 65 مليار دولار، وفضلا عن ذلك فقدت الشركة عقوداً اخرى على خلفية الازمة مع استراليا كانت على وشك توقيعها، منها تراجع البحرية المغربية عن إكمال المحادثات التي كانت جارية مع الشركة الفرنسية لشراء فرقاطات جديدة، وكذلك إلغاء رومانيا لعقد مع شركة نافال، كانت قد وقّعته في تموز 2019، وتقدّر قيمته بنحو 1.2 مليار يورو، كانت ستتزود بموجبه بأربعة قطع بحرية من الفئة (جاويند).
إن البحث عن أسباب أزمة الغواصات الفرنسية بين فرنسا من جهة والولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا من جهة أخرى يقودنا إلى حقيقة أن الأزمة اندلعت بعد الاعلان عن تأسيس تحالف أمني بين الدول الثلاثة تحت مسمى (أوكوس) والذي يستهدف تعزيز التواجد العسكري للدول الغربية في المحيط الهادئ، كما أن هذه الأزمة في العلاقة بين باريس وواشنطن، لها جذور تاريخية قد تمتد لما بعد انتهاء الحرب الباردة، وكانت من أهم بواعثها هي الرغبة الفرنسية في تحرير سياستها الخارجية من القيود التي فرضتها عليها تداعيات الحرب العالمية الثانية، بعد أن بدأت باريس تتحسس من المساعي الأميركية للهيمنة على القرار الاوروبي بعد انشاء حلف الناتو عام 1949، فالإدراك الاستراتيجي الفرنسي تجاه حلف الناتو كان يستند على مسعى التحرر من قيود الانتماء إلى حلف الناتو الذي كان خاضعا لهيمنة القيادة الامريكية وفق الرؤية الفرنسية، وكان الخلاف بين فرنسا وقيادة الحلف المتمثلة بالولايات المتحدة قائما بشكل مستمر بشأن مستوى التسليح غير التقليدي، وكذلك حول الانتشار الإقليمي والدولي لقوات الحلف، فضلا عن العلاقة بين باريس ودول أفريقيا وآسيا.
وهذه القضايا كانت سبباً مباشرا لتكرار الخلاف بين فرنسا من جهة، وقيادة الحلف ومن خلفها الولايات المتحدة من جهة أخرى، لكن تبقى مسألة الهيمنة على صادرات السلاح العالمية هي الاهم والتي تدور أزمة الغواصات الأسترالية حولها في إطار الخلاف الحالي بين باريس وواشنطن، فباريس تسعى منذ عقود أن تؤمن لنفسها حيّزا خاصا في سوق السلاح العالمي خصوصا في منظومات القوة الجوية والقوة البحرية، ولهذا رفضت فرنسا المشاركة في المشاريع الأوروبية المشتركة لإنتاج الطائرات المقاتلة، مثل مقاتلة (تايفون) ومقاتلة (تورنيدو)، وكانت تخطط لتسويق مقاتلتها (رافال) في الأسواق العالمية، وقد نجحت باريس الى حدٍّ ما في ذلك، خاصة بعد تزويدها سلاح الجو المصري بهذه المقاتلة، وكذلك تعاقدها مع دول عدة مثل الهند وقطر، ما أسهم بشكل لافت في زيادة حصة باريس من صادرات السلاح العالمية.
وقد سعت فرنسا خصوصا بعد وصول ماكرون الى السلطة الى تحقيق المزيد من الاستقلالية الاوروبية عن الولايات المتحدة، ففي خطاب له في جامعة السوربون عام 2017 اعتبر ماكرون "ان الطريقة الوحيدة لضمان المستقبل هي إعادة تأسيس أوروبا ذات سيادة وموحَّدة وديمقراطية"، ثم دعا ماكرون في 2018 الى تحقيق التضامن الاوروبي وتأسيس جيش اوروبي، لكن من غير المتوقَّع أن يمتلك الأوروبيون القدرة والامكانية على فك الارتباط عن الولايات المتحدة، خصوصا في ظل غياب الارادة لدى عدد من القادة الأوروبيين، بصورة عامة، والألمان على نحو خاص، وعدم قدرة فرنسا منفردة على السير في هذه المهمة، بالإضافة إلى سيطرة الولايات المتحدة على قرار عدد من الدول الصغرى في الاتحاد الاوروبي.
لقد افضت ازمة الغواصات الفرنسية الى تداعيات استراتيجية لافتة، إذ أكَّد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن إلغاء أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أميركية عاملة بالوقود النووي "سيؤثر في مستقبل حلف شمال الأطلسي".
فقد استخدم الوزير الفرنسي لغة حادّة ذات مدلولات مثيرة، حيث تحدث عن (كذب) أستراليا بشأن إلغاء الصفقة، وعن أن هذه الأخيرة ستحدث أزمة خطرة بين بلاده وحلفائها في واشنطن وكانبيرا، لكن مواقف الوزير لودريان تجاه الدولتين كانت تندرج في إطار رد الفعل الجديد على حدثٍ مستجد، بينما كان تعليقه على الدور البريطاني أكثر تعبيراً وأعمق معنى، حين وصف الدور البريطاني بـ(الانتهازية المستمرة)، ما يشير إلى النظرة الفرنسية الدائمة لبريطانيا على أنها قوة أوروبية انتهازية تتبع مصالحها ضد مصلحة الفضاء الأوروبي والتعاون مع الحلفاء الأقربين، وهو ما يمكن أن يؤشر أيضاً إلى الغضب الفرنسي من قضية (بريكست)، إذ خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من أجل مصالحها الخاصة، تاركةً عبء الاتحاد على كاهل كلٍّ من فرنسا وألمانيا بصورةٍ رئيسية.
ان أزمة الغواصات الفرنسية في الوقت الذي أشرت عمق التنافس الاميركي الفرنسي على صادرات السلاح العالمية، فإنها ايضا تدل على تحوّل واضح في طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع حلفائها خصوصا الذين يسعون للحصول على هامش من الحرية والاستقلالية عن التبعية للولايات المتحدة، صحيح أن الولايات المتحدة قد تقصد من وراء تحالف (أوكوس) وضع المواجهة البحرية مع الصين في صدارة أولوياتها، ومن الطبيعي أن الصين ستكون مستفيداً رئيسياً من هذا التعارض بين فرنسا والولايات المتحدة.
اضف تعليق