q
ان الحياة تتسع للجميع، والاختلاف شيء طبيعي، وتنوع الألوان يُعطي جمالاً لها، وكثرة ضوابطها تشل حركة الإنسان، وقبولنا للبعض قوة وحكمة سواء اتفقنا أم اختلفنا، وليس شرطا ان نقتنع بما يقتنع الاخرون، وأن نرى ما يرونهم، وما يصلح لنا قد لا يصلح لهم، والتسرع في الحكم على أفكار الاخرين...

اثار الزميل البرفسور عبد السلام سبع الطائي، فضولي لقراءة كتاب في إدارة العقل ،عندما ارسل لي اسطراً قليلة من نصوصه، وجعلني أصرعلى معرفة أسرار تجربة الكاتب وافكاره ،واكتشاف معانيه الحياتية والعملية، والكتاب بعنوان (التفكير المتعمد) للكاتب الأمريكي المعروف (ديل كارنجي) الذي يقوم على استنتاج مهم، يتلخص بصعوبة التحكم في عقولنا إذا كنا لا نملكها، لأنها مجرد أجهزة تسكن بالدور العلوي من أجسادنا، وتم تأجيرها للآخرين للتحكم بها، واهمية ان نحمد الله على نعمة العقل، ثم نحاكم أنفسنا بصدق، لنرى إن كنا ما زلنا نمتلك عقلنا أم إننا أجرناه للغير.

قدم المؤلف مجموعة من التقنيات التي يستطيع معها الشخص التحكم في طريقة تفكيره، لعل أبرزها هو أن يكون خاليا من أحد العلامات الخمس للعقلية المؤجرة، الأولى، التسليم بمسلمات الغير غير قابلة للنقاش مبنية على فكرة (بل وجدنا اباءنا كذلك يفعلون)، وهذه تعد من أبرز علامات العقلية القابلة للتأجير المنتهي بالتمليك.

والثانية، العقلية المؤجرة استخدامها لقواعد وافتراضات غير منطقية، بل ومبنية على اجتهادات شخصية وضعها الآخرون لنا، فتم تأطير حياتنا وعقولنا بقوالب جاهزة من صنع غيرنا لا نستطيع الخروج منها، فنتوهم أننا نفكر، ولكن في الحقيقة نحن نفكر داخل حدود ضيقة يصعب الخروج منها.

والثالثة عقلية لديها تقديس للأشخاص، ولديها تفضيل لبعض الشخصيات والجماعات الذين يستأجرون تلك العقول بالمجان ومدى الحياة، لأنه يستحيل عليها مخالفة تلك الشخصيات والجماعات، وتتحول إلى عقلية قائمة على النسخ واللصق، وتقديس المنقول دون تحليل ونقد من باب قدسية أصحابها.

الرابعة هو الإخلاص للتفكير الجمعي بحجة تماسك الجماعة، وبسبب الضغط الملح على التوافقية يقوم الفرد بتأجير عقله، ويخفي صوته حتى يتوافق مع صوت الجماعة، كما يسهم التنمر اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تأجير العقل لصالح التوجه الافتراضي الجمعي.

اما الخامسة فأحكامها فورية وانطباعاتها قطعية بسبب كثرة الموروثات حيث تصبح لدينا عقول مؤجرة تصدر أحكاما فورية مبنية على أحكام مسبقة، لتحول الاعتقادات إلى عقائد، والعادات المجتمعية إلى انطباعات وقناعات قطعية، فتصبح الأحكام والقرارات تحت تأثير سلطة الموروث لا سلطة العقل العلمي الحر.

أهمية الكتاب تكمن في انطباقه على الكثير من سلوك النخب العلمية والثقافية، وأصحاب الفكر الثوري المؤدلج، والرأي الاستبدادي، وجماعات الإسلام السياسي المحكومة بنصوص الأفكار المتطرفة التي تشترك جميعها، بصفات جمود العقل، وضمور النقد، وادواته المعرفية، والاخلاد الى الموروث الديني التقليدي، والزمن الساكن، وكلها مخرجات لا تخرج من فكرة المراوحة الفكرية، وقمع التعددية، وشيوع اليقينيات الساكنة، وتمدد تمظهرات التأدلج الناتجة عن آثار الفكر المنغلق، وانحسار تنويعاته.

ولأننا لا نريد ان نؤجر عقلنا للكاتب الامريكي، ونجعل كلامه مقدسا غير قابل للنقاش، فأننا نحاول التحدث بعقلنا ضمن محاولة استكشافية لعقول الآخرين، فما يدور في الواقع يبدو مؤلما وحزينا، ان نجد اليوم أشخاصا غرر بهم على الرغم من أن تخصصاتهم علمية، وأشخاصا أحكامهم وقراراتهم سطحية رغم شهاداتهم العليا، وأشخاصا تحليلاتهم وقراءاتهم لا توازي خبراتهم العملية، كل ذلك بسبب تأجير عقولهم!

