في أي حقل من حقول الحياة لا يمكن الاستغناء عن صفة الاخلاق، وقد يحتاجها الحقل السياسي أكثر من غيره من الجوانب الأخرى، فسياسة بدون اخلاق ومصداقية، تصبح عملا عبثيا لا جدوى فيه ولا هدف منه، فالخلل الذي يصيب هذا المرفق سينعكس بصورة كاملة على واحدة ...
طل علينا رئيس الحكومة الحالية مصطفى الكاظمي في أكثر من موقف وهو يستقبل أبناء الشهداء او الحالات الإنسانية العامة، متوعدا بأن يكون حال من التقى بهم أفضل بكثير مما هم عليه لحظة اللقاء، فقد استقبل ابن لضابط شهيد في الشرطة الاتحادية، ومرة اخرة تصدر مقطع يُفيد بأن الكاظمي يستجيب لدعوة أحد الأطفال المصابين بمرض السرطان الفتاك، ويبادله المشاعر الإنسانية بصورة مبكية.
جميع المشاهد المتداولة تثير لدى من يتعرض لها شعور فريد من نوعه، ذلك كون بطلها وابطال غيرها من المواقف، هم نفسهم من اعطوا ويعطون الأوامر للقوات الأمنية المنتشرة في مناطق تواجد المحتجين في بغداد وغيرها من المحافظات بان يقمعوا المتظاهرين، وتفريقهم بطريقة أثارت استهجان جميع المهتمين بالشأن الإنساني.
الإنسانية صفة يحملها جميع من ينتمي الى الصنف البشري، لكنها قد تكون متفاوتة من شخص لآخر وبالتالي فهي جزء يأخذ حيزا في التركيبة الاساسية للشخصية، وهذه الصفة عندما تكون شحيحة لدى البعض ومن بينهم السياسيين يلجؤون لمثل هذه الأساليب التي تديم زخمهم ووجودهم بين الطبقات العامة.
ربما أكثر الشعوب التي تعرضت الى قمع وقهر من قبل حكوماتها هي الشعوب العربية، التي حُكمت بالحديد والنار لقرون من الزمن، بينما عندما نتصفح التاريخ نجد صفاحته مملؤة بالزيف والاباطيل والتحريف والكذب، اذ تتحدث عن المواقف البطولية والإنسانية لهؤلاء الحكام، وما شيدوه من معالم لا تزال شاخصة في المجالات العلمية والسياحية وغيرها.
وقد وصل الحال من اللعب بعقول الناس الى ان حكومة الامارات العربية المتحدة استحدثت وزارة باسم وزارة السعادة، وكأن الحياة فيها أصبحت وردية لا يوجد من يُعّنف او يُعذب، ويتمتع الجميع بحرية مطلقة في التعبير وممارسة الحريات الأخرى.
صحيح ان من يزور بعض الأقطار العربية ومن بينها الدولة المذكورة يجدها تسر الناضرين بمبانيها وشوارعها المصممة على الطُرز الحديثة، يصل بعد ذلك مدى الاعجاب الى انه يقرر بنقل عمله الى تلك العواصم وترك بلاده الام.
هل تعلم عزيزي الزائر ان الجانب المظلم لتلك الحكومات حين يسلط الضوء عليه يقف شعر رأسك من شدة الفزع، فتلك الحكومات قائمة على انتهاك الحريات والذبح بدم بارد عندما تتعرض مملكتهم الى تهديد سواء كان بسيط ام عظيم.
ولا تبالي رؤساء الدول العربية بما ستنتهي اليه الأمور بقدر حرصهم على البقاء على كرسي الجلالة، فهم يمارسون أساليب بعيدة كل البعد عن المضامين الأخلاقية التي نادت بها الشرائع السماوية، والامثلة على ذلك كثيرة، إذ ان آخرها هو مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي على ايدي عناصر الاسرة الحاكمة في تركيا، ولا تزال القضية محل تحليل واهتمام محلي ودولي.
