حصل انقسام حاد في المجال الفكري العربي المعاصر، بين من يدعو إلى التحرر من الأيديولوجيا والتخلص منها ومن سطوتها وطغيانها، وتضليلها الزائف، وتبشيرها الخادع، ووعودها الوهمية كما يرى أصحاب هذا الرأي. وبين من يدعو إلى التمسك بها لدفع المعرفة والفلسفة نحو النهوض بوظيفتهما النقدية والاجتماعية...
اشتغل الباحث اللبناني الدكتور عادل ضاهر على نقد الفلسفة الغربية التي درسها ودرّسها تعلما وتعليما، مقدما عملا فلسفيا كبيرا، تكوّن من أربعة أجزاء تناول فيه بالتحليل والنقد أهم الاتجاهات الفلسفية في الغرب التي تصدت إلى المشكلات الكبرى في أربعة ميادين هي: فلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، والفلسفة السياسية والاجتماعية، وفلسفة العلوم الاجتماعية، متطلعا من هذا العمل الوصول إلى بناء نظرة فلسفية شاملة ومتماسكة نرتكز عليها في التحليل الفلسفي لتلك القضايا الفلسفية الكبرى.
في هذه المعالجة انطلق الدكتور ضاهر من مسألة اعتبرها أنها تشكل المحور الأساسي، تحددت في طريقة الفهم لطبيعة الفلسفة ودورها، متجها لتبني وجهة نظر ترى أن الفلسفة في جانب مهم وجوهري هي نقد أخلاقي للمجتمع، متمسكا بهذا الرأي ومدافعا عنه، ساعيا لتأكيده والالتزام به، باذلا جهدا لتبيان الأسس المسوغة له متجليا في كتابه: (الأخلاق والعقل) الصادر سنة 1990م، وهو الكتاب الأول في مشروعه الموسوم نقد الفلسفة الغربية.
هذا الرأي بمنطق التحليل تكون من ثلاثة عناصر هي: النقد والأخلاق والمجتمع، أراد ضاهر من "النقد" تأكيد الطابع النقدي للفلسفة، مجادلا في هذا الشأن ومفارقا عددا من وجهات النظر السائدة في المجال الفكري والفلسفي الغربي المعاصر، منها تلك التي ترى أن الفلسفة هي مجرد أداة للتحليل، الرأي الذي أخذ به مفكرون أمثال البريطاني برتراند راسل والنمساوي فتجنستين وأصحاب مذهب الوضعية المنطقية عموما.
ومنها تلك التي ترى أن الفلسفة هي مجرد أداة للوصف الظاهراتي، الرأي أخذ به مفكرون أمثال الألمانيان هوسرل وهايدغر والفرنسيان سارتر وميرلوبونتي وأصحاب المذهب الظاهراتي عموما. ومنها تلك التي ترى أن الفلسفة هي نشاط فكري تجريدي محايد يتحرى البحث عن الحقيقة المجردة. في مقابل هذه الآراء والاتجاهات التي تنحو بالفلسفة مذاهب شتى حاول ضاهر تغليب المعنى النقدي للفلسفة.
ومن "الأخلاق" أراد ضاهر تأكيد الطابع المعياري للفلسفة الذي يتخطى ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، ساعيا لتحويل اتجاه الفلسفة من كونها فلسفة نظر إلى فلسفة فعل، ومن فلسفة تعنى بفهم الواقع والكلام عن العالم إلى فلسفة تعنى بتغيير الواقع وإصلاح العالم، مرتكزا على أن العقل ليس من وظيفته أن يقرر الوسائل وحدها بل من وظيفته كذلك أن يقرر الغايات، وما بين الوسائل والغايات تتأكد العلاقة بين العقل والأخلاق.
وأراد ضاهر من "المجتمع" تأكيد علاقة الفلسفة بالمجتمع، وتغليب الوظيفة الاجتماعية للفلسفة، متوثقا برؤية رائد مدرسة فرانكفورت النقدية الألماني هوركهايمر الذي يرى "أن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة تكمن في نقدها لما هو سائد".