البعض يريد منا اليوم ان يحولنا الى آلة استنساخ، او يجعلنا نسخة بيولوجية مطابقة بالاستنساخ للإنسان الآخر الذي نتعصب له، ونقتدي بأفكاره، مثل استنساخ نعجة (دوللي) عام 1997 رغم ان الكون أصبح رقميا، وتغيرت أحوال الناس وتفكيرهم، وتجددت الأحزاب وافكارها، وتنظفت العقول من ادرار الماضي وتقاليده المريضة.

لكن البعض مازال يعيش غيبوبة الماضي (امجاد ياعرب امجاد)، وبهوس معارك المصير، ومازال يشبه طالبا يركز على الحفظ والحشو والتلقين، وعدم الاعتماد على الفهم والاستنباط والاستنتاج والملاحظ والمقارنة والنقد التحليلي المعقلن، يحفظ، لكنه لا يفهم، لذلك فهو أحياناً كلما زاد حفظه، كلما زاد تبلدا وسطحية، يردد ما يقال دون أن يعي ما يقول، وبالتالي يتخرج طالبا ببغائيا بامتياز!

هناك من يحمل سلاح التعصب لأفكاره القديمة، حتى ولو كانت تحتاج الى تجديد، ومزيدا من الأوكسجين، لهذا تجده انتقائيا في آلياته، أحاديا في تفكيره، لا يحاور بطريقة متزنة، وبمهارة استدلالية، بل هو مشوش يعتسف الأدلة، ويختزل القضايا، ويتناقض فكرا وسلوكا، ويخون الآخرين لمجرد رأي مختلف، ويأبى على الرضوخ للحق تعصبا لأفكاره، مما يجعل القضية في النهاية تستحيل إلى ضرب من الاستقطاب والتحزب الذي لا يولّد إلا السلبية والاستسلام. البعض يريد منا ان نؤجر عقولنا للفرد والحزب والطائفة الى يوم القيامة، وان يجعلونا تحت وصاية أفكارهم وعقائدهم، وتجفيف منابع التجديد والابتكار والاستقلالية (ما اريكم الا ما ارى). بل أشعر بالقرف اليوم عندما أقرأ اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، وكروبات الثرثرة والبيانات الثورية، لغة تخوين الآخر لمجرد رأي مخالف او متجدد، وقتله بسكين الماضي، والاستبداد بعدم قول الحقيقة بحجة الحفاظ على المقدس، ورفض إزاحة الراكد، وإلغاء التفكير النقدي الإبداعي في الحوار والرأي، وتثوير النفاق الوطني بين ما يكتبه البعض علنا، وما يقال سرا في مجالسهم السرية، ومحاولة تنشيط زمن الجاهلية بهدف خنق أصحاب الراي المستنير الذين يدافعون عن الوطن جهارا بأسمائهم الصريحة ،بينما البعض يتحول الى (قنفذ) سياسي يخفي رأسه خلف ساتر الكذب والخداع في حروب الرفاق والأصدقاء.

والتفسير الاجتماعي لما يحدث اننا مازلنا مصابون بمرض السادية والماسوشية بفعل تقلبات ازمنة الظلم والكوارث وفواجع التاريخ، والانفصام بين الحنيين للماضي، والتردد في فهم الحاضر، أنها شخصية التسلط والقمع والانفعال والتغلب والنكوص والنرجسية والازدواجية. محصول القول، أن الحياة تتسع للجميع، والاختلاف شيء طبيعي، وتنوع الألوان يُعطي جمالاً لها، وكثرة ضوابطها تشل حركة الإنسان، وقبولنا للبعض قوة وحكمة سواء اتفقنا أم اختلفنا، وليس شرطا ان نقتنع بما يقتنع الاخرون، وأن نرى ما يرونهم، وما يصلح لنا قد لا يصلح لهم، والتسرع في الحكم على أفكار الاخرين سذاجة وجاهلية، لأن معرفة الناس هو للتعايش معهم لا لتغييرهم. انا لست أنت، وعليك ان تقبلني كما أنا حتى أقبلك كما أنت.

المهم ان نتحاور وعقولنا مستقلة وغير مؤجرة للآخرين! حان الوقت ان نعمل قسطرة لعقولنا، كقسطرة القلوب، لكي نتخلص من (تصلب) شرايين الماضي لتوطين المستقبل في عقولنا، واستيعاب فكرة ان عقل الانسان مصدر الحكمة والتبصر وهو (اعدل قيمة بين الناس) كما يقول ديكارت، والغاء عقود ايجار عقولنا لمن خربوا اوطاننا، واختزلوا وجودنا بقدسية فرد او حزب او جماعة او عشيرة، والتوقف عن تخوين الآخرين لمجرد رأي مخالف، وفكرة تتعارض، لأن التاريخ علمنا حكمة تقول: ليس هناك فكرة حياتية مقدسة غير قابلة للنقاش والتغيير، الا فكرة الوطن الذي لا يخضع للتأويل والتأجير!.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق