خلال عام 2020 مر العالم بمشكلات عصيبة، سواء على المستوى الصحي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، اختبرت خلالها الإنسانية المعنى الحقيقي لقيم الحضارة المادية التي رفع لوائها الغرب ومجد لها الشرق، دون الالتفات الى القيم الحقيقية للحضارة الإنسانية القائمة على الفطرة السليمة والمحبة والتعاون والاخوة والحرية، ونبذ اللاعنف...
خلال عام 2020 مر العالم بمشكلات عصيبة، سواء على المستوى الصحي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، اختبرت خلالها الإنسانية المعنى الحقيقي لقيم الحضارة المادية التي رفع لوائها الغرب ومجد لها الشرق، دون الالتفات الى القيم الحقيقية للحضارة الإنسانية القائمة على الفطرة السليمة والمحبة والتعاون والاخوة والحرية، ونبذ اللاعنف والاستبداد والمصالح الضيقة، وبالتالي أصبح السقوط مدوياً للمادية امام اول اختبار حقيقي يضع البشرية على المحك ويحتاج الى تعاون جميع المجتمعات البشرية دون استثناء لعبور الازمات التي تعصف بها.
ان المجتمعات الغربية وان كانت مجتمعات قادرة على التفاعل مع التغيير وقبول الإصلاح والتغيير داخل مجتمعاتها، الا انها خاضعة الى "البروباغندا" الخاصة التي يروج لها كبار الرأسماليين ولوبي الشركات الكبرى وتحكم المنظمات العابرة للقارات، وهي ذات تأثير كبير حتى على صانع القرار السياسي والاقتصادي والثقافي داخل الدول الغربية، ما ينتج عنه توجيه الرأي العام باتجاه احادي الجانب، الجانب المسيطر على مفاتيح اللعبة (النفوذ، القوة، الاعلام، الاقتصاد)، وهو ما يعطي الانطباعات المسبقة لهذه المجتمعات عن الكثير من الاحداث او الأديان او المجتمعات او الاجناس، وعلى سبيل المثال، ما يحدث من تقييم مجتمعي في نظرتهم العامة للإسلام والمسلمين ممن يعيشون بينهم او خارج مجتمعاتهم، وهي نظرة تعكس وجهة نظر تلك الطبقة المسيطرة على توجهات وآراء الافراد الغربيين من خلال اجندة معدة سلفاً لتضليل الرأي العام وخلق وهم او عدو باسم الإسلام.
بالنتيجة فإن إدارة الأمور بهذه العقلية لا تخدم البشرية، وهي بطبيعتها لا تختلف في المضمون بين الغرب والشرق، لأنها عقلية قادرة على خلق المزيد من الازمات فقط بدلاً من حل المشكلات، كما انها تزيد الشرخ بين مجتمعات الغرب والشرق بدلاً من توحيد المجتمعات وفق منظور الحضارة او الإنسانية او كلاهما القائمة على الفطرة.
وقد نبه الامام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الى هذه المسألة الحساسة بعد ان قارن بين الطرفين للوصول الى نتيجة واحدة بقوله: "والغرب وإن لم يكن بهذه القساوة في الحكم، نظرا لمرونة الحكم وتوفر جانب من الحريات، وتفويض كثير من الأمور إلى الناس، إلا انه فرض هيمنته على قطاعات عريضة من الشعب عبر تضليل الرأي العام بما يناسب متطلبات الدولة، كما إن كثيرا من الأمور احتكرها -ولو بطريقة غير مباشرة-كبار الرأسماليين لأنفسهم وحرموا-بطريقة أو بأخرى- عامة الناس منها، وهكذا نجد في الشرق تمركز القدرة بيد واحد، هو رئيس الحزب، أو أفراد يعدون على الأصابع، وفي الغرب نجد تمركز القدرة في العديد من الأبعاد، بيد ثلة من كبار الرأسماليين، واصحاب الشركات الكبرى، والفئات الضاغطة (اللوبي)، ولذلك فقد خالف العقلاء السياسة الغربية، واعتبروها خلافا للفطرة الإنسانية، والعقل البشري، وصاروا يطمحون إلى التغيير".
