الفضيلة، حقا، يمكن تعلمّها لأن الانظمة السياسية تأسست على اساس ان جميع المواطنين يمكن ان يحوزوا على الفضيلة. كذلك، وبنفس الطريقة، ترتكز العدالة الجنائية على فكرة ان الناس يمكن إصلاحهم- اي يتعلمون كيف يكونوا فضلاء. سقراط يحوّل موضوع النقاش للتركيز الدقيق على ماهية الفضيلة بالضبط...
الحوار الرئيسي يبدأ عندما يتوجه سقراط بالسؤال الى بروتوغوراس ليعرف ماذا يعلّم تلاميذه؟
بروتوغوراس يعلن انه يعلّم طلابه السياسة وكيفية ادارة الشؤون الشخصية. لكن سقراط يسأل حول ما اذا كان هذا حقا موضوع يمكن تعلّمه. يجيب بروتوغوراس بحديث مطول عن خلق العالم.
الفضيلة، حقا، يمكن تعلمّها لأن الانظمة السياسية تأسست على اساس ان جميع المواطنين يمكن ان يحوزوا على الفضيلة. كذلك، وبنفس الطريقة، ترتكز العدالة الجنائية على فكرة ان الناس يمكن إصلاحهم- اي يتعلمون كيف يكونوا فضلاء. سقراط يحوّل موضوع النقاش للتركيز الدقيق على ماهية الفضيلة بالضبط. هل هي شيء واحد ام عدة اشياء؟
لكن هذا الخط من الجدال لم يتقدم كثيرا قبل ان ينهار الحوار كليا. سقراط وبروتوغوراس يتجادلان حول اشياء فرعية مثل كم يجب ان يكون طول الاجابة على اسئلة كل منهما: سقراط يفضل اجوبة قصيرة واسئلة سريعة بينما بروتوغوراس يرغب بأجوبة مطولة. متحدثون آخرون يتدخلون في النقاش ويقنعون الاثنين للعودة الى موضوع النقاش الاصلي. بروتوغوراس يسأل سقراط اولا ثم يأتي الدور لاحقا الى سقراط.
ينتهز بروتوغوراس الفرصة للتحول في الموضوع الى قصيدة لسيمنديس. وحين اشار الى التناقض في القصيدة، راح يتحدى سقراط للاجابة. سقراط كان ذكيا في جداله، هو يفسر القصيدة كرد فعل لإدّعاء بيتاكوس، Pittacus، بانه من الصعب ان تكون خيّرا. حسب تفسير سقراط، ان القصيدة تزعم بانه من الصعب ان تكون خيّرا لكنه من المستحيل ان تكون خيّرا في كل الاوقات، لأن الناس مجبرون على السلوك السيء بفعل أقدار حتمية. سقراط عندئذ يذهب بتفصيل اكثر: الحظ السيء لا يعني الفقر او نقص الشيء، وانما هو الجهل. يرى سقراط ان الشر هو نقص المعرفة لأنه من المستحيل التصرف بشكل خاطئ مع وجود المعرفة بالخير.
يستمر سقراط في متابعة هذا الخط من التفكير ليسأل بروتوغوراس بعض الاسئلة. يرى سقراط ان الخير الوحيد هو المتعة، ارتكاب فعل الشر هو اختيار غير واعي للألم مقابل المتعة. ما نحتاج اليه هو طريقة يمكن بها ان نحدد بوضوح الشكل الاكثر متعة للفعل في اي موقف. كونه نال موافقة بروتوغوراس لهذا الموقف، يجادل سقراط حينئذ بان الجُبن هو الفشل في الخوف من الاشياء الصحيحة، والخوف من الاشياء التي يجب ان لا يُخشى منها. الشجاعة، هي لذلك، شكل من المعرفة. كان بروتوغوراس اقتنع سلفا ان الحكمة والاعتدال والعدالة والقداسة كلها تأتي تحت اسم واحد هو الفضيلة. سقراط اثبت ان الشجاعة مرادفة لهذه المسميات وان الفضيلة ذاتها هي فقط اسم آخر للمعرفة. اذا كانت الفضيلة معرفة، عندئذ يمكن تعلمّها. وهكذا، كل من بروتوغوراس وسقراط ينهيان النقاش بالضد من موقفهما في بداية الحوار، الحوار ينتهي بشكوى سقراط من ضياعه لأحد المواعيد.
