بين الاقتراب المحتشم من متطلبات العصر الحديث، وبين التمرد الفكري الانفعالي؛ غابت هوية الفكر الوسطي المعتدل الذي يصوغ مقارباته مستوعباً لأفكار الآخرين من دون اعتبارها الأنموذج التصحيحي الحقيقي. والوسطية هي الطريق السليم لتحقيق العلاقة الآمنة بين الذات والمحيط، وتكريس المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل...
مازال اللحاق بعوامل تقدم الغرب هاجساً يراود المشتغلين بحقول الفكر والفلسفة في عالمنا العربي والإسلامي، ومنذ القرن التاسع عشر حاول مفكرون نقديون تبريز فكر إسلامي معاصر يكون على مستوى التحديات، مستوعباً عوامل التقدم عند الحضارات الأخرى. لكن الآلية النقدية ظلت تدور في فلك المفاخرة بالتراث والتاريخ بنسق عاطفي متصاعد، من دون أن تلتفت لضرورة تقديم رؤية واضحة للواقع الاجتماعي والسياسي، بمعنى أنهم كانوا بعيدين عن المتطلبات المستحدثة التي تتجه نحو المقاربة الفكرية في المفاهيم المتعلقة بالحياة.
وحتى لو برز مفكر هنا أو هناك، واقترب من متطلبات الفكر الجديد؛ فإنه قد يصطدم بأطر التفكير الكلاسيكي السائد، وقد يواجه هجوماً؛ لذلك نجده يقرب المفاهيم على استحياء؛ ذلك لأن العقلية السائدة، بما فيها العقلية الفكرية المسؤولة عن انتاج المعرفة، وتصحيح المسارات، هي عقلية تنتمي لما يمكن أن نصطلح عليه بـ (النقد التجزيئي)، أي انه ينقد ما يتعارض مع متبنياته الفكرية التقليدية، أما غير ذلك فهو تجاوز مرفوض للخطوط الحمراء.
لم يكن هناك إطار منهجي ومعرفي يجتهد في تقديم مقاربات معقولة للفكر الإسلامي، ولعناوينه الرئيسة كالتوحيد وخلافة الإنسان، بما ينسجم وروح العصر الجديد القائمة على النقد والاقتراب من العلوم الإنسانية. ونتيجة لهذا التكاسل؛ ظهر نمط آخر من المفكرين، كان هاجسه التمرد المندفع فحاولوا تصدير فكر إسلامي من خلال الفلسفات الماركسية والوجودية البعيدة عن الملامح الأصلية لجوهر الفكر الإسلامي، فكانت هذه ردة فعل خلطت الأوراق، وأفرزت تشظياً فكرياً كبيراً لم يقدم الحلول الناجعة لمشاكل الأمة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وبين الاقتراب المحتشم من متطلبات العصر الحديث، وبين التمرد الفكري الانفعالي؛ غابت هوية الفكر الوسطي المعتدل الذي يصوغ مقارباته مستوعباً لأفكار الآخرين من دون اعتبارها الأنموذج التصحيحي الحقيقي. والوسطية هي الطريق السليم لتحقيق العلاقة الآمنة بين الذات والمحيط، وتكريس المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل وغيرها من مكونات الحياة الحضارية. ولإحداث التغيير القائم على مقاربة المفاهيم؛ يلزم الابتعاد عن تجزئة النقد بشرط أن لا يكون نقداً انفعالياً متمرداً، بل يجب أن يكون نقداً ينمي الوعي الذاتي (المفكر) والجمعي (المجتمع)، مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة التحولات التاريخية والاجتماعية التي تشهدها البيئة التي ينوي المفكر طرح مشروعه الإصلاحي والتغييري فيها.
أثناء ممارسة التغيير؛ لابد من تجديد لآليات التي نقدم بها المناهج في الفكر والثقافة والاقتصاد وعلم الاجتماع وغيرها من المعارف التي تعنى بالعلوم الإنسانية. وتجديد الآليات؛ يلزم أولاً مقدمات أساسية تهيّء لإحداث فعل التغيير، خصوصاً إذا اتصل بالتداعيات السياسية، وهذا يعني أن الوعي بالسياسة، وفهم خفاياها من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المتصدي للتغيير أو الممارس له.
وهكذا بالنسبة لبقية الميادين التي يراد إصلاحها أو تغييرها، فالأهم هو الوعي بالفكرة التي نريد تغييرها، ثم الانطلاق إلى فعل حقيقي يعزز الرغبة بالتغيير، وإدراك ضرورة التداخل الإيجابي بين الأفكار وعدم الفصل بينها ثم إذا حدث ما لا يحمد عقباه بدأنا بممارسة الندم وهدر الطاقات، فمعرفة المشكلة وفهمها يمثل نصف أو أكثر من نصف الطريق لحلها أو تغييرها، وقبل ذلك يلزم توفر القناعة النفسية بالتغيير والإيمان به، وإلا فإن التاريخ يحدثنا عبر حوادث كثيرة عن ثورات وسلوكيات كانت تريد التغيير، لكن الفشل وعدم الاستمرار كان النتيجة الحتمية لها؛ لعدم توفر القناعة التامة او الإيمان الحقيقي بالفعل التغييري وربما كان هاجس التغيير فيها لا يستند لمعرفة كافية، أو لأن ممارس الفعل إنما مارسه لطموحات شخصية لا علاقة لها بخدمة الناس.
وبطبيعة الحال؛ لا يمكن عزل الفكر عن أية مناسبة للحديث عن الإصلاح والتغيير؛ لأن أكثر التصدعات التي تواجهها البشرية، ماهي إلا نتاج صراع الأفكار فيما بينها، وكل فكرة تحاول إثبات تفوقها وفاعليتها على الفكرة المقابلة.
ولما كان صراع الأفكار محتدماً، فمن الطبيعي أن تكون النخب الفكرية هي المغذي الرئيس الذي من شأنه إدامة زخم الصراع الذي سيمتد إلى ما شاء الله من زمن. وقد تباين مستوى التأثير النخبوي على المجتمع بحسب الظروف المرحلية التي تفرض واقعها الذي ينعكس حتماً على المزاج الفكري العام، والذي قد يتعرض لهزات وانكسارات تحدث تشظياً وانقساماً في صفوف المفكرين، بحيث يعيشون في عزلة انهزامية تلقي بظلالها على الواقع المجتمعي وشرائحه الأخرى.
لكن الأهم من صراع الأفكار؛ هو الخروج بنتائج وخلاصات تحقق الهدف المنشود من الإصلاح والتغيير، أي أن تجديد الأفكار يجب أن يرتبط بالهدف الأسمى وإلا كان تجديداً جامداً لا نفع يرتجى منه.
اضف تعليق