شهدت محافظات الوسط والجنوب تظاهرات يومية مستمرة منذ أكثر من شهرين للمطالبة بالخدمات العامة، ولاسيمَا المياه والكهرباء ومكافحة الفساد ومحاسبة المقصرين في دوائر الدولة؛ فيما رافقها صدامات مع الأجهزة الأمنية وحرق مقرات للأحزاب السياسية ومؤسسات حكومية في بعض المحافظات...
شهدت محافظات الوسط والجنوب تظاهرات يومية مستمرة منذ أكثر من شهرين للمطالبة بالخدمات العامة، ولاسيمَا المياه والكهرباء ومكافحة الفساد ومحاسبة المقصرين في دوائر الدولة؛ فيما رافقها صدامات مع الأجهزة الأمنية وحرق مقرات للأحزاب السياسية ومؤسسات حكومية في بعض المحافظات؛ إذ ان الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (38) يكفل للمواطن حق التظاهر والمطالبة بحقوقه وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولاً:- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً:- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً:- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي.
ومن ظاهر منطوق هذه المادة المثيرة للجدل يتضح أنها تحمل أوجه كثيرة بما يترك المجال واسعاً للتجاذبات السياسية والتخبطات القانونية والتفسيرات الخاطئة لماهية حرية التعبير من قبل الشارع العراقي الذي عاش عقود من الكبت لجميع الحريات ومنها حرية التعبير، مما جعل التظاهرات تمثل حقا كفله الدستور العراقي في ظل عدم وجود معارضة برلمانية تقوم عمل الحكومة لأن الجميع منضم إليها؛ وبالتالي يقع على عاتق الشعب تقويم عمل الحكومة والمطالبة بالحقوق.
ومن المؤكد أن الأزمة التي اندلعت شرارتها في البصرة قد سبقها حدثان لافتان أولهما بدء تركيا بملء بحيرة سد إليسو العملاق على نهر دجلة، مما إدى إلى قطع كامل مياه النهر عن العراق وبعد مساعي حكومية حثيثة أجلت تركيا قطع المياه لمدة محدودة، أما الحدث الثاني فهو وقف إيران تزويد العراق بألف ميغاوط من الكهرباء بسبب تخلف الحكومة العراقية عن دفع مستحقات الجانب الإيراني.
أسباب التظاهرات:
لقد شهد العراق منذ عام 2003 أزمات متتالية ليست فقط على الصعيد السياسي انما على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن التظاهرات التي عمت ارجاء المدن العراقية مؤخراً مختلفة كلياً عن التظاهرات التي سبقتها لأنها انطلقت من مناطق تعد معقل الأحزاب الشيعية وهي المتنفذة في حكم العراق منذ سقوط نظام حكم صدام حسين عام 2003، وذلك يرجع لعدة أسباب يلمسها المواطن العراقي وهي:
انقطاع التيار الكهربائي على اثر موجة الحر التي عصفت بالبلاد.
تنامي مشكلة الفساد المالي والإداري بسبب انعدام سلطة القانون وتدني مستوى الرقابة في المؤسسات الحكومية.
اختلال هيكل الاقتصاد العراقي الذي إدى الى تراجع النمو الاقتصادي وتعزيز مشكلة التضخم والبطالة وحجم المديونية الخارجية لصالح الدول الأجنبية والعربية بسبب تدني مستوى القطاع التعليمي والصحي والمالي، مما إدى إلى تزايد حالات الفقر وتفاوت بين دخول فئات المجتمع.
فشل المحاصصة السياسية التي إدت الى تعزيز الهوية الضيقة والانقسام والنزاع الداخلي والعنف المذهبي؛ وقد أظهرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في 12 آيار من العام الحالي كيف تصوت المذاهب الدينية ككتلة في النظام للوائح المرشحين الذين يدعمون القادة الدينيون، على الرغم من تراجع نسبة المشاركة إلى 44%، لتكون أعلى نسبة عزوف عن التصويت وشابتها اتهامات التزوير، مما إدى الى تعثر عملية المصالحة الوطنية وتأخير تشكيل الحكومة ودحول البلاد في فراغ مؤسساتي.
تكاليف الحرب على داعش التي وصلت إلى عدة مليارات من الدولارات، مما انعكس على تردي مستوى الخدمات العامة وهدم البنية الأساسية وزيادة الاعتمادات من الموازنة العامة للدولة للجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، فضلاً عن ذلك هناك أكثر من17% من الموازنة العامة تمنح إلى إقليم كردستان.
أنواع متعددة للتظاهرات:
تقسم التظاهرات في العراق إلى أربعة أنواع، ويعد النوعين الثالث والرابع هما الأخطر على العملية السياسية في العراق وهي كالأتي:-
الأول:- المواطن السلمي الذي يخرج للمطالبة بحقوقه التي كفلها له الدستور والقانون.
الثاني:- ضعاف النفوس الذين يستغلون التظاهرات لسرقة المحلات التجارية ودوائر الدولة.
الثالث:- الجهات التي عمدت إلى حرق مقرات الأحزاب السياسية في أطار معادلة سياسية لتصفية الحسابات وخلط الأوراق وضرب تلك الأحزاب فيما بينها.
الرابع: – اللاعب الخارجي الذي سعى من خلال إدواته لسرقة التظاهرات من إجل مصالح وصراعات بين عدة دول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والسعودية.
رد فعل الحكومة:
أكد رئيس الوزراء العراقي ان حكومته تقف مع مطالب المتظاهرين وقد شكلت خلية أزمة لتلبيتها ، فبعد لقائه مع العديد من شيوخ ووجهاء محافظة البصرة والناصرية اتخذت الحكومة العراقية العديد من القرارات العملية لتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات عبر مشاريع قصيرة المدى آنية لتحسين الكهرباء والماء والصحة والتعليم، فضلاً عن حزمة أصلاحات مالية تقدر (5) تريليونات دينار عراقي منها (3) تريليونات ونص التريليون تخصص للبصرة والأخرى المتبقية للمثنى وذي قار والنجف ، التي تعد عبارة عن إكمال مشاريع متوقفة منذ عام 2014 تتعلق بالماء والكهرباء ، فضلاً عن (800) مليار دينار لمصلحة مشروع أزمة السكن في البلاد التي ما زالت حبراً على ورق.
تداعيات الأزمة:
تتوقف تداعيات الأزمة العراقية على عدة أمور إستراتيجية مهمة وهي كالأتي:
أولاً:- الغاء الدستور العراقي الذي يتخلله الكثير من الثغرات والعمل على صياغة دستور جديد، وتقليص عدد أعضاء البرلمان ورواتبهم وامتيازاتهم.
ثانياً:- الغاء مجالس المحافظات التي لم تؤدي عملها، والعمل تنقية مؤسسات الدولة على أسس مهنية بعد الغاء الأحزاب السياسية وتقليص الهيئات الاقتصادية التابعة لهم.
وبناءَ على ذلك فإن هناك أكثر من مشهد محتمل لهذه الأزمة كما يأتي:
المشهد الأول:- وهو الأكثر تفاؤلاً، والأقرب إلى التحقق، ويتمثل في انحصار التظاهرات وعودة الهدوء إلى المحافظات العراقية، وهو ما يعني ضخ حزمة من الإصلاحات الخدمية بالأساس ، والتي لابد أن تنعكس بسرعة على حياة المواطن العراقي، وبالتالي يؤدي إلى تقوية الحكومة أمام الكتل السياسية.
المشهد الثاني:- ويعد السيناريو الوسط ويتمثل بأستمرار التظاهرات إلى فترة ليست بالقصيرة، مما يعني الضغط على الحكومة لحين اجبارها على الاستجابة لجميع مطالب المتظاهرين، وهو ما يستفيد منه تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية في العراق لفرض سيطرتها، كما ان إصلاحات الحكومة قد تستغرق فترة تزيد عن عام وهو ما يجعلها تفقد التأييد الشعبي في الشارع العراقي.
المشهد الثالث:- وهو الأكثر تشاؤماً، ويتمثل في فشل الحكومة في إجراءات الإصلاحات، وهذا يعني استمرار التظاهرات؛ بل ربما يزداد الوضع سوءاً لأنها سوف توفر بيئة مناسبة لعودة داعش وظاهرة التنظيمات الطائفية المسلحة ، ورفع شعارات ” التقسيم هو الحل” مرة أخرى بعدما تراجعت مثل هذه الشعارات في الفترة السابقة.
اضف تعليق