الاستبداد الديني أي الاستبداد الذي تتم ممارسته باسم الدين، حيث تستند الممارسة الاستبدادية فيه إلى أصول وقواعد مرتبطة بالنص المقدس عبر ثنائية التداول بقوة دينية الدولة، فقد استغل الحكام وظيفتهم الدينية في إضفاء قداسة على دورهم كخلفاء وأنهم يحكمون باسم الله...
"لا شرعية لسلطة لا حدود لها".
مونتسكيو في كتابه " رسائل فارسية"
الرسائل الفارسية هي عمل أدبي لمونتسكيو، يتلو فيه تجارب نبيلين فارسيين، "اوزبك" و"ريكا"، اللذين يتجولان في أرجاء فرنسا.
والرسائل عبارة عن نقد للمجتمع الفرنسي في أخلاقه وسلوكه ونظامه السياسي والاقتصادي والتعليمي، صوبه مونتسكيو على لسان «أوزبك»، ذلك الفارسي العامل في بلاط الشاه عباس ومرافق له سماه «ريكا»، واللذان قاما بجولة في أرجاء أوروبا، وخاصة فرنسا، طلباً للمعرفة ولحياة هادئة بعيدة عن مؤامرات القصور.
وتتناول الرسائل تشريحاً مفصلاً لإشكالية الاستبداد حيث نجده يطرح شبكة من العلاقات المتداخلة، لكنها متقطعة لا يمكن الكشف عن تراتبيتها سوى من خلال إعادة النظر للرسائل بنظرة كلية وتجميع تلك الشبكة المتناثرة في وحدة تحليل متماسكة. كما تشير الى ذلك دينا حسن في بحثها (الأدب السياسي: تشريح مفهوم الاستبداد من واقع الرسائل الفارسية لمونتسكيو).
تدور هذه الرسائل بين إيران وفرنسا، إيران حيث مؤسسة الاستبداد قصر الأمير المستبد أوزبك بطل تلك الرسائل الفارسية الذي ترك مؤسسته التي تحوي المحكومين من أتباعه ونساءه أو كما يمكن أن نطلق عليها مؤسسة الحريم، التي تمثل وحدة مصغرة لمؤسسة الاستبداد إن أردنا هنا أن نتخذها كوحدة تحليل؛ حيث تكون الحريم كمؤسسة ممثلة لوحدة تحليل مصغرة للنظام الاستبدادي بكافة أنماط العلاقات بداخله ومستوياتها، وهي العلاقة بين الحريم وأوزبك، والحريم وأتباع أوزبك، والأتباع وأوزبك؛ حيث تبرز هنا بنية النظام الاستبدادي وطبيعة العلاقات السلطوية، كما تظهر كذلك التركيب النفسي للحاكم والمحكوم والقيم الحاكمة للنظام.
تؤسس الرسائل لأحد أبرز القيم الحاكمة والمؤسسة للنظام الاستبدادي ألا وهي ترسيخ الشعور بالعجز بداخل المحكومين أو اختصاراً التعجيز، يظهر مونتسكيو وبدقة بالغة محاولات النظم الاستبدادية في تشكيل ملامح عجز وقصور محكوميهم.
تجسد تلك الرسائل كذلك أحد أبرز القيم المحورية في النظم الاستبدادية ألا وهي الخوف؛ حيث يحتل الخوف المكانة الأولى وسط قيم المجتمع الاستبدادي ونظام حكمه، وقد أبرز مونتسكيو ذلك في تتبع العلاقات بين أطرافه فالجميع يخشى الجميع، النساء والأتباع يخشين أوزبك، والنساء يخشين الأتباع، وأوزبك يخشى كذلك منهم جميعاً، حيث يخشى خيانتهن كما يخشى الخروج عن سلطانه وفقدانه تأثيره.
تشير الرسائل هنا للخوف كأحد أسباب ونتائج الاستبداد على السواء حيث يدرك الجميع التهديد الدائم المحيط به وأنه لا فرار منه طالما بقي نظام الحكم، كما يدرك الجميع حتمية انهيار ذلك النظام الاستبدادي آجلاً أم عاجلاً ما يجعل الخوف حاضراً دائماً.
