q
ان عدم الثقة العميقة بين إيران ومحيطها الاقليمي، وتحديداً الخليجي، وبالرغم من أن السياسة هو طابع الخلاف الذي تخوضه ايران، لاسيما ما يتعلق بالملف النووي دولياً، والملف الأمني خليجياً، نجد أن الصبغة الطائفية تظهر بقوة لتصبغ هذا الخلاف وتحوله الى صراع دامٍ ورهيب بين سنّة في السعودية ولبنان والبحرين، وبين شيعة في ايران والعراق ولبنان.

من ليس الطبيعي اطلاقاً أن يكون للشيعة في الشرق الاوسط تأثير على قرارات الدول الكبرى في رسم المعالم السياسية والاقتصادية للمنطقة، وفي بقاء انظمة حكم او زوالها، ولا يمتلكون عناصر القوة في بلدانهم لفرض الواقع الذي يرونه صحيحاً بما يحقق مصالحهم ويحفظ حقوقهم.

وربما يخال الرائي لخارطة التجاذبات والصراعات في المنطقة، أن القوى الكبرى، وتحديداً اميركا وبريطانيا وروسيا، ترغب بالحوار والتفاهم مع جهة شيعية واحدة، وليس مع جهات شيعية متعددة في المنطقة لأسباب نأتي على ذكرها لاحقاً، بيد ان الحقائق على الارض تؤكد وجود عناصر قوة ذاتية تمكنها من الاستقلالية في القرار، ومن ثمّ الجلوس على طاولة الحوار مع الكبار في العالم للتباحث في ملفات الأمن والسياسة والاقتصاد وغيرها.

من المعروف أن الشيعة يتوزعون ضمن كيانات تتفاوت في الحجم والعمق والتأثير والقدرات، على بلدان عدّة في الشرق الاوسط، فثمة من يمتلكون المواصفات العالية مثل ايران، التي تحظى باستقرار سياسي، الى جانب قدراتها الاقتصادية والانسانية، والى جوارها؛ العراق، الذي نشأت فيه حديثاً دولة ديمقراطية على انقاض نظام ديكتاتوري، بيد أن حداثة النشوء والتجربة، والصراعات السياسية وتفشي الفساد جعل العراق يكون متأثراً اكثر مما يكون مؤثراً؛ اقليمياً ودولياً، بل وحتى داخلياً احياناً! وثمة وجودات شيعية اخرى لها مكانتها الخاصة بتأثير محدود كما هو الحال في لبنان والكويت و افغانستان، فيما تبقى وجودات أخرى تقضي السنين تلو السنين والعقود في معاناة مريرة بسبب الظلم والتعسف من أنظمة الحكم أو من جماعات طائفية، كما هو حال الشيعة في البحرين والسعودية وباكستان ومصر وغيرها.

وطيلة السنوات الماضية أدرك الرأي العالم العالمي أن للشيعة دور ايجابي وكبير في إحلال السلم والاستقرار والدعوة الى تحكيم قيم الحرية والعدالة والنظام الديمقراطي، بيد أن هذا الانطباع الايجابي تلطخ بالدماء والاشلاء بسبب صراعات، في كثير من الاحيان، لا دخل لهم بها، او انهم ليسوا طرفاً اساسياً فيه، مما افقدهم (الشيعة في الشرق الاوسط) فرص كثيرة للنمو الاقتصادي والتطور السياسي، بل وفي مجالات علمية وثقافية، وهذا بسبب التأثر بالنزاع العتيد بين ايران والغرب، الذي يعود بجذوره الى الايام الاولى لتأسيس الجمهورية الاسلامية على انقاض نظام الشاه، وايضاً بحالة عدم الثقة العميقة بين ايران ومحيطها الاقليمي، وتحديداً الخليجي، وبالرغم من أن السياسة هو طابع الخلاف الذي تخوضه ايران، لاسيما ما يتعلق بالملف النووي دولياً، والملف الأمني خليجياً، نجد أن الصبغة الطائفية تظهر بقوة لتصبغ هذا الخلاف وتحوله الى صراع دامٍ ورهيب بين سنّة في السعودية ولبنان والبحرين، وبين شيعة في ايران والعراق ولبنان.

ومن اجل رسم خارطة واضحة للصراع، ذهب البعض الى نظرية "الدولة المحورية" والراعية لـ "الحوض الشيعي والاطراف المشعّة والمؤثرة"، فيما يدعو آخرين الى تمكين شيعي حقيقي يجعل الوجودات الشيعية في سائر دول المنطقة ذات شأن على الخارطة السياسية، سواءً كانت تمسك بزمام الحكم، كما في العراق، او مشاركة في الحكم كما في لبنان و افغانستان، او ماتزال في طور النضوج والمخاض السياسي قبل المشاركة السياسية كما هو في البحرين والسعودية، بمعنى ان تكون في المحيط الاقليمي والدولي أسماك كبيرة قادرة على الدفاع عن نفسها، بل وفرض ارادتها على الآخرين، بدلاً من القبول بحجم الاسماك الصغيرة المحتاجة دائماً للشقيق الاكبر لحمايتها من الافتراس!

