منذ ان اعتمدت الامم المتحدة بقرارها " 281/66 " في العام 2013 يوما للسعادة على أثر تقديم دولة بوتان مشروع هذا القرار، الذي أصبح معيارا لمعاينة استقرار البلدان والمجتمعات، اختيار معيار السعادة بعيدا عن المعايير الاخرى التي ربما لاتكشف عن مستوى الاستقرار والطمأنينة التي تنشدها الشعوب في حياتها.
معهد غالوب الدولي لدراسات اتجاهات الرأي العام لديه مشروع سنويا يصدر فيه تقرير عن الدول الاكثر سعادة والدول الاكثر تعاسة، يعتمد مشروع غالوب على أخذ عينات مفتوحة من أفراد تلك الشعوب ويطرح عليهم مجموعة أسئلة لكي يعين مدى مستوى السعادة عند تلك الشعوب، العراق الحاضر الدائم في تقرير غالوب لمقياس مستوى السعادة بشكل ملفت، هذا مرتبط بما كان أغلب العراقيين يظنون بالذهاب النظام الدكتاتوري سوف تنزاح كل مشاكل العراق وما يواجه من تحديات، وضع العراقيون بيضهم في سلة واحدة هي "الدكتاتورية" وبرحيلها سينتهي كل شيء، هذا التعميم المبسط لما يمر به العراق جعل من نمط التفكير بالمشاكل يقف عن ظواهر الامور دون النظر الى الاسباب الحقيقية التي تولد تلك المشاكل، اذ راجعنا التصورات المقدمة التي كانت مطروحة لعراق ما بعد الدكتاتورية نجدها اولا قليلة وتخلو من أي عمق ونظر الى خليفات الامور.
المقياس الذي أعتمده معهد غالوب في تحديد السعادة لدى الشعوب هو "مؤشر الخبرة الايجابية/highest positive experience index" بمقابل مؤشر آخر "مؤشر الخبرة السلبية/lowest positive experience index" بتوظيف هذان المؤشرين يمكن معرفة مدى السعادة التي تشعر بها الشعوب داخل اوطانها.
تقرير الذي صدر في حزيران عام 2013 احتل فيه العراق مكان الصدارة ضمن عشرة دول الاكثر تعاسة وبؤسا في العالم، جاء العراق في مقدمة الدول عربيا وفي آسيا احتلت ايران المرتبة الاولى.
المفارقة ان الدولة بوتان عندما قدمت مشروع اعتماد السعادة كمؤشر على تقدم الدول، انها رفعت شعار "السعادة الوطنية الشاملة هي أهم ناتج قومي للبلاد"، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الشعار التي تقوم عليه الحياة في العراق بعد 2003، وماهي المعايير التي أخذت تصاغ بعد التغير السياسي الذي حصل، يشعر من يراقب الحياة في العراق كأنها صراع بين اختيار الطريق المعلوم او الدخول في متاهة.
حينما نطالع المؤشرات الاخرى التي وضعها تقرير لقياس مستوى السعادة عند الشعوب نجدها تقع ضمن "الحرية السياسية، الشبكات الاجتماعية القوية، غياب الفساد، الصحة العقلية والجسدية للافراد، الاستقرار الوظيفي والاسري".
لو اخذنا هذه المؤشرات وبحثنا لها عن وجود في الحياة العراقية، ما يخص الحرية السياسية المفارقة الكبرى في العراق بعد 2003 هناك حرية في الكلام وليس الفعل بمعنى انك اليوم تستطيع تتكلم في كل شيء ولكنك لاتستطيع تحقق اي شيء مما تقوله، منذ فترة طويلة الكل يتكلم على الفساد وبصوت عالي ماذا تحقق من هذا الكلام، وكأن الحال يضع الحياة السياسية في العراق تحت "انك تستطيع أن تتكلم في كل شيء ولكن لاتستطيع تحقيق اي شيء".