وفي تلك الرسائل يمكن تلمس الاليات التي يلجأ اليها الحكم المستبد، ومنها:
• سلطة النظر:
تُفند الرسائل بعض أهم آليات نظم الحكم الاستبدادية لبسط سيطرتها على محكوميها من بينها فرض الرقابة البصرية أو ما يعرف بسلطة النظر، حيث تلجأ السلطة الاستبدادية إلى فرض نمط بصري من الرقابة يشعر الجميع بأنه مراقب حتى وإن لم يكن هناك رقابة مباشرة؛ حيث يصبح الجميع مراقب من الجميع، بل أصبح الفرد يشعر دائماً بذلك الشعور من الرقابة الذي يجعله يسلك المسلك الذي ترغبه السلطة تلقائياً ويولد في ذاته شعوراً بالخوف الدائم من تلك الرقابة.
• السلطة واللذة:
يربط مونتسكيو سلطة النظر بآلية أخرى من آليات ممارسة السلطة الاستبدادية وهي اللذة، حيث ترتبط السلطة واللذة بعلاقة حلزونية متداخلة فتتعاظم السلطة بتعاظم اللذة والعكس صحيح.
يُفرد مونتسكيو أحد القضايا الحساسة في طبيعتها مع السياسة التي لا تنفك عنها في الحقيقة إلا أنه يتم تهميشها على اعتبارها أحد أركان الثالوث المحرم وهي ما تحويه ممارسة السلطة من لذة على كافة أطرافها في علاقتها مع السياسة.
تمكن مونتسكيو عبر صياغة تلك الرسائل ورسم شخوصها أن يمنحنا صورة كلية لما تكون عليه مؤسسة الاستبداد، كما تمكن مونتسكيو من إبراز أحد أهم العوامل الكاشفة عن جذور الاستبداد وطبيعة إحلاله وهو التركيب النفسي الذي خلق القابلية لدى الحاكم والمحكوم على السواء لفرض الاستبداد من جانب الحاكم والتهيؤ لقبوله من جانب المحكوم.
بعد قرنين من الزمان تقريبا استطاع الكواكبي في (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أن يقدم وصفا دقيقا لذهنية المستبد، وكيف ينظر إلى ذاته وإلى الآخرين، بل أفلح أن يسمعنا صوت أعماق المستبد، كما يطلعنا على أعماق أعوانه ورعيته، فيقدم لنا تحليلا نفسيا للمستبد وأعوانه ويرصد لنا إحساس المستبد لحظة جلوسه على العرش حين يضع التاج على رأسه، إذ ينتابه إحساس بتحولـه من إنسان إلى إله.
ويصور الكواكبي مدى قدرة المستبد على إهانة من يحكمهم، فهو لا يراعي كونهم شعبه أو حتى كونهم بشرا يجب احترامهم، فيرسم صورة تجسيدية لعلاقة هذا المستبد بهؤلاء الذين يحكمهم: "ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته".
في الرسائل الفارسية يؤسس مونتسكيو لمشروعية الثورة إن هتكت تلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيضيف مونتسكيو على لسان الفارسي الجائل في الديار الفرنسية أوزبك، قائلاً: «فإذا حاد الملك عن إسعاد رعاياه في حياتهم، ورغب في أن يرهقهم ويبيدهم، فإن معين الطاعة ينضب، فلا شيء يربطه بهم ولا شيء يربطهم به، ويعودون إلى حريتهم الطبيعية. ويعتمدون في ذلك على أن كل سلطة لا حد لها، ليست سلطة شرعية. ويقولون إننا لا يمكن أن نعطي غيرنا سلطة علينا أكبر من السلطة التي لنا على أنفسنا، ونحن لا نملك سلطة غير محدودة على أنفسنا، فنحن مثلاً لا نملك انتزاع أرواحنا: فليس إذن لأحد على وجه الأرض مثل هذه السلطة»!
من خلال ماكتبه مونتسكيو والكواكبي وما اضافه اخرون لاحقون في اثراء هذا الموضوع يمكن ان نحدد عددا من اشكال الاستبداد التي عاشتها البشرية ولا زالت تعيشها وتعاني منها في الكثير من بقاع العالم:
– الاستبداد السياسي: ومن بين صوره القفز إلى سدة الحكم قهرًا، وزوال سيادة القانون، العمل على منع المشاركة السياسية، ومركزة الحكم، والقضاء على ذوي الحيثية داخل الدولة، وسيطرة بطانة السوء، وتبني آليات الدولة البوليسية، وقمع حرية الرأي.
– الاستبداد الاقتصادي: ومن بين صوره الإسراف والبذخ، والإنفاق المبالغ فيه على المؤسسة العسكرية من أجل ضمان ولائها.
– الاستبداد القضائي: ومن بين أبرز أدواته: تعطيل العدالة، وحرص الحاكم على التقرