ليس كل ما يحلم به المرء يحققه بالحصول على المال، وقد يكون هذا المال تم جلبه على حساب الكرامة والمبادئ التي تعد جزء لا يتجزأ من الذات الإنسانية، فبالمال يمكن ان نقتني أكثر الساعات فخامة، ولكننا لا نستطيع التحكم بالوقت وتحقيق المنفعة لصالحنا...
اشتقت كثيرا للحديث مع اخ لي لكنه في الحقيقة زميل دراسة وصديق حميم، بحثت عن رقم جواله في قائمة الأسماء الموجودة بهاتفي المتهالك لم اجده، يبدو انه سئم الانتظار طويلا دون رنة، وبعد محاولات عدة ظفرت برقم اخي في الدين.
تناثر الاشتياق وحفت الكلمات التي دارت بيننا كمية كبيرة من اللهفة وحب الاطلاع على ما عملناه في السنوات الماضية، استمر الحديث لدقائق معدودة استطعت ان اعرف اهم ما واجهه من مواقف خلال الفترة الماضية.
فأخبرني انه عمل لدى احدى الجهات الحزبية ولم يمكث طويلا رغم ان عمله يدر عليه أموالا كثيرة مقارنة بغيره، استطرد بالحديث موضحا سبب مغادرته مكان العمل، لاسيما وانه بأشد الحاجة لمثل هذه النقود، واتضح فيما بعد، بسبب الضغط عليه من اجل التخلي عن بعض مبادئه التي نشأ عليها.
ودعته لأبدأ بعد ذلك رحلة الصراع مع الأفكار الجديدة التي اجتاحتني لسماع هذه الحادثة من زميلي، فمازن رقم من بين ملايين الأرقام التي تم توظيفها من قبل الحركات السياسية في البلد، وتنامت هذه الظاهرة في العقد والنصف الأخيرين وتحديدا بعد تغيير نظام الحكم في العراق.
وتُعرّف المبادئ بمفهومها العام على انها مجموعة من القواعد والقوانين الرئيسية؛ التي تفسر كيفية عمل السلوكيات الخاصة والأحداث العامة، وتبيّن منطلقاتها ومرتكزاتها.
لكل فرد من افراد المجتمع مبادئ وقيم يحرص على عدم تخطيها اثناء التعاملات الحياتية وبالنتيجة فهي الاناء الذي يتشرب منه أساليب العيش والتعامل مع الافراد او المؤسسات التي يعمل بها بشكل دائم.
في العراق هنالك أسباب لا يمكن حصرها جعلت من الحركات السياسية ان تنحوا بهذا الاتجاه، من بينها او أهمها هو اللعب بعقول الشباب واستغلال حاجتهم للعيش المحترم الذي يليق بمكانة الانسان، لكنهم وبقصد عملوا على التقليل من كرامة بعض الافراد والعزف على وتر المشاعر والرغبة بالوصول الى أماكن معينة وتحقيق رضا نفسي بصورة نسبية ووقتية لا تتعدى الشهور وبعد ذلك تخور تلك الهالة وتتبدد من عالم المحسوسات.
الأشخاص الذين وقعوا بمصيدة الأحزاب السياسية التي عملت على توظيف الطاقات الشبابية لتحقيق مكتسبات وامتصاص جهودهم وعنفوانهم الشبابي الهادف للنهوض بواقع البلد المتردي ونفض غبار السنين الذي تراكم بفعل الإهمال والتخبط الذي ساد البلد منذ سنوات.
في تحليل أقرب الى التشخيص النفسي للأفراد الذين يعيشون هذه الحالة، يُعتقد ان الأشخاص اللاهثين وراء ذلك يتمتعون بحس عال من الشعور بالتفوق على اقرانهم لما حققوه من مكتسبات سرابية لا تدنو من الحقيقة، فهم يضنون واجب على الجميع التقرب إليهم ومحاباتهم نتيجة قربهم من أصحاب القرار وتأثيرهم النسبي والوهمي عليهم.
وغير ذلك فقد تظهر عليهم ملامح التعامل السلبي مع الآخرين والتعالي، في حين انهم واهمون بذلك التصور، كونهم أصبحوا أداة طيعة بيد المتنفذين بالسلطة والمتحكمين بالقرارات الحكومية بدرجة كبيرة، وأحيانا تعمل هذه الجهات على غسل ادمغتهم وتجعلهم يعيشون وكأنهم أصحاب شأن رفيع وهي تعلم انهم خاوون من الداخل.
إعطاء المكانة لمن لا يستحقها او أكثر مما يستحق يكون أقرب الى البالون الذي تعطيه كمية إضافية من الهواء، فتوقع بأقرب لحظة ان ينفجر بوجهك، وكما هو الحال بالنسبة للأشخاص الذي فضلوا التخلي عن مبادئهم بحثا عن الجاه والقرب من السلطة وتحقيق المنفعة الوقتية دون النظر الى المدى البعيد.
بناء الشخصية على هذه الأسس المائلة او الهشة سيجعل منها شخصية مهزوزة غير متزنة في التعاملات الفردية والتصرفات الشخصية في الحياة العامة، نعم قد يشكل البعض علينا لما طرحناه، ويقول كم شخص وشخص حقق مكتسبات وبانت على ملامحه مظاهر الترف والراحة.
ويرد سيد البلغاء الامام علي بن ابي طالب على ذلك حين يقول: "أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَلاَ مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَلاَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَة لَكُمْ وَلاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا، وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا، فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا، وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتي دعِيتُمْ إِلَيْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا".
في كلام الإمام عليه السلام توجيه صريح ومباشر على ضرورة التخلي عن حب الدنيا وصب الاهتمام بمظاهرها الخداعة، كونها زائلة لا محالة، وهي بمثابة الممر للدار الآخرة التي نعمر فيها ونعيش برحمة الله ولطفه.
هنالك حقيقة لابد من إدراكها وهي ليس كل ما يحلم به المرء يحققه بالحصول على المال، وقد يكون هذا المال تم جلبه على حساب الكرامة والمبادئ التي تعد جزء لا يتجزأ من الذات الإنسانية.
فبالمال يمكن ان نقتني أكثر الساعات فخامة، ولكننا لا نستطيع التحكم بالوقت وتحقيق المنفعة لصالحنا، كما انا يمكن ان نُشيد قصور عاجية بذات المال المتراكم، لكننا نعجز عن توفير الراحة النفسية لبضع دقائق لامتلاكنا كل ذلك.
إذا فالمسألة لا تتعلق بكمية المال والجاه الذي تحققه في هذه الحياة الفانية، بقدر ما تعمله لإرضاء لله عز وجل والسير بالطريق السليم الذي ضمن لمن سار فيه الوصول الى جنته.
ولكي نحيا بهذه الدنيا من دون شقاء وعناء، يضع المهتمين خارطة طريق لتحقيق الغاية النبيلة، أحد اهم طرقها الرئيسية هو التحلي بقدر كبير من الوعي، والسعي الحثيث لإيقاف المحاولات التي تريد تجهيل العقل البشري وجعله يفكر بطريقة سطحية، فهو بذلك انسان ملغي الشخصية، يُشكل حسب الارادات الخارجية دون الدوافع الذاتية.
اضف تعليق