بمجرد الاطلاع على هذه الأمثلة الحية تدرك مدى افتقار المعنيين للأخلاق السياسية التي لا بد من التعامل بها مع الرعية، كلنا لا حظنا مدى الوحشية التي تعرضت لها الشعوب العربية خلال فترة الربيع العربي، سُحقت الرجال وضُربت النساء، واستباحت الحرمات.
وملايين البشر ابكاهم مشهد استشهاد أحد المتظاهرين بغازية قذفت عليهم من قبل القوات الأمنية في بغداد، وبعد ايام من الحدث يخرج رئيس الحكومة ويتوعد المقصرين والفاعلين، وذلك بحد ذاته يفتقر الى الإنسانية والمصداقية بشكل كامل، لماذا هذه الازدواجية؟، ولماذا التستر بستار الاخلاق الحميدة؟، وخلف الجدار اكداس من الأفكار الاجرامية الشريرة!
الحكومة الحالية ولان رئيسها يعمل في المجال الإعلامي استطاع من تسويق نفسه على انه راعي السلام ويحب الخير للجميع، فقد اصابتنا تخمة من كثرة ظهوره على شاشات التلفاز، يجتر الخطابات السابقة بصيغ جديدة وبمضمون مطابق مئة بالمئة لمن سبقوه، فغدت العامة تطلع عليها حكومة (فيس بوكية)، وغيرها من التسميات التي تدلل على مدى السخرية الشعبية.
حزمة من الإجراءات الإصلاحية التي شرع بها الكاظمي في أيامه الأولى، وأكثر قرارا لاقى ترحيبا شعبيا هو قطع المخصصات المالية على من يستلمون رواتب مزدوجة، وهنا الجميع استبشر خيرا بأنه تمكن من الوصول الى منطقة صُعب على الجميع من قبله الوصول اليها واللعب فيها.
ما لا يعرفه الاعم الاغلب من أبناء الشعب العراقي هو ان خطوة الكاظمي ليس تشريع ألغى التشريع السابق، وانما مجرد قرار يمنحه الدستور العراقي لرئيس الحكومة، وبهذا الخصوص هنالك رأي قانوني يقول ان ما تم تمريره بقوانين اصدرها البرلمان (مثل قانون مؤسسة الشهداء "رفحاء" وازدواج الرواتب وتقاعد الوزراء والبرلمانيين وامتيازات الدرجات الخاصة)، والكثير من القوانين لا يمكن إلغاءها بقرارات وانما يجب ان تلغى بتعديل تلك القوانين او بقوانين جديدة يشرعها البرلمان.
كان من المفترض ان يظهر كعادته السيد الكاظمي ويقول بصريح العبارة وبصورة لا غبار عليها، ان ما اتخذته من قرار لا يوجد غطاء قانوني له، ولا يصمد كثيرا امام المواد القانونية المشرعة سلفا، ومن ثم يوجه دعوة الى البرلمان العراقي لإكمال المسيرة الإصلاحية إن كانت حقيقة.
وبما ان مثل هذه الخطوة لم تحصل ظلت طبقات كثيرة من الجمهور يرسخ في مخيلتها حلاوة القرار ولم تعرف تبعاته وماذا حدث بخصوصه، وهنا تكمن العقدة الأخلاقية والمسؤولية الوطنية، وما تفرضه على صاحب القرار ان يكون صريحا واضحا مع الجمهور الذي حصل تأييده في موقف معين وقد يتحول الى خنجرا في مواقف كثيرة.
في أي حقل من حقول الحياة لا يمكن الاستغناء عن صفة الاخلاق، وقد يحتاجها الحقل السياسي أكثر من غيره من الجوانب الأخرى، فسياسة بدون اخلاق ومصداقية، تصبح عملا عبثيا لا جدوى فيه ولا هدف منه، فالخلل الذي يصيب هذا المرفق سينعكس بصورة كاملة على واحدة من اهم المنظومات القائمة في الدول.
اضف تعليق