أثار مقتل الشيخ قاسم الجانبي ومن معه قبل ما يقارب سبعة أيام، مخاوف كثيرة داخل المجتمع العراقي من عودة الحرب الاهلية مرة أخرى، تكشف هذه المخاوف عن هشاشة الوضع العام، ثم زاد الوضع تعقيدا عند انسحاب قوى سياسية داخل البرلماني العراقي تمثل المكون السني.
عندما نتأمل ما جرى في سياقات المشهد العراقي، لانستطيع فصله عن أطاره العام إقليميا ودوليا، لهذا أصبحت الاحداث ومضامينها تتجاوز المحلية وتتحول الى وسيلة لإعادة تشكيل مستمر لشكل الصراع الدائر في العراق.
هناك مستويات غائبة عن الرصد والتحليل، مثل ماهي العوامل التي ادت الى ظهور داعش مع نسيان ظاهرة القاعدة، ثم ماهو التفسير المتاح لتنامي التحولات السريعة في قوة داعش الاعلامية والعسكرية؟.
يتعاكس طريقان في إلتقاط الاسباب الحقيقية التي تعمل بشكل دائم على تهيئة أجواء الاحتراب الاهلي بين المكونات العراقية، الطريق الاول يحمل الطابع الرسمي الحكومي الذي يطرح رؤية اولوية محاربة داعش دون التوقف عند الحوادث التي تحاول جر المجتمع الى الانكفاء والتخلي عن الصراع الاساسي مع الارهاب.
الطريق الثاني يتشكل في يوميات الناس والافراد والجماعات الموجودة في المجتمع العراقي، يذهب الى ان ما يحصل هو صناعة سياسية لجعل المجتمع يدخل في نفق الانهاك والمشاغلة عن التوصيف الصحيح للازمة العراقية، التقاطع بين رؤية الطريقين يكشف لنا بأن المجتمع في مسار والعمل السياسي في مسار آخر مختلف ربما يصلان الى حد الصراع "السياسي والاجتماعي".
تشير متطلبات المصالحة الوطنية الى انها اجراءات عملية تقوم بها هيئات متخصصة، تحدد المعالجات المطلوب القيام بها لكي تستوعب الضرر وأثاره النفسية والاجتماعية، هذا التصور والاجراء غير حاصل في العراق، بدليل أين هي لجان الحقيقة التي تضع ميراث المرحلة الماضية وتحللها وتبين ماذا فعلت بالمجتمع وأفراده.
بعد 2006 حصل هناك نوع من التلازم بين المصالحة الوطنية وسير العملية السياسية، ولكن بالمعنى السلبي وليس الايجابي، الغريب أن الحديث عن ضرورة اتمام خطوات المصالحة الوطنية بات مؤشرا نحو تصاعد وتيرة الازمة من جديد، لذلك هناك من يطرح القيام بمراجعة فنية وقانونية للشكل المطروح لمشروع المصالحة، لاسيما بعد تقديم النص الجديد لقانون المساءلة والعدالة لغرض التصويت عليه داخل البرلمان.
تعتمد أساسيات اجراء المصالحة على تبني مفهوم الاعتراف الذي يفتح الطريق أمام تعيين أخطاء الماضي وتشخيص من قام بها دون اللجوء الى اعتماد إسقاطات التاريخ بصراعاته الماضية المذهبية والايديولوجية، يمهد تبني الاعتراف تطبيقا وممارسة الى أفق لكشف ما تم التغاضي عنه اثناء مسيرة الصراع منذ لحظة نشوء الدولة العراقية ولغاية اليوم، يعتمد الاعتراف على سياقات علمية أو كما تسميها الفيلسوفة نانسي فريزر "مفاهيم مفتاحية ونموذجية لفهم الصراع" لهذا تتعامل مع الاعتراف كرؤية عضوية تحتاج الى سياسة عملية ممتدة الاذرع في مجالات المواطنة والعدل والحرية والمساواة والديمقراطية والاحترام والتقدير، هذا التصور يظهر ان الاعتراف أصبح قاعدة تنطلق منها عمليات المصالحة الوطنية.
