تطبيق الفلسفة على السياسة العامة لم يُستكشف كثيرا بسبب التصور المهيمن الذي يرى ان الطريقة العلمية وحدها تمسك بمفاتيح السياسة العامة الحيوية. ومع هذا، يبقى الترابط قائما وبعمق بين الفلسفة والسياسة العامة، وهي الحقيقة التي يتجاهلها صنّاع القرار على حساب مصلحة المجتمع. لنأخذ مثالا عن...
تؤكد الجامعات في كل دول العالم على الأدوات التقنية التي تُستخدم في تصميم السياسات العامة. انها تريد التأكد من اننا ندرك مفاهيم معينة مثل الهوية السببية، وتحليل الكلفة-المنفعة، والنظرية الاقتصادية. لكن معظم مدارس السياسة لا تولي نفس المستوى من الاهتمام للتدريب الفلسفي. بعد حركة التنوير الفكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أصبحت الفلسفة مقيّدة بشكل من العلمية، ولذلك هي تعاني الآن من مشكلة الصورة.
تطبيق الفلسفة على السياسة العامة لم يُستكشف كثيرا بسبب التصور المهيمن الذي يرى ان الطريقة العلمية وحدها تمسك بمفاتيح السياسة العامة الحيوية. ومع هذا، يبقى الترابط قائما وبعمق بين الفلسفة والسياسة العامة، وهي الحقيقة التي يتجاهلها صنّاع القرار على حساب مصلحة المجتمع.
لنأخذ مثالا عن التدريب المتّبع في الاقتصاد لمساعدة صنّاع القرار في تصميم سياسات مبنية على الدليل. اذا كانت هذه الأدوات تمكّن صناع القرار من قياس فاعلية السياسة، فهي غير كافية لتحليل المضامين الأخلاقية. ان أسئلة العدالة هي هامة جدا ومع ذلك تلقى القليل من الاهتمام الفلسفي في عملية صنع القرار. النتيجة الطبيعية من كل ذلك هي ان صنّاع السياسة عادة يثقون بأحكامهم الخاصة.
كارثة كوفيد 19 حول العالم تُلقي الضوء على هذه المسألة، حيث ان برامج الدفع النقدي للمتضررين في باكستان والمكافئات النقدية في المملكة المتحدة للمنقطعين عن العمل والتعويضات المالية في الولايات المتحدة جميعها تجسد افتراضا قويا عن العدالة. النقاشات العالمية الحديثة الجارية حول تطبيق ضرائب الثروة تتعلق بالعدالة بنفس مقدار تعلّقها بالفاعلية الاقتصادية. المخاوف من تمدد دور الحكومة والتآكل المحتمل في خصوصية الفرد يعتمدان على الكيفية التي نعرّف بها حدود الحرية. هذه كلها اسئلة فلسفية صارمة لا يمكن الإجابة عليها بالاعتماد على الموهبة.
مشكلة اخرى ذات صلة هي ان هناك ارتباط عميق بين أي حقل فرعي في السياسة العامة من جهة والفلسفة من جهة اخرى. لنأخذ مرة اخرى مثالا عن الاقتصاد. سواء كنا من أنصار نظرية المنفعة او النظرية الرولسية حول العدالة، فهي لها مضامين كبيرة جدا عن الكيفية التي ننمذج بها السلوك الفردي، وبالتالي الكيفية التي نحلل بها مضامين الرفاهية، في ذلك نحن ضمنيا نطرح افتراضا عن كيفية تعريف الرفاهية.
الاقتصاديون الحاليون الذين يقومون بأعمال ملائمة للسياسة يتحاشون الأسئلة عن الاسس الفلسفية الأصلية لنماذجهم حول السلوك الفردي. ذلك يجب ان لا يعني ان فهم الفلسفة ليس هاما لعملهم. هذا يصح ايضا على الحقول الاخرى الملائمة للسياسة. بدون اعتماد أساس متين في الفلسفة، كيف لنا كصانعي سياسة وباحثين نأمل بتصميم سياسات عادلة وتقييمها بطريقة تعكس الرؤية العالمية التي نتفق عليها؟
بعض الباحثين في الفلسفة أولوا اهتمامهم بها عندما درسوا بعمق في حقل الاقتصاد. يقول هؤلاء انهم تعلموا مهارات صلبة كانت مطلوبة لعمل تحليل للسياسة وطبّقوها لإنتاج بحوث في السياسة. الجلوس في صفوف دراسة الاقتصاد وتطبيق هذه المهارات لإنتاج بحوث ساعدهم في ادراك ان قيمة الدليل و النظرية الاقتصادية هما مفيدان جدا. في نفس الوقت، لم يكن في تدريبهم سوى القليل الذي ساعدهم في تحليل الافتراضات الاساسية والمضامين الاخلاقية للسياسات. هذا الشعور في عدم الكفاية دفعهم لدراسة وفهم اسس الفلسفة.
منذ عصر التنوير، وضع العالم قدرا كبيرا من الأهمية على الدليل، وهو الشيء الذي تغلغل في العلوم الاجتماعية متحفزاً بالتطورات العلمية الكبرى في القرون الاخيرة، ولذلك فان العلوم الاجتماعية سعت لتقليد نظرائها من العلوم الخالصة، وبدأت تأخذ بعقيدة الدليل.
ليس هناك شك ان هذا كان تطورا مدهشا في العلوم الاجتماعية. في الدليل وحده نستطيع الحصول على قياس للموضوعية في العلوم الاجتماعية، لكن نفس الأداة المستخدمة في العلوم الخالصة هي غير كافية للإجابة على اسئلة العدالة والاخلاق. ان جمال العلوم الاجتماعية هو في انها لا تتطلب فقط ادوات تستطيع بواسطتها اجراء التحليل الموضوعي للتأثير السببي للسياسة وانما تحتاج ايضا ادوات تشكّل رؤيتنا العالمية الأوسع حول ما هو صحيح وخاطيء، ما هو عادل او غير عادل. ان الوقت مناسب الآن للعلوم الاجتماعية للتحوّل نحو الانسانيات كطموح، مثلما تحولت نحو العلوم كطموح لها في القرن الماضي. كذلك الوقت مناسب الآن للسياسة العامة ان تأخذ الإلهام من الفلسفة.
اضف تعليق