منذ أن طرح جو بايدن مشروعه السياسي المعروف حول العراق على أثر أزمة الحرب الاهلية التي مر بها العراق منذ 2006 والى غاية 2008، ومن حينها دخل العراق في نفق توقعات البقاء أو التشظي حتى أن البعض أصبح يفكر في ما هو شكل العراق بعد التشظي.
جاء اليوم مشروع السيناتور ماك ثورنبيري ليعيد أفق التوقعات مرة اخرى ولكن هذه المرة على ضوء خريطة الصراع التي تكونت بعد قتال داعش، يفتح مشروع ثورنبيري التوقع حول قدرة العراقيين على الحفاظ على مكان يجمعهم ويعطيهم خصوصيتهم الاجتماعية والثقافية فبدون العراق ليس هناك عراقيين.
التداخل العراقي اجتماعيا واقتصاديا جعل أفق التوقعات يصطدم بالكثير من الامور والمعوقات منها، كيف يتم الفصل في المناطق المختلطة سكانيا مع صعوبة ايجاد حلول واضحة حول ادارة مناطق فيها أماكن دينية وأخرى تاريخية تعود للجماعات المتصارعة.
كل هذا الافكار والتصورات تدور داخل الافق المحلي ولكن على مستوى الدولي الحال يختلف فهناك ستراتيجية " الخطوة خطوة " بمعنى التدرج الهادئ في طرح وتنفيذ المشاريع، اذ تذكر الدراسات أن تقسيم السودان كان مطروح منذ سبعينيات القرن الماضي عندما بدأ على شكل خطوات ادارية وثقافية.
ثم أخذت تظهر صعوبة انتقال السودانيين المسلمين الى جنوب السودان " دافور وغيرها " ثم بعد ذلك أخذت تنمو ملامح الخصوصية والتمايز على أساس عرقي وسياسي، استمرت هذه الخطوات بالتصاعد تارة تنحو نحو الصدام العسكري وأخرى تدخل في الصراع السياسي والقانوني لتصل المسألة الى لحظة الانفصال التي حصلت قبل سنتين او أقل.
هذا نموذج ملموس يمكن معاينته ماديا والاطلاع عليه بشكل مباشر، وهناك أيضا تحولات الوضع الفلسطيني الذي مر بأطوار غريبة وعجيبة من مطلب تحرير الكامل للأرض ثم المطالبة بالرجوع الى حدود 67، لنصل الى مرحلة طرح مشروع الدولتين.
المطلع على المشاريع التي توضع للدول التي تعيش ازمة التعايش السلمي، أن تلك المشاريع تواكب تطورات الاوضاع الداخلية لتلك البلدان، بمعنى ما يجري من أحداث وصراعات اجتماعية وعسكرية في داخل تلك الدول يؤثر بشكل مباشر على صياغة مضامين تلك المشاريع.
الغريب ان العراقيين انشغلوا كمحللين وناشطين مدنيين بالنموذج الجنوب أفريقي كونه وصل الى مرحلة التعايش بعد الصراع الطويل، ولكن يغيب عن بال هؤلاء المراقبين طوال تاريخ الصراع في جنوب أفريقيا لم تظهر بوادر مطالب الانفصال على لسان الجماعات المتصارعة، كل القضية كانت تكمن في اعادة صياغة شكل النظام السياسي وجعله أكثر عدالة وتقبل لجميع المكونات الاجتماعية الموجودة في المجتمع الجنوب أفريقي.
كذلك هناك قضية أهم من ذلك هي ان الصراع في جنوب أفريقيا لم يقم على أساس ديني مذهبي وانما على أساس اجتماعي عرقي، لهذا كان مدار الصراع يقوم على كسب الحقوق القانونية والاجتماعية من خلال توظيف منظومة الحقوق العالمية التي أنشأت بعد 1948.
النموذج القريب شكلا ومضمونا للوضع في العراق هو النموذج البوسني بعد مرحلة انهيار المنظومة السوفيتية، والانتهاء من حكم تيتو الذي أدار يوغسلافيا السابقة بالمركزية الشديدة والردع الامني الحاضر عند كل تمرد اجتماعي او سياسي.
