قد تستطيع وسائل الاعلام تحقيق بعض المكاسب في تغطية تظاهرة هنا او تظاهرة هناك، لكنها تفقد اهم ما تملك، وهو رصيدها من الثقة والمصداقية، وبما انها تحولت الى ذراع سياسية، فلا يمكن لها رفع راية الدفاع عن الحقيقة والحقوق، ما يعني ان مصيرها الافول والانهيار، فالغاية لا تبرر الوسيلة دائما...
مشهد مرعب عاشه مواطن أميركي اسود اسمه جورج فلويد، اذ يضغط ضابط الشرطة على رقبته لمدة ثمان دقائق ومنعه من التنفس بينما يصرخ فلويد "لا استطيع التنفس" الى ان مات تحت ركبة الضابط الأبيض، هذه الجريمة انتشرت في جميع انحاء العالم لتنافس فيروس كورونا في عدد المتابعين لتفاصيلها، بينما خرج الاف الاميركيين في تظاهرات غاضبة من أسلوب الشرطة في التعاطي مع المواطن جورج فلويد الذي فقد وظيفته قبل أسابيع واشترى السكائر من احد المحلات ليتهمه صاحب المحل في ولاية مينيسوتا بالتعامل بعملة نقدية مزورة فئة 20 دولار.
مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام ضجت بالحادثة وما لحقها من احداث التظاهرات الأميركية، بعضها نقل الحادث كما هو لتعريف الجمهور بالجريمة وتبعاتها وامتدادها التاريخي وتاثيرها الحالي والمستقبلي على حياة المجتمع الأميركي، فيما تبنى الجانب المعادي للولايات المتحدة لهجة نقدية شديدة واتخذها كذريعة لضرب الديمقراطية الاميريكة واتهامها بالعنصرية، وعدم احترام حقوق الانسان، كثرت التحليلات والتفسيرات للحادثة فبينما اتهم الاعلام الأميركي بالتعاطي الازدواجي مع حوادث شبيعة في دول عربية، اذ كان الاعلام الغربي عموما يصب كل جهوده على تغطية الاحداث ويصبغها بصبغة إنسانية وبعيدا عن سياق الاحداث ومبررا حتى بعض الجرائم التي تحدث في التظاهرات الشعبية التي تجري في الدول العربية، بينما كان ذات الاعلام الأميركي والغربي يتعامل مع عنصرية الشرطة الأميركية، اما بحيادية تامة وهذا غير موجود في تعاطيها مع احداث شبيهة في الدول العربية، او بانحياز لصالح الحكومة.
اقتطاع الحقيقة وسيلة للسياسة
على سبيل المثال كانت قناة الحرة الأميركية وحليفاتها من وسائل الاعلام الغربية تعتبر كل الاحداث التي رافقت التظاهرات الشعبية في العراق منذ تشرين الأول 2019 وحتى استقالة عادل عبد المهدي هي احداث محقة وليس فيها تجاوز على القانون او تجاوز على أملاك الدولة، وبالفعل فالتظاهرات التي شملت المحافظات العراقية الجنوبية كانت شعبية محقة وتريد تحقيق العدالة بعد ان غرقت في بحر من الفساد وسوء توزيع الثروة واستغلال الأحزاب الحاكمة لمواقعها للاستثمار المالي على حساب المال العام، ما أدى الى انهيار الاقتصاد المتداعي، والتحاق الاف الشباب في جيوش البطالة الفعلية والبطالة المقنعة التي تاتي على شكل وظائف في المؤسسات الحكومية.
كل هذه الحقائق تفرض على كل مواطن عراقي الخروج والتظاهر، وبما ان التظاهرات حاشدة مع غياب القيادة المركزية، حدثت خروقات كثيرة واخترق التظاهرات من قبل تيارات سياسية معروفة، وأخرى غير معروفة، بعضها انكشف بعد ترشيح محمد توفيق علاوي، اذ انقلبوا على المتظاهرين وتحولت التظاهرات الى مناكفات بين الطرفين، لم تكن وسائل الاعلام الأميركية حيادية تجاه هذه الحقائق فاعتمدت نصف الحقيقة في تغطيتها الإعلامية، أي اخذ جزء من الحدث وتصويره على انه الكل.
هناك عدة أسباب أدت الى تقديس حق التظاهر، وأخرى الى اختراقه، فعل التقديس جاء نتيجة استفحال فساد الحاكومة ما جعل أي فعل مضاد لها يمثل حالة مقدسة، وفي الجانب الاخر كان الاختراق سهلا، فبمجرد رفع شعارات مناهضة للحكومة تستطيع ان تنضم الى حشود المتظاهرين، وبما ان التظاهرات تتمتع بحصانة مجتمعية من النقد فيمكن لاي جهة سياسية تمرير سياستها تحت غطاء التظاهر، كما كانت هناك عدة مسارات في التظاهرات، مسار وطني خالص ولا يمكن لاي شخص ان يمسه بسوء، فحتى الاعلام المعادي لا يستطيع ان يثبت عدم وجود النسبة الأكبر من المتظاهرين هم من الشباب الذين فقدوا الامل بوجود منفذ للخلاص من الوضع الاقتصادي السيء.