السياق التاريخي
من بين حوارات افلاطون كان حوار بروتوغوراس الذي يبدو فيه شيء من الغرابة كونه وُجد قبل مولد افلاطون وفي فترة لايزال فيها سقراط شابا. سقراط حوكم واُعدم عام 399، افلاطون وُلد قبل ذلك بثلاثة عقود في عام 427. حوار بروتوغوراس وُجد قبل بداية الحرب بين اسبارطة واثينا حوالي عام 433. هذه الحرب كانت كارثية لأثينا. فبعد قتال مرير ومكلف اعترفت اثينا بهزيمتها امام خصمها اللدود سبارطة. في إعادة البناء السياسي اللاحق جرى استبدال نظام اثينا الديمقراطي بنظام اوليغارتي (نظام الثلاثين طاغية)، غير ان هذا النظام الجديد اطيح به فورا وتمت إعادة تأسيس النظام الديمقراطي.
في أعقاب هذا التغيير في الانظمة السياسية جرت محاكمة واتهام سقراط في عام 399. بالنسبة لقرّاء بروتوغاروس الاوائل وكما هم قرّاء اليوم، يُعتبر حوار بروتوغوراس عملا تاريخيا يصف احداثا وقعت في اثينا التي تغيرت دراماتيكيا في الاربعين او الخمسين سنة اللاحقة. في عام 433، كانت اثينا في اوج نفوذها السياسي، كونها قادت تحالفا من المدن اليونانية في هزيمتها للغزو الفارسي. نظامها السياسي كان الاكثر ديمقراطية من اي مجتمع (لو تجاهلنا استبعاده للمرأة واستعماله للعبيد). كل المواطنين الاحرار شاركوا في العملية السياسية الاثنية، القرارات تُتخذ جماعيا بدون ان يتوسطها نظام تمثيلي للحكومة. عندما كتب افلاطون الحوار كانت اثينا بعيدة عن هذه الذروة.
نقاش سقراط وبروتوغوراس للفضيلة السياسية يكتسب اهمية جديدة حالما يؤخذ هذا السياق التاريخي بالحساب. السؤال عن كيفية اكتساب الفضيلة كان بالتأكيد اكثر الحاحا لإفلاطون - الذي رأى استاذه يُحاكم ويُعدم- بدلا من ان يكون لأجل المشاهدين المتجمعين في مقر هيبوس للاستماع لسقراط وبروتوغوراس. كل من سقراط وبروتوغوراس، ومع كل الاختلافات بينهما، يعرضان رؤى متفائلة عن منافع التعليم في الانظمة السياسية والاجتماعية.
بالنسبة لبروتوغوراس، كل الناس لهم حقوق وواجبات متساوية في المشاركة بعملية صنع القرار. بالنسبة لسقراط، (في نهاية الحوار) السلوك الاخلاقي يمكن تعليمه. ايّ منهما لم يعرض رؤية تشاؤمية عن طموحات وامكانية التفكير الفلسفي في المجتمع. لكن، الحوار ذاته لا يلبي هذه الآمال المتفائلة. اذا كان سقراط نجح في اقناع بروتوغوراس بموقفه، فان بروتوغوراس وافق على ذلك فقط بتحفظ وبمزاج سيء. هو ربما محق في شكوكه، لأن العديد من حجج سقراط لاتبدو متماسكة. ونفس الشيء، سقراط ذاته يلخص الحوار بالقول ان جميع الحجج تحتاج لتبدأ مرة اخرى، اي انهما وصلا ليس الى النهاية وانما الى البداية. بعد حوالي مائة صفحة من الفلسفة الثقيلة، يعرض افلاطون فقط استنتاجات غير مؤكدة لدرجة ان القارئ يجب ان يكون غير واثق من قبوله لها بأي مقدار، هذه ليست نهاية متفائلة.
السياق الفلسفي
حوار بروتوغوراس، اُعتبر، كما ذكرنا اعلاه حوارا قديما. وكما في معظم الحوارات القديمة الاخرى، انه يبدأ بتعريف ماهية الفضيلة، لكنه يفشل في التوصل الى اي استنتاج منهجي وتعريفي. في الحقيقة، ان تقليد طريقة الفيلسوف اليوناني بروديكوس prodicus – الذي يحاول انتزاع تعريفات دقيقة للكلمات – يشير الى ان هذا المشروع التعريفي هو خاطئ من البداية. هل التوصل الى تعريف دقيق للفضيلة يساعد المرء في التصرف بفضيلة؟ ربما ليس كذلك، رغم اعتقاد سقراط بانه من المستحيل التصرف بسوء عند معرفة الخير.
في الحقيقة، ان إثارة اسئلة الفضيلة في هذا الشكل التعريفي يشير فقط الى مدى غرابة هذه التحقيقات الفلسفية، هذا يعني ان افلاطون ينوي عمل شيء ما آخر في هذه الحوارات الى جانب الوصول الى تعاريف دقيقة. جزئيا، هذه الحوارات يمكن اعتبارها كإزالة للافتراضات المسبقة الزائفة وتفكيك للآراء المطروحة، انها عملية تنظيف فكري تام مطلوب القيام به قبل البدء بالبناء العظيم للجمهورية. لكن قراءة هذه الحوارات القديمة كأداء لمثل هذه الوظيفة السلبية كليا ايضا تبدو عملية اختزالية.
بالتأكيد هناك تحطيم كبير للعقائد الزائفة في هذه الحوارات، بلاشك سقراط يستخدم قوة السؤال والاجابة بطريقة مؤثرة. غير ان هاتين العمليتين ليستا متشابهتين. اذا كان سقراط يستخدم طريقة الديالكتيك لمهاجمة حجج خصومه، فهو ايضا يستخدم هذه الطريقة لصياغة معتقداته الخاصة. المشارك له في الحوار ليس مجرد معارض قوي، وانما يمكن ان يكون مساعدا. في مكان ما من الحوار يقتبس سقراط قول هوميروس "عندما يفكر اثنان مجتمعان، فان احدهما يرى قبل الآخر"(348D).التفكير مجتمعا يمكن ان يسير أسرع بكثير من التفكير الاحادي.
هذه الطريقة ليست مفيدة فقط للتفكير السلبي – لتحديد ونقد ضعف الحجج- وانما يمكن ايضا ان تُستخدم للوصول الى اسئلة اكثر حدة تقود الى استنتاجات حاسمة. اذا كانت الحوارات القديمة لا توفر دائما استنتاجات، فانها تؤسس عملية ممتازة وفعالة يمكن بواسطتها الوصول الى الاستنتاجات. هذا بحد ذاته نوع من الاستنتاج. لذلك فان الأسئلة المثارة في بروتوغوراس (ما هي الفضيلة وكيف تُكتسب؟) هي اجوبة، رغم ان هذه الاجوبة لا تظهر بنفس الشكل كالأسئلة.
قراءة هذه الحوارات هي تعليم بطرق التفكير، وهذه الطرق من التفكير، كما يرى سقراط، ستقود للمعرفة الحقيقية. الاعتقاد المقتبس اعلاه (اننا لا نستطيع التصرف بسوء بوجود المعرفة) سوف لن يكون غريبا. لكي نصل للمعرفة المرادفة للفضيلة يجب علينا التفكير مجتمعين، نطرح اسئلة في كل خطوة على الطريق. الفكر الفلسفي يجب عندئذ ان يحتوي على هذين المظهرين، انه يجب ان يتضمن اصواتا تختبر وتستنطق بقوة اتجاه النقاش في جميع المسائل. هذه الاسئلة هي التي تقود الى استنتاجات. طريقة التعلّم بالحفظ والتذكر لا يمكنها تعليمنا كيفية اكتساب الفضيلة.
اضف تعليق