دار في يوغسلافيا صراع العسكري جعلها تعيش التمزق والتفكك، فالجمهوريات الست التي كانت منضوية تحت الاتحاد اليوغسلافي لم تعد تريد البقاء ضمن روابط هذا الاتحاد بسبب اختلال موازين القوى وغياب العدالة السياسية والاقتصادية.
ما يميز البوسنة عن بقية أجزاء الاتحاد اليوغسلافي السابق هو اختلاف الهوية والاصول الاجتماعية لسكانها، ولهذا نظر اليها الصرب الاكثر عددا كجيب سكاني هجين عن بقية الاجزاء الاخرى.
حينما نتابع مسيرة التحولات التي مرت بها الحالة البوسنية نجد هناك تشابه بينها وبين الحالة العراقية، فالحرب الأهلية التي قامت على أساس ديني عرقي رافقها نزوح سكاني ادى الى تغييرات ديموغرافية جعلت من الوضع الاجتماعي يأخذ شكلا جديدا يشترط سمة الصفاء العرقي والديني.
ثم جاء بعد ذلك التدخل الغربي تحت مظلة الشرعية الدولية بعد مخاضا طويل، ليقود نحو صياغة مشروع دايتون الذي رعته الولايات المتحدة الاميركية وكان من ضمن المساهمين فيه كما يذكر نائب الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن.
عاد بايدن ليقوم بنفس الدور عندما تولى منصب نائب الرئيس الاميركي باراك أوباما، اذ طرح مشروعه منذ 2008 ليكون علامة فارقة في مسيرة التعامل الاميركي مع الملف العراقي، اوجد مشروع بايدن مساحة واسعة من النقاش والتداول حول مستقبل العراق ولكنه كان يمر بأطوار مختلفة اذ كلما لاحت أزمة في افق العراق ارتفع حضور مشروع بايدن، والعراق لايخفى عن كل مراقب مملوء بالأزمات منذ نشأته والى اليوم، لهذا ينطبق عليه تسمية "الدولة المأزومة" بوجودها ودوام استمرار كيانها السياسي الحالي.
مع مشروع ماك ثورنبيري وصلنا الى النقطة الحرجة في التفاعل كما يعبر الفيزيائيون، قبل مرحلة مشروع ثورنبيري كان العراق يمر بحالة ترسيخ حالة قبول التقسيم ذهنيا بمعنى لم يعد من الممكن أن نتصور امكانية قبول وجود كتل سكانية ذات طابع مختلف مذهبيا وعرقيا ضمن مناطق لاتشابهها في جانبي " المذهب والعرق ".
خلال اشهر الحرب الاهلية أخذ الكلام ينمو عن صعوبة العيش المشترك بين الطوائف المتمايزة، بل وصل الامر الى التفكير بفصل التشابك الاجتماعي والتاريخي بينها، لهذا جاءت تجربة الكتل الكونكرتية التي تم الفصل بها بين الاحياء والمناطق والمتداخل، وكان هذا اولى مراحل التجريب على تمرين الوصل الى قابلية التقسيم.
تطور الوضع بعد ذلك من خلال تكرار الفشل في كيفية ادارة الاطراف والمركز، وهذا ما تأكد عن طريق معركة الصلاحيات بين المجالس المحافظات والمركز على ضوء قانون 21.
الجديد في مشروع ثورنبيري يفتح المجال امام التعامل مع الكيانات المتصارعة بشكل منفرد وجعله تبحث عن منافذ الرعاية الخارجية من اجل الحصول على الدعم، مع انه يطرح كل مرة مشروع الدولة الكردية ويؤجل ولكنه يحقق مع تكرار الطرح المستمر قضية التعود والقبول.
بمعنى انه يحقق سياسة الخطوة خطوة التي ذكرناها سابقا، ولكن قضية الدولة الكردية واضحة المعالم جغرافيا وسكانيا، الاشكالية تكمن في صورة الوضع الشيعي والسني فيما لو تحقق المتخيل، كيف سيكون شكل الكيان السياسي وماهو اسمه وكيف سيتم ادارته وما دور دول الجوار في ذلك؟، يمتاز الكرد انه مروا بالتمرين مسبقا وعاشوا صراعات وتعلموا كيفية ادارة شؤون إقليمهم كما ان التعدد السياسي يتحرك تحت غطاء قومي وليس ديني.
اضف تعليق