الغاية خدمة السياسة
لكن في المقابل كانت هناك جهات سياسية استغلت هذا الوضع وارادت قلب موازين السياسة في العراق، وقامت بتصوير كل مشاهد الخروقات على انها عمل مبرر، فحدث مثل اغلاق مؤسسة حكومية بالحديد واللحام هو فعل مبرر لان الحكومة لا توفر الخدمات، كما ان احداث اغلاق المدارس والجامعات امر طبيعي وحق من حقوق الطلاب، وليس هذا وحسب بل ان الاعلام الأميركي يسوق لوقائع فيها مخالفات قانونية مثل استغلال طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة من اجل التحشيد في التظاهرات، وامور أخرى مثل الاعتداء على القوات الأمنية وغيرها.
لم تفعل وسائل الاعلام الأميركية الامر نفسه مع الاحداث التي جرت مؤخرات في الولايات المتحدة، اذ وصفت الأشياء بمسمياتها، فالتخريب يسمى تخريب، والتظاهر يسمى تظاهر، وهكذا، لم تكن هذه التسميات حاضرة في تغطية التظاهرات العراقية رغم ما فيها من خروقات، لماذا؟ لان هناك استغلالاً دعائيا لصالح الولايات المتحدة الأميركية، فالغاية هنا تسقيط الجهات المعارضة للوجود الأميركي، والوسيلة هي استغلال التظاهرات.
في مقابل كل هذا كانت هناك مجموعة من القنوات الإعلامية العراقية الممولة من دول خارجية تتخذ من بعض الجزئيات السلبية في التظاهرات لتنقلها على انها تعبر عن التظاهرات، وتنقل أيضا الدعم الذي تحصل عليها التظاهرات من الإعلام الأميركي لتؤكد ان ما يحدث في العراق هو بدفع أميركي خالص، رغم ان هذه ليست الحقيقة، بل جزء صغير جدا، بل ان اغلب وسائل الاعلام العراقية الممولة من الخارج كانت تصف التظاهرات بأسوأ الاوصاف، لماذا؟ لان الغاية هي الحفاظ على المكاسب السياسية والاقتصادية والدعم غير المحدود من الخارج، والوسيلة هي تشويه سمعة المتظاهرين وصوفهم باوصاف تخرجهم من روح المواطنة.
تغطية مكشوفة
في التظاهرات الأميركية انقلت الصورة، وسائل الاعلام العراقية الممولة من الخارج تدعم التظاهرات في اميركا بكل ما اوتيت من قوة، وتصفها بانها ثورة ضد التمييز العنصري، تقابلها تغطية إعلامية اميريكة تركز على اعمال التخريب لتشويه صورة المتظاهرين، والمقصود هنا قناة الحرة الموجهة للعراق، أي اننا امام أسلوب واحد واوجه متعددة، فالتغطية الإعلامية لم تعد تهدف الى كشف الحقائق، بل هي وسيلة لتمرير الرسائل السياسية، والضغط على الخصوم، لتحقيق غايات للدول الكبرى او الممولة لوسائل الاعلام.
وبسبب انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، باتت هذه التغطية الإعلامية مكشوفة حتى ان ابسط الناس يعرف ان قناة الحرة تحذف الصور التي لا تلائم السياسة الأميركية، بينما تعمل وسائل الاعلام العراقية الممولة من الخارج على حذف الصور التي لا تتلائم مع سياسة مموليها.
قد تستطيع وسائل الاعلام تحقيق بعض المكاسب في تغطية تظاهرة هنا او تظاهرة هناك، لكنها تفقد اهم ما تملك، وهو رصيدها من الثقة والمصداقية، وبما انها تحولت الى ذراع سياسية، فلا يمكن لها رفع راية الدفاع عن الحقيقة والحقوق، ما يعني ان مصيرها الافول والانهيار، فالغاية لا تبرر الوسيلة دائما، وعلى وسائل الاعلام ان تعي هذه القاعدة، بل عليها ان تعي ان الغاية هي الحقيقة وليست خدمة السياسة، وعندها سنشهد تغطية متقاربة بين التظاهرات في العراق، والتظاهرات في اميركا وتتحول وسائل الاعلام من خدمة السياسة الى خدمة الانسان.
اضف تعليق