كل محاولات إيجاد الحلول لمشكلة التفرقة العنصرية بين أبناء البشر؛ لن تجد ضوءاً في آخر النفق مالم تعالج الجذر الأصلي ممثلاً بوهم تفوق جنس بشري على نظيره، بحيث يتم تجزئة الجنس البشري إلى ما يشبه الطبقات التي تتباين من حيث الذكاء وسرعة البديهة وغيرها...
كل محاولات إيجاد الحلول لمشكلة التفرقة العنصرية بين أبناء البشر؛ لن تجد ضوءاً في آخر النفق مالم تعالج الجذر الأصلي ممثلاً بوهم تفوق جنس بشري على نظيره، بحيث يتم تجزئة الجنس البشري إلى ما يشبه الطبقات التي تتباين من حيث الذكاء وسرعة البديهة وغيرها.
ومع كل ماوصل إليه الزمن من تطورات؛ مازال العالم اليوم يعيش بعقلية تجزئة الجنس البشري، وخصوصاً التجزئة التي تتعلق بصراع ذوي البشرة البيضاء مع أصحاب البشرة السمراء أو السوداء، لدرجة قيام ألمانيا بإنشاء متحف خاص لأعضاء بشرية لألمان تم تحنيطها؛ وذلك لتأكيد أن العرق الألماني هو الأفضل وكل ما عداه هو متدني القيمة، وهذا المتحف معروف بـ (متحف العرق الآري الجرماني). مثل هذه السلوكيات تتطلب الشروع بنهضة فكرية تغير البنية المجتمعية السائدة، والقائمة على هذه التفرقة العنصرية، وترسيخ ذهنية تتلخص في أن الجنس البشري هو في الحقيقة جنس واحد لا علاقة له باللون أو بأي شيء آخر تعزف على أوتاره الأصابع العنصرية.
عنصرية التنافس الرياضي
كلنا سمع بالعبارة الشهيرة (روح رياضية) التي تقال كناية عن التسامح والقبول بالمختلف، أو للهدوء أثناء النقاش حول قضية أو فكرة خلافية؛ ذلك لأن الرياضة، والفعاليات الرياضية المختلفة تعد جسراً لتلاقي الثقافات المختلفة، خصوصاً المنافسات الرياضية الجماعية التي تستقطب جماهير مليونية تأتي لتشجيع الفرق التي تمثل بلدانها. ومن أبرز الفعاليات الرياضية الجماهيرية بطولة كأس العالم بلعبة كرة القدم وهي الرياضة الأشهر استقطاباً للجماهير على الإطلاق، والتي تعد مناسبة لتلاقي الشعوب والثقافات، وتتعدى ذلك إلى التعريف بتراث كل بلد من خلال الجماهير القادمة لتشجيع منتخباتها، حيث يكون هناك تنافس لعرض الأزياء أو تنوع الرقصات الفلكلورية وما إلى ذلك من المظاهر والطقوس التي تعد حضارية.
ولكن هل تخلصت هذه المظاهر من العنصرية؟
كل الشواهد تقول أن ظاهرة العنصرية حضرت في مناسبات كبيرة من هذه البطولة العالمية برغم الإجراءات الصارمة بحق من يقوم بها من المشجعين، وهو ما يؤكد أن الظاهرة متجذرة ويلزم معالجتها بطرق فكرية قبل اللجوء إلى الوسائل القانونية الرادعة.
وقد أعرب السويسري (غياني إنفانتينو) رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم أنه لن يستطيع أن يضمن حدوث السلوكيات العنصرية خلال المونديال الذي تستضيفه روسيا حالياً حتى مع وضع مراقبين مختصين لرصد هذه الظاهرة في الملاعب التي ستقام عليها المباريات.
وكان الاتحاد الدولي لكرة القدم غرم روسيا مستضيفة المونديال الحالي غرامة مالية وصلت إلى 25 ألف يورو؛ بسبب سلوكيات عنصرية قام بها الجمهور الروسي خلال مباراة ودية جمعت بين المنتخبين الروسي والفرنسي حيث هتف المشجعون الروس ورددوا هتافات عنصرية ضد لاعبي المنتخب الفرنسي من ذوي البشرة السمراء وهما (بول بوغبا) و (عثمان ديمبيلي)، حيث وصفتهم الجماهير الروسية بـ (القردة)!
ومثل هذه الحالات شوهدت كثيراً في مناسبات سابقة، ولعل الألمان لهم قصب السبق في هذه الظواهر لدرجة أنهم رددوا هتافات عنصرية ضد لاعب يلعب لمنتخبهم، وكل ذنبه أنه من أصول تركية، وما إن نزل (جوندجان) إلى أرض الملعب حتى ضجت الجماهير صخباً وغضباً اعتراضاً على نزوله مما جعل المدرب يطلب من الجماهير عدم ترديد الشعارات العنصرية فسكتوا. غير أن الضريبة دفعها المدرب بفقدانه سيارته الشخصية التي حطمها المشجعون الغاضبون منه لإشراكه اللاعب التركي الأصل!
ولم تقتصر العنصرية ضد هذا اللاعب ذي الأصول التركية، بل امتد الموضوع ليشمل الشركات التجارية والحملات الاعلانية، ولعل حادثة الحملة الاعلانية الخاصة بـ (شوكولا كيندر) هي الأبرز إذ استخدمت وجوه لاعبي ألمانيا السمر ووضعتها على أجسام أطفال، وهو ماأثار لغطاً كبيراً وردود فعل مستهجنة.
ومازال تحقيق الاتحاد الدولي قائماً حول ملابسات مباراة ألمانيا وغانا في بطولة كأس العالم الماضية حين قام المشجعون الألمان بارتداء رؤوس حمير، وصبغ وجوههم باللون الأسود كنوع من السخرية من لون بشرة لاعبي المنتخب الغاني، وليس ذلك فحسب بل قاموا بتقليد صوت القرود.
الغريب أن هذه السلوكيات العنصرية تصدر من مجتمعات ينبغي أنها واجتازت وسبقت المجتمعات المتأخرة عن ركب الحضارة والتمدن، ليعود الحديث مرة أخرى عن الانهيار القيمي للمجتمعات التي تعيش التناقضات المنهمرة عليها من غيمة العولمة، وتحسبها من مقدمات النمو والتطور. فها هي المسابقات الرياضية التي يجتمع فيها بنو البشر تؤكد هذا الانهيار القيمي، من مناسبة لأخرى. وقد نسأل لماذا لم يتم اعلان نتائج التحقيقات الخاصة بهذه الممارسات؟
أعتقد أن المسؤولين عن هذه التحقيقات يدركون جيداً أن اعلان النتائج يمثل إدانة واضحة صريحة لسلوكيات المجتمعات التي أطلق نيتشة عليها لقب (الوحش الأشقر) وهو ما يعني أن الأنسنة التي تنادي بها مجتمعات التمدن والحضارة في أوروبا ماهي إلا قناع تتقنع به مستغلة الظروف والأحداث التي تنتجها الحروب ومخلفات العنف والتطرف في الشرق من أجل استقدام البشر من الدرجة الثانية واستخدامهم في مشاريع تنمي وتطور ماينتمون له من فكر وإيديولوجيا، حتى وإن جاء التطور على حساب الإنسان وقيمته وكرامته.
اضف تعليق