ان النخب الثقافية هي أكثر الشرائح التي قد تسقط في فخ التحولات المتطرفة، مخالفةً بذلك النظرة السائدة من أن النخب الفكرية والثقافية تتبنى احترام الآراء المخالفة، وتناقشها بشكل علمي ومعرفي. لكن الواقع هو غير ذلك طبعاً، وبجهد رصدي بسيط للسجالات الفكرية خلال فترات متباينة...
كلما استمرت عجلة الحياة، واتسعت مساحات التطور، نكون أمام قناعة طبيعية تتمثل في تغيير التوجهات والأفكار، وكذلك تغيير نظراتنا تجاه الأشياء، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الذهنية المتوقدة، والمتفاعلة مع حركة الزمن المتسارعة. وذلك طبعاً أفضل من الركون إلى سكونيةٍ كسولةٍ لاسبيلَ لتحريكها، وهو مالم يعد مقبولاً في عالمنا المجتهد في تحريك الساكن.
الأهم في قضية تغيير الرؤى والأفكار، هو الإيمان بأننا تغيرنا نحو الأفضل، وأن الآراء الفكرية التي قمنا بتبنيها وتصديرها؛ كانت مراحل للتجربة والبحث من أجل الوصول إلى خلاصة قد نستمر في البحث عنها، وهنا تكمن لذة البحث المتواصل والدراسة المجتهدة.
شاهدنا اليوم ونشاهد تغييرات هي في حقيقتها أشبه بالانقلاب الفكري على متبنيات كانت في السابق تُعد أداةً أساسية لحل المشكلات الإنسانية المزمنة، بينما اليوم نجدها تتراجع أمام السيل المعرفي والإتصالي، وأمام سهولة الحصول على المعلومة التي كانت في السابق مُغَيَّبة لأسباب مختلفة.
لكننا ومع صحية تغيير المُسَلَّمات الفكرية التي لم تعد ملائمة، والركون إلى ما تخدم الإنسانية فعلاً؛ قد نقف أمام حقيقة نتمنى عدم فرض واقعها، وهي حقيقة انتقال التمسك الفكري المتطرف من الفكرة "سين" إلى الفكرة المضادة أو المعاكسة "صاد" فنعيش حالةً من التحول المشوش والمضطرب، وكل ما في الموضوع هو انتقال جينات التمسك المتطرف من اليمين إلى اليسار أو العكس.
تحول المثقف
ولنكن صريحين أكثر، طالما دخلنا في قضية التحولات الفكرية، فنقول أن النخب الثقافية هي أكثر الشرائح التي قد تسقط في فخ التحولات المتطرفة، مخالفةً بذلك النظرة السائدة من أن النخب الفكرية والثقافية تتبنى احترام الآراء المخالفة، وتناقشها بشكل علمي ومعرفي. لكن الواقع هو غير ذلك طبعاً، وبجهد رصدي بسيط للسجالات الفكرية خلال فترات متباينة، وأقربها فترات "الربيع العربي" نلحظ البون الشاسع بين الصورة المخيالية التأملية المأخوذة عن المثقف العربي، وبين الصورة الواقعية المتجسدة في سلوكه وآرائه التي يطلقها في المقالات التي ينشرها، أو الكتب التي يصدرها، بل أن كثيراً من الأسماء الفكرية نجدها تكتب وفق مزاج الجهة الناشرة في نكوص فكري لافت.
إن الوعي المضطرب والمرتبك هو الذي يقود مثقفاً ماركسياً على سبيل المثال وكان يعتبر المبادىء الماركسية والاشتراكية هي الوسيلة النهائية التي تصل به لغاية الإنسان؛ هو الذي قاده حين قرر التحول غير الواعي إلى الجهة المضادة والمعاكسة، لكنها في الحقيقة صديقة حميمة من ناحية التبني الانفعالي والتمسك المتطرف؛ لذلك نرى هذا الماركسي المتزمت ــ سابقاً ــ قد صار "إسلامياً" متزمتاً في الوقت الحالي، فالتطرف وعدم القبول بالآخر هو الخيط الرابط بين فكرتين متناقضتين تبناهما شخص واحد يعاني من اضطراب الوعي.
إنَّ أكثر الماركسيين الذين تحولوا بأفكارهم نحو الأفكار الدينية المتطرفة، هم في الحقيقة انطلقوا من خلفياتهم السابقة التي لم تنظر للدين نظرة واقعية، إنما كانت نظرة مؤدلجة غير قابلة للتغيير، أو البحث المنصف والمتجرد. وعندما حدث التحول الفكري عندهم؛ نجدهم اختاروا فكراً يشبه ماكانوا يتبنونه من إقصاء متطرف للآخر حتى وإن كان فكراً يعاكس ماركسيتهم السابقة بنسبة 100%.
لذلك لم يكن مستغرباً من بعض الماركسيين السابقين أنهم كتبوا ونشروا ممجدين بالتوجهات "الثورية" للجماعات الارهابية المتطرفة والمتقنعة بالدين، بل وتسللت لكتاباتهم بعض المصطلحات التي كانوا يرفضونها في أزمنة سابقة، ويسخرون منها مثل الجهاد والشهادة، فصار الارهابيون مجاهدين، ومن يموت منهم في عملية انتحارية فهو شهيد في أعلى الفراديس وفق المزاج الماركسي المتأسلم!!
وثمة تحول مقابل للمثقف "الديني" الذي يقرأ المفاهيم الدينية وتمثلاتها بسطحية، ثم نراه ينجرف مع أية موضة أو موجة مراهقة فكرية تعصف بذهنيته المرتبكة والمستعدة لقبول كل أنواع القشريات، بل وهيمنتها عليه لدرجة تحوله إلى ناطق رسمي باسم الحركات المناهضة للدين أو الخصوصيات المجتمعية المتعلقة بثقافات الشعوب وهويتها وإرثها الحضاري، وكأنه رائد من رواد الحداثة التنويرية المنطفئة أصلاً. والوعي لدى هذا "المثقف" أيضاً غير مكتمل الأدوات، فيأخذه ــ مثل زميله السابق ــ إلى الفكرة المضادة، فيتمسك بالضد الفكري الجديد، ويتطرف في تمسكه ونسفه للفكرة السابقة التي كان هو من أشد المدافعين عنها.
نصل من خلال هذين المثالين الواقعيين إلى أن الوعي غير المكتمل، والذي لا يجتهد صاحبه بتطويره أو تنميته؛ سيقود إلى أفكار متضاربة ومتعاكسة، وإلى ذهنيات مشوشة لا رابط يجمعها سوى نقطة متطرفة تؤلف بين الأضداد الفكرية بصداقة غير نافعة.
اضف تعليق