وفي كتاب صدر عام 2015 لمؤلفه؛ صادق جعفر، بعنوان "التمكين الشيعي، واستراتيجات تمكين الشيعة وتعزيز اوضاعهم في العالم" يقدم تبريرات للخيار الاول بأن الدولة المحورية تؤثر فيما حولها لما تمتلكه من امكانات لفعل ذلك، ويمكن ان نسميه بالتأثير المتعمّد، بينما الاطراف المشعّة فغالباً ما يكون تأثيرها عفوياً"، كما يتحدث عن التأثير الجغرافي الاوسع والاكثر شمولية، وايضاً امتلاك الدولة المحورية لـ "مضامين متنوعة في حقول عدة، سياسية وثقافية واقتصادية ودينية، بينما الاطراف المشعّة تكون ذو تنوع واحد"، في اشارة واضحة منه الى ايران.

بالمقابل يرد اصحاب الكيانات الشيعية بوجود مواصفات مشابهة لما لدى الدولة المحورية من عمق حضاري وثقافي وامكانات اقتصادية بحجم الكتلة السكانية الموجودة، وحتى الموقع الجغرافي، ولا يجهل المتابع بأن الشيعة بالاساس، يقطنون أحد أهم المواقع الجغرافية في الشرق الاوسط، بل العالم، فلا يوجد بلد فيه اقلية او اغلبية شيعية، إلا وهو يحظى بأهمية سياسية واقتصادية على الصعيد الاقليمي الدولي ايضاً.

ويعد المتابعين في هذه الدول اسباباً كثيرة للتمكين الشيعي الحقيقي، ليس فقط يعود بالنفع للوجودات الشيعية "المشعّة" وانما لإيران ايضاً، منها:

أولاً: توسع الجبهة الشيعية ضمن الجبهة الاسلامية الأوسع في مواجهة التحديات الماحقة، وعلى الاصعدة كافة، وهذا من شأنه تقليل الخسائر في الارواح والممتلكات والثروات، وعدم إعطاء فرصة للقوى الكبرى للاستفراد ببلد واحد، او إلحاق الضرر به بهدف التأثير على البلاد الاخرى ذات الوجود الشيعي.

ثانياً: إعطاء الفرصة لنضوج التجارب السياسية وحتى الثورية ايضاً للشيعة في أي بلد كان، بالاستفادة من التجارب الشيعية في نظام الحكم وبناء المؤسسات وغيرها، او تجارب عالمية اخرى بما يساعد على نجاح التجربة وتحقيق السلم الأهلي والاستقرار.

ثالثاً: إعطاء الفرصة لبزوغ المواهب والكفاءات والقدرات، في مجال العلم والفكر، بما يعزز الثقة بالنفس ويحفز الارادة ويشحذ العزيمة لمواجهة التحديات والبحث عن البدائل المفضلة للواقع الذي يعيشونه، كما حصل في تجربة الشيعة العراقيين مع الاجتياح الداعشي والتكفيري لحوالي ثلث الاراضي العراقية باتجاه العاصمة بغداد والمدن الشيعية في الوسط والجنوب، وكان ما كان من التصدّي الشجاع وتسطير الملاحم والبطولات بما أثار اعجاب العالم الذي يقف حتى الآن عاجزاً عن إلحاق هزيمة منكرة بهذا التنظيم كما تذوقه في العراق.

وعليه؛ عندما تفرض الحكومة العراقية بأغلبيتها الشيعية على السعودية شروطها لفتح صفحة جديدة في العلاقات، وبما يجيب بقوة وحزم على عملية جسّ النبض العراقي من قبل الحكومة السعودية على زيارة محتملة لولي العهد الامير محمد بن سلمان، يعد نقطة ايجابية كبيرة وهامة للغاية للعراقيين وللايرانيين على حدٍ سواء، بل ولعموم الشيعة في العالم، بأن الشيعة الذين سالت دمائهم وتقطعت اشلائهم، وهم بالآلاف طيلة السنوات الماضية بفعل الانتحاريين السعوديين، انما ذهبوا ضحية مطالبتهم بالعيش الكريم بعيداً عن التمييز والحرمان والديكتاتورية، فهل يعقل أن ملفاً داخلياً كهذا، يتولاه المسؤولون الايرانيون بدلاً من المسؤولين العراقيين؟!

وكما يقول البعض بأن ايران النووية مبعث للقوة والاعتزاز للشيعة وللمسلمين في العالم، فان العراق القوي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ايضاً ينعكس بالايجاب على الوضع الايراني بشكل عام، وهذا ينسحب على جميع الوجودات الشيعية في كل مكان، وحتى نغلق هذا الملف للأبد ونبعد انفسنا عن التشبّه بالأقليات الاثنية في العالم التي ذاقت الذل والمهانة لارتباط مصيرها بقوى كبرى راعية لها، او ما يسمى بـ" الدولة الأم" كما حصل للأرمن والمارونيين باعتمادهم على فرنسا، والكرد العراقيين واعتمادهم على ايران الشاه، ومسلمي كشمير واعتمادهم على باكستان وغيرها من تجارب التمكين الفاشلة.

اضف تعليق