ولكي نقف امام هذه العقلية الرجعية التي تدير الأمور بعشوائية غريبة تهدف الى زيادة الفارق الطبقي والعنصري والاقتصادي والإنساني والثقافي بين المجتمعات لتمرير مصالحها الخاصة، ينبغي ان ننقل الواقع الحقيقي للحضارة الإنسانية او التي ينبغي ان تكون عليها، بالرجوع الى الفطرة الإنسانية وقيمها العليا التي مثلها الدين الإسلامي بطريقة واقعية وحقيقية لا بطريقة صورية مزيفة: "إن حضارة الإسلام تحتاج إلى واقعية، وإلا فالنهوض الصوري، وإن كان الناهض مخلصاً، لا يكفي في تغيير واقع الحضارة الموجود إلى حضارة إسلامية بديلة".
من ناحية أخرى، ينبغي الالتفات الى عقبتين مهمتين استفادت منهما الطبقة المسيطرة في إدارة الصراع بين الحضارة المادية والإنسانية او الصراع بين العقل والغريزة القائمة على تحقيق الملذات الانية بعيداً عن الاخلاق والفضائل والفطرة، ويمكن تلخيصهما بما ورد في كلام الامام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الى هذا الموضوع في كتاباته واشاراته المختلفة:
العقبة الاولى/ "إن الحضارة المادية التي جرفت كل القيم والموازين والأعراف، سواء في بلادهم أم في بلاد المسلمين أم في بلاد العالم الثالث، لا يمكن الوقوف أمامها بالتهريج والدعاية ومجرد الشعارات الفارغة، ولا يمكن حينئذ إرجاع البشرية إلى طريق الصواب، فإن الأمر أعمق وأكثر هولاً من هذه الأمور".
ويمكن ادراج الملاحظات التالية:
1. الحضارة المادية حاولت وتحاول الغاء الهويات الفرعية للمجتمعات الإنسانية بهوية واحدة ممسوخة بطابع مادي بحت.
2. امام قوة الآلة الإعلامية والاقتصادية والتكنولوجية لهذه الحضارة لا تكفي الاقوال "التهريج، الدعاية، الشعارات) بل العمل وتحقيق المنجزات.
3. لا يمكن الاستهانة بحجم المشكلة التي تواجه المجتمعات الإنسانية بصورة عامة والمسلمين بصورة خاصة لان الفارق كبير، إضافة الى طبيعة هذا الصراع.
العقبة الثانية/ "لقد صور بعض الحركات المدعية للإسلام ــ جاهلة كانت أو عميلة للغرب ــ الإسلام بأبشع الصور، من سفك الدماء، والتمثيل والتشويه للأجسام، ومصادرة الأموال، وإهانة غير المسلمين، وتكفير أو تفسيق بعض المسلمين الذي لا يصافقونهم ولا يوافقونهم الطريقة، والترف لأنفسهم، بينما كثير من الناس يعيشون في فقر مدقع".
ويمكن ادراج الملاحظات التالية:
1. ان تشويه الحضارة الإسلامية القائمة على بناء حضارة إنسانية خالصة امام الاخرين جاء من الداخل قبل ان يأتي من الأعداء، ومهما كان السبب وراء ذلك ينبغي الالتفات الى هذه الجهات المشبوهة التي روجت وصورت الإسلام بطريقة مغايرة للواقع والحقيقة.
2. وجود صراع داخلي بسبب بعض الأفكار والجهات المحسوبة على الإسلام، وبالتالي ولد هذا الصراع المزيد من الخلافات والانشقاقات داخل المجتمعات الإسلامية، وهو واقع نعيشه اليوم بصورة جلية.
3. الحل يكمن في رفض توجهات الأطراف المذكورة أعلاه (1،2) والتصدي لهم ومحاربة أفكارهم وبناء مجتمعات إسلامية قائمة على الحضارة الحقيقية للإسلام وتعاليمه الخالدة بعيداً عن التأثيرات الخاضعة لحسابات او مصالح فرد او جماعة معينة.