ما يتعلق بالشبكات الاجتماعية القوية التي لها حضور فاعل في سد الفراغات التي تعجز الدولة والحكومة على املائها، في البداية بعد 2003 في السنوات الاولى من التغير حصل نشاط ملحوظ لعدة شبكات اجتماعية ومدنية، حيث استطاعت تلك التجمعات المدنية في الدخول من أجل القيام بعملية زرع لقيم مدنية وقانونية في حياة العراقيين بعد مرحلة الدكتاتورية، لهذا أثمرت هذه العملية عن بعض النجاحات ملموسة ولكن الحال تغير بعد 2006 منذ اخذت نذر الحرب الطائفية تلوح في الافق العراقي لتستمر الى العام 2008.
أظهرت الحرب الاهلية التي حدثت حجم التراكم الهائل من الاستعداد الاجتماعي والتاريخي لدى المكونات العراقية لدخول بعملية صراع طويلة لاتنتهي عند حد معين، هذا ما يكشف عن صعوبة احتلال العراق مكانة ملفتة في تقرير مقياس السعادة الذي يتحدث عنها معهد غالوب، فكأننا أمام ثنائية غريبة هي "بعد الخلاص من الدكتاتورية ارتفع قابلية للصراع والتصادم المسلح" لكن هذا لايعني ان الدكتاتورية كانت هي صمام الامان لذلك، بل العكس هي من غذت تكوين قابلية الدخول في العنف المسلح بين المكونات العراقية.
المؤشر الاخر الذي يضع تقرير السعادة لدى الشعوب هو "غياب الفساد والصحة العقلية والجسدية للأفراد مع استقرار وظيفي وأسري" يقع مضمون هذا المؤشر في صلب الحياة العراقية اليومية، حيث يتناول العراقيون في أحاديثهم بشكل شبه يومي مؤشرات الفساد المالي والاداري الذي يعيشونه بعد 2003، وكأنه أحد المحصلات التي رسخت في عالمهم بعد ازاحة الدكتاتورية، اذ اخذ الفساد ينتج ثقافته من خلال نمط واسع من العلاقات الحزبية والعشائرية التي تساهم بشكل واسع على استمرار ظاهرة الفساد.
تحتاج السعادة الى بيئة اجتماعية وصحية مستقرة، تدفع الافراد والجماعات على بذل جهد مستمر في تطوير حياتهم وخياراتهم، ربما من الصعوبة بمكان الحصول على هذه البيئة بسبب التغير الشبه الدائم لها، صحيا عندما نفحص هذا المؤشر نجد هناك نوع من الشيوع لمرض القولون النفسي عند العراقيين، الذي يدلل على حجم الضغط اليومي الذي يتعرض له الفرد العراقي من "أحداث الارهاب، احساسه بهدر الثروات الوطنية، غياب الرؤية الوطنية لأغلب المشاكل التي تواجه...... الخ ".
على ضوء هذه المعاينة الاولية لمؤشر السعادة لدى المجتمع العراقي، هل يمكننا أن نسئل كيف يفكر السياسيون العراقيون بمواطنيهم كأفراد لهم حقوق اجتماعية ودستورية؟.
كيف لنا ان نعرف ذلك إذا كان الكلام غالب على الفعل في النمط السياسي العراقي، فهؤلاء السياسيين حاضرين إعلاميا وغائبين اجتماعيا وانسانيا، هذا يعزز الانفصال التام بين الاخلاق والسياسة العراقية، ما يجعل السياسي غير محكوم بأطر توجه أو تردع سلوكياته، ليس من الغريب حدوث ذلك فالسياسي الذي لاتردعه قيود اجتماعية أو ثقافية هو غير منفصل عن سياق اجتماعي راسخ وحاضر بشكل قوي هو "كثرة الكلام على حساب قلة الفعل".
ربما ستظل السعادة صعبة المنال على العراقيين الى فترة طويلة، الا حينما يتمكنون من مواجهة مشاكلهم بالفعل والعمل دون الاستغراق في الكلام، لان الكلام الى مؤونة كبير بالجهد على العكس من الفعل والعمل، لذلك بات من الواضح ان نيل السعادة عراقيا لا يتم الا بمحاربة الكسل والتقاعس عن بذل الجهد.
اضف تعليق