من يرى بالنموذج الغربي ما يمثله ويملأ الفراغ الشخصي والنفسي الذي ينخر ذاته، فما هؤلاء سوى القلة القليلة، أما الكثرة الكاثرة فتجدها في العقول التي وعت طبيعة هذا الصراع وفهمت بأنه ليس اقتصاديا أو ماديا بحتا، وإنما هو صراع فكري ثقافي، يجب أن تتم فيه مواجهة الغرب فكريا، حتى لا تنتهي البشرية إلى مالا يحمد عقباه....
ما من شك أن أوار الصراع بين معسكريّ الغرب والشرق بلغَ أشدُّهُ حاضرا، وإنْ كانت بداياته قديمة، ظهرت قبل ظهور وتداول مصطلحيّ الغرب والشرق في العلم السياسي، وكثيرا ما كان يأخذ هذا الصراع شكل التحديات الاقتصادية، بالأخص في الحقبة الاستعمارية سيئة الصيت التي لم تتوجّه سهام الغرب فيها للشرق فقط، ولم تستهدف الإسلام وحده، بل ذاقت أمم شتى مرارة هذه الحقبة (الغربية) وعذاباتها كما في عصر الرقيق وانتهاك أفريقيا الإنسان والثروات.
لكل حضارة عوامل ديمومة خاصة بها، تغذيها بالوقود المادي والفكري، وحضارة الغرب لا تشذّ عن هذه القاعدة، ولكن فكرها ومفكريها تمّ توظيفهم لانتهاك حقوق الأمم الأخرى، من خلال البحث عن وقود ديموتها في تلك الأمم المنتهَكة، فكانت الحروب الصليبية، والمعارك الكبرى التي خاضتها جحافل الغرب لإخضاع الأمم الأخرى بالأخص أمم وشعوب ودول الغرب بعد أفريقيا، الهدف دائما كان البحث عن وقود ديمومة هذه الحضارة التي قيل أنها نشأت ونهضت على هياكل وحقوق وخيرات أمم الشرق وشعوب أفريقيا.
صرّح مفكرون كثر أن محرك الماكنة العدوانية للغرب هو الاقتصاد، والبحث عن المواد الأولية واحتكار الأيدي العاملة الرخيصة كالعبيد، وخلق أسواق استهلاكية كبرى لصناعاتها الحديثة التي لا يمكن لها أن تستمر من دون أن تصرّف بضائعها في أسواق كبيرة حتى تستمر دائرة الأرباح بعد الإنتاج والتسويق، فمن جهة تستنفذ خيرات الأمم الأخرى وتأخذ موادها الصناعية بالقوة، ومن جهة أخرى تستولي على الأيدي العاملة الرخيصة أو (السخرة) بالقوة، ليس في مجال الصناعة وحدها، ففي القتال أيضا تم استخدام الأجانب في الحروب الغربية الاستعمارية مثال ذلك ملايين الهنود الذين تم تجنيدهم في الجيوش البريطانية إبان عصرها الإمبراطوري.
وعلى هذه الشاكلة تم النظر إلي محركات الحروب الاستعمارية، فكان الدافع اقتصاديا بالدرجة الأولى، لكن ما خفي كان أعظم كما يُقال، فظهرك الكثير من التلميحات والتصريحات في كتب وأطروحات وبحوث ودراسات أسباب أخرى للصراع الغربي الشرقي، فهناك من ينظر إلى هذا الصراع على أنه فكري قبل أن يكون اقتصاديا، بلى هو يتلفع بغطاء اقتصادي في الظاهر، فكل الحملات الاستعمارية التي شنها الغرب على الشرق والأمم الأخرى كان طابعها الخارجي المعلن أو الذي ترسمه الأحداث (اقتصادي)، ولكن هناك ما هو أعمق وأهم وهو ما يحدث في الخفاء تحت أغطية الحروب والاقتصاد، إنه الصراع الفكري بين الغرب والشرق.