إذا انطلقنا من مقولة "إن الإسلام بالإضافة إلى أنه دين السلام، هو دين العقل والإنسانية" فسوف ندرك جيداً ان الإنسانية لا يمكن ان تصل الى الرقي الحضاري والأخلاقي والإنساني من دون الإسلام، لان الإسلام يحافظ على الفطرة السليمة للإنسان، كما انه قائم على السلام والعقل والفضيلة وليس على العنف والمصلحة، كما في المادية، وبالتالي سيؤدي الى ازدهار العالم وتحقيق جوهر الإنسانية القائم على اسعاد البشرية وامنها وحفظ كرامتها وحقوقها.
وهذه المهمة الكبيرة تقع على عاتق المسلمين قبل غيرهم "إذا تمكنوا من بيان الوجه الناصع للإسلام بأفعالهم وبسلوكهم، فإن الناس مفطورون على حب الجمال، في دين كان أو في دنيا، والإسلام له أجمل وجه في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب، إذ العقيدة الإسلامية كلها مبنية على العقل، وأحكام الشريعة ــ على الأغلب ــ عقلية قبل أن تكون شرعية، أما الأخلاق والآداب والفضيلة والتقوى والتعاون ونظافة العائلة (الخ) فحدث عنها ولا حرج فكلها مطابقة للعقل والفطرة".
وفي الخلاصة ينبغي على كل منصف ان يدرك أهمية العودة الى الجذور الإنسانية او الفطرة السليمة وترك المادية البحتة التي حولت كل المنجزات البشرية والتقدم التكنولوجي الى أداة للقمع او وسيلة لاستعباد الانسان وسلب حريته بدلاً من ضمان حقوقه وصون كرامته، ولا يمكن الوصول الى هذا الهدف المنشود الا من خلال الإسلام بما يحمله من واقعية وإنسانية ومنطق ورسالة فريدة تتناسب وبناء حضارة إنسانية تشمل الجميع ولا تستثني طرف او جهة او جنس من نهضتها في حال أدرك المسلمون وغيرهم عظمة هذه الرسالة ومحتواها الإنساني الخالد من خلال:
1. اهتمام النخب والطبقة المثقفة المسلمة، وخصوصاً النخب القريبة من المجتمعات الغربية او المجتمعات غير المسلمة، بالعمل من اجل المزيد من الدراسات والبحوث والكتب التي تبين واقعية تطبيق الحضارة الإسلامية وقيمها الإنسانية وإنها البديل الحقيقي للقيم المادية التي ولدت مشوهة وميتة.
2. العمل على نبذ كل الأصوات والأفكار والتيارات والجهات النشاز التي تدعي انتمائها او تمثيلها للإسلام من خلال الاعلام والكتابة ومختلف الوسائل الأخرى.
3. الترويج للاعتدال والاهتمام بالأفكار والنظريات والابحاث التي طرحها كبار المراجع والقادة والمصلحون في الإسلام واعتبار ما كتبوه وطرحوه رسل الإسلام الى الاخرين.
4. الانفتاح على جميع الآراء وعدم الغاء او تكفير او تسقيط الاخر مهما اختلفت الآراء او تباينت وجهات النظر، لان النتيجة ستكون لصالح العقل والمنطق والفطرة والسلام، بخلاف الصراع او التناحر الذي لن يولد سوى المزيد من الصراعات والدمار.
5. من يريد ان يبني الامة عليه ان يكون قادراً على بناء نفسه اولاً، ولا يمكن تحقيق هذا الامر من خلال الاقوال بل الأفعال، لذلك العمل مقدم على غيره من الأمور: (وقل اعملوا)، (ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)، والحضارة الإسلامية بطبيعتها قائمة على العمل والحركة ايضاً، لذلك نجح الرسول الكريم (صلى الله عليه واله) في بناء حضارة إنسانية خالدة من خلال العمل ولم يكتف بالأقوال.
اضف تعليق