وترسيخا لهذا المعنى انتقد ضاهر انصراف الفلسفة إلى البحث الأنطولوجي والإبستمولوجي والميتا-لغوي والميتا-علمي ومنطقي، والاستغراق في هذه الأبعاد النظرية، والاغتراب عن المجتمع وشؤونه وقضاياه، وتغليب المعرفة على المجتمع، والتمسك بالوظيفة المعرفية وإهمال الوظيفة الاجتماعية.
هذا المعنى للفلسفة على وجاهته وقيمته يكاد يكون مهجورا في المجال الفكري العربي، وأظن أنه بحاجة إلى لفت الانتباه إليه، وتسليط الضوء عليه، واستعادة النظر فيه والتأمل، ليكون هذا المعنى حاضرا إلى جانب المعاني الأخرى للفلسفة وليس مغيبا أو مهجورا.
ولا أعلم إن كان هناك أحد يبادل ضاهر الحماس نفسه دفاعا عن هذا المعنى وتمسكا به، ولعل في انطباع بعض أن هذا المعنى لا يمت إلى الفلسفة بصلة، بل يخرجها من مجالها المحكم، ويهبط بها من تعاليها المتسامي، ويمس كبرياءها، ويخدش في هيبتها ورهبتها، ويعرضها لأن تكون مادة للهرج والمرج بحسب لغة القدماء، معتبرين أن الفلسفة هي أكبر من ذلك وأسمى، وأنها من اختصاص أهل الصفوة من الناس، ولا يقوى عليها صبرا وجهدا إلا الحكماء.
وتتمة لرأي هؤلاء فإن الفلسفة في نظرهم إما أن تكون فلسفة أو لا تكون، لا تكون فلسفة إلا إذا كانت موضوعا خاصا، وليست موضوعا عاما، وإذا كانت نشاطا فكريا نظريا وتجريديا، وليست نشاطا فكريا عمليا وتطبيقيا، وإذا كانت بحثا يتوخى المعرفة المحضة والبحث عن الحقيقة العليا ويتجنب ما دون ذلك، ناظرين إلى أن الفلسفة هي العلم الوحيد الذي لا يقبل التهاون، ولا يرضى بالتنازل، ولا يقنع بالتواضع.
وأما في منطق ضاهر فإن هذا المعنى إلى الفلسفة الذي يدركه ويعيه ولم يكن متغافلا عنه أو بعيدا عن فطنته، قد يرى فيه تجميد للفلسفة، وتعطيل لوظيفتها النقدية والاجتماعية، وقد يعده تباهيا بالفلسفة لا جدوى منه، وتعاليا لا أساس له، وترفعا في غير مكانه، وأنه أقرب إلى هيبة متخيلة، ورهبة متوهمة، وقد يرى في أصحاب هذا الرأي أنهم أساؤوا إلى الفلسفة من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وأنهم أسهموا بحصار الفلسفة من حيث يدركون ومن حيث لا يدركون، وأنهم ضيقوا عليها الخناق من حيث يظنون ومن حيث لا يظنون.
ليس بعيدا أن يتقاطع المفكر المغربي الدكتور طه عبدالرحمن ويلتقى مع المعنى الراجح للفلسفة عند ضاهر، وتحديدا من جهة التركيز على النقد الأخلاقي، لكون أن هذا الجانب يحظى بعناية الدكتور طه واهتمامه الشديد، باعتباره يتبنى فلسفة تتخذ من الأخلاق مرتكزا، ويعد صاحب فلسفة أخلاقية ظل ينتصر لها، ويتمسك بها، ويدافع عنها، وقد اتخذ من النقد الأخلاقي منطلقا ومنهجا في نقد الحداثة وتقويم إعوجاجها الموصوف عنده بالإعوجاج الخلقي للحداثة، شارحا هذا الموقف وكاشفا عنه في كتابه: (سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية) الصادر سنة 2000م.
إلى جانب هذا التقاطع، هناك جانب تفارق بين المفكرين، متحددا في المرجعية من جهة، وفي المنهج من جهة أخرى، فالدكتور طه عبدالرحمن يرتكز على مرجعية دينية إسلامية، بينما يرتكز الدكتور ضاهر على مرجعية علمانية غربية، ومن جهة المنهج فإن الأول يربط الأخلاق بالدين ولا يقبل فك العلاقة بينهما، أما الثاني فيربط الأخلاق بالعقل ويشدد على هذه العلاقة.
من جانب آخر في النقاش الفكري والنقدي مع ضاهر، يتعلق هذا الجانب بربط ضاهر موقفه الفلسفي بالأيديولوجيا، مقدما دفاعا عن الأيديولوجيا وعن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا، معتبرا أن الأيديولوجيا هي التي تحفز الفلسفة على النهوض بوظيفتها الاجتماعية والتغييرية، ومن دونها تنزع الفلسفة نحو التجريد النظري والتعالي العلمي، وله في هذا الشأن مقالة مبكرة نشرها سنة 1983م في مجلة مواقف اللبنانية بعنوان: (الفلسفة والأيديولوجيا)، وجدد التأكيد على هذا الموقف والدفاع الشديد عنه في مقالته الموسومة بعنوان: (دور الفلسفة في المجتمع العربي) المنشورة سنة 1985م في كتاب جماعي بعنوان: (الفلسفة في الوطن العربي المعاصر).
أمام هذه القضية حصل انقسام حاد في المجال الفكري العربي المعاصر، بين من يدعو إلى التحرر من الأيديولوجيا والتخلص منها ومن سطوتها وطغيانها، وتضليلها الزائف، وتبشيرها الخادع، ووعودها الوهمية كما يرى أصحاب هذا الرأي. وبين من يدعو إلى التمسك بها لدفع المعرفة والفلسفة نحو النهوض بوظيفتهما النقدية والاجتماعية، وحفزهما باتجاه التفاعل مع قضايا الإنسان والمجتمع والعالم، ولأجل الاقتراب من الواقع وهمومه والتشارك في إصلاحه وتغييره.
المنحى الأول يتبناه شريحة من الكتاب والمفكرين يبرز منهم الدكتور محمد أركون الذي اعتبر في ندوة: (التراث وتحديات العصر) المنعقدة في بيروت سنة 1985م، أن طغيان أيديولوجيا الكفاح على تقدير حقوق العلم واحترامها، أصبح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر من أشد العراقيل المعرفية، وأخطر النتائج على مصيرنا.
وتناغما مع هذا المنحى وتأكيدا له يرى الباحث البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه: (مساءلة الهزيمة) الصادر سنة 2001م، أن الفكر العربي المعاصر ما لم يتخلص من طغيان الأيديولوجيا لصالح الإبستمولوجيا أو البحث المعرفي العلمي والنقدي، فإنه لن يتمكن من الخروج بوعي الأمة من نفق الهزيمة.
كان بإمكان الدكتور ضاهر الدفاع عن موقفه الفلسفي بعيدا من الأيديولوجيا، من دون أن نصادر حقه في الرأي، لأن الفلسفة أكثر رحابة من الأيديولوجيا، وأبعد أفقا منها، ومتى ما اختلطت بالأيديولوجيا فقدت رحابتها وسعة صدرها وبعد أفقها، وعندها قد تتحول إلى شيء آخر غير الفلسفة، تكون أقرب إلى الأيديولوجيا من الفلسفة، لذا فإننا نتفق مع ضاهر في أن تتجه الفلسفة نحو النقد الأخلاقي للمجتمع، ونفترق معه في ربط هذا المعنى بالأيديولوجيا.
اضف تعليق