المفكرون الغربيون أعلنوا في غير مرة أن صراع الغرب مع أنداده والحضارات المختلفة عنه إنما هو صراع فكري بالدرجة الأولى، أما الشكل الخارجي لجميع الحروب والحملات والصراعات التي خاضها الغرب تبدو كأنها تبحث عن المواد الأولية، لإشباع النهم الصناعي الذي انهمكت به الشركات والمصانع الغربية الجائعة دائما للمواد التي تقوم بتشغيلها لاستمرارية الإنتاج والأرباح، ولكن ما هذا الذي يُرى ويٌلمَس سوى الظاهر البائن، أما ما خفي من الصراع الغربي الشرقي فهو ما تفرزه الأفكار التي ينتجها الطرفان على شكل عقائد وقيم وعادات وعلوم وآداب.
لهذا السبب يرى المفكرون الغربيون بأن الخطر الأكبر الذي يتهدد كينونتهم الحضارية تتمثل بالإسلام كونه فكر أثبت أن له جاذبية عالمية، فعلى الرغم من جذره التاريخي الذي قارب الـ 1500 سنة، وامتداده وتشعبه في أراضٍ شاسعة من المعمورة حتى فاق تعداد المسلمين عالميا مليارا وربع المليار نسمة، لا يزال الفكر الإسلامي يتبرعم ويتجدد في مناطق عديدة من دول العالم، وأن القابلية الفكرية للإسلام هو ما يخيف الغرب، حضارة وفكرا ومفكرين، لذلك هم يرون في الاقتصاد أمرا سطحيا لا يعدو كونه سببا ظاهرا لا أكثر، أما الماكنة غير المرئية في إدامة هذا الصراع فهي فكرية خالصة.
كيف ينظر مفكرو الغرب إلى هذا الصراع، وكيف يتعاملون معه، وهل هو صراع فعلي أم أنه ينحو إلى المنافسة السلمية؟، ثم كيف ينظر علماء الشرق وليس المسلمين وحدهم، إلى الفكر الغربي وهل هناك صراع فعلي بينهما؟، بالطبع إذا كان بعض علماء الغرب يعلن صراحة عن طبيعة الصراع الفكري وأن الحضارة الغربية هي الغالبة وعلى أصحابها أن يتعاملوا بجدية مع تهديدات الفكر الشرقي والإسلامي لهم، فإن الطرف المقابل يقر هذا الصراع لذلك فإن الطرفين يتفقان على هذه النتيجة، لذلك اتخذت طبيعة الصراع منحى ثقافيا ودأب الغرب في محاولاته لفرض ثقافته على الثقافات الأخرى، وسلب خصوصياتها، وسعيه لمحو الهويات الأخرى، ونشر النموذج الغربي على أنه الأصح والأنسب للبشرية كلها.
ولا شك أن مثل هذه الإعلانات تشي بنوع من التبجح غير مبرر ولا مقبول، ولا يمكن أن ترتضيه أمة ما لنفسها، ولكن تمادى الغرب في حربه الفكرية الثقافية، وسعى للانتقال من التخفي للإعلان والوضوح والتصريح المباشر، بطرح النموذج الأمريكي الغربي وفرضه على العالم أجمع في حرب ثقافية متأججة، لا يمكن أن ترتضيها حتى الأمم الضعيفة في الشرق أو سواه، لذلك انتعشت ولا تزال تنتعش وتتطور مضادات كثيرة لمواجهة الثقافة الغربية، ولإفشال أهدافها ومساعيها في تذويب النموذج الأصيل بالنموذج الغربي.
وما الصحوة الفكرية وانتعاش القيم وسطوع الهوية والخصوصية، إلا نوعا من أنواع التصدي الفكري القيمي لثقافة الغرب، والمحاولات الشعواء التي يبذلها في هذا المضمار، فإذا كان هناك من يرى بالنموذج الغربي ما يمثله ويملأ الفراغ الشخصي والنفسي الذي ينخر ذاته، فما هؤلاء سوى القلة القليلة، أما الكثرة الكاثرة فتجدها في العقول التي وعت طبيعة هذا الصراع وفهمت بأنه ليس اقتصاديا أو ماديا بحتا، وإنما هو صراع فكري ثقافي، يجب أن تتم فيه مواجهة الغرب فكريا، حتى لا تنتهي البشرية إلى مالا يحمد عقباه.
اضف تعليق