ينبع الاهتمام بمسألة الاعتراف من ان المجتمعات الاوربية عانت من صراعات طويلة ومضنية جعلتها تبحث بشكل دؤوب عن الاستراتيجيات الملائمة التي تكفل عدم عودة الاحتراب الاهلي مرة أخرى، يشخص الفيلسوف الالماني أكسل هونث تلميذ الفيلسوف الالماني المعروف يورغن هابرمس بأن الاعتراف متعلق بالوقاية من ما يطلق عليها الامراض الاجتماعية/pathologic social.
المشكلة تبقى في القيم والمعايير الاجتماعية التي تحكم سلوك الجماعات المتصارعة، حيث يشخص عالم الاجتماع علي الوردي بأن التغالب هو منطلق سلوك تلك الجماعات في التعامل فيما بينها.
حينما نتوقف قليلا أمام مضمون التغالب ومعناه فأننا نلاحظ الآتي:
يتجاوز التغالب أغلب القيم الاجتماعية التي تحمل معنى السلم والعيش المشترك مثل "التعاون"، كما يدفع نحو تضخم الوسائل على حساب الغايات، هنا نلمس صعوبة تقبل مفهوم الاعتراف كقيمة إنسانية تعزز السلم الاهلي، اذ عدم أهمية القيم الاجتماعية الحافظة للاستقرار واولوية الوسيلة على الغاية يشير الى صعوبة التعامل مع الاعتراف كمدخل لمعالجة الازمة العراقية.
لهذا يظل السؤال كيف يمكن تغيير أولويات السلوك الاجتماعي العراقي؟ ترتبط اجابة السؤال المطروح بزاوية النظر الى الازمة وأسباب نشوئها، هناك من ينظر لها من جانب غياب الدولة مشروعا ونظاما، وآخر يذهب بعيدا نحو عدم اكتمال معنى المجتمع العراقي دلالة ومفهوما وانما هناك جماعات متناحرة تاريخيا وسياسيا.
هذا المأزق العميق "غياب الدولة والمجتمع" في ثنايا الازمة العراقية، يدفعنا نحو البحث عن المصارحة لكي نهيأ الارضية الاجتماعية لبذر مفهوم الاعتراف، لقد تسبب حصر الصراع في جانبه الطائفي صعوبة تبني موقف المصارحة كونه ينطوي في الذهنية العراقية على مضمون الاتهام وتحميل الخطأ.
ربما تساعدنا معاينة النماذج السابقة والتي تبنت مشروع المصالحة الوطنية، في إنتاج نموذج يتناسب مع الواقع العراقي، كما أن فهم أسباب فشل النموذج اللبناني في الوصول الى مستوى فاعل من المصالحة الوطنية على الرغم من وجود حوار وطني يمارس في محطات مختلفة من الصراع اللبناني، يمكننا من وضع تصورات علمية حول مستلزمات المصالحة الوطنية.
مازالت الثقافة العراقية بعيدة عن صياغة مفهوم واضح للآخر الشريك بالأرض والتاريخ، ربما هناك نوع من القفز على أساس مقولات مكررة تشيع بين من يتولى الحديث عن المصالحة الوطنية بين المكونات العراقية، وكأننا نواجه صعوبة التحول في نمط العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
لهذا ظلت مسألة الاقليات الاجتماعية الموجودة في العراق لاتحظى بأهمية كافية للاطلاع على أسباب معاناتها، كنموذج يحتاج الى ادخال في عمليات المصالحة الوطنية، كون حالة الهيمنة والسيطرة التي تخضع لها الاقليات المختلفة لاتعود فقط الى سوء التوزيع في الخيرات المادية، وانما الى عدم الاعتراف بهوياتها، او حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو فأن رأسمالها الرمزي لايتم تقديره والاعتراف به.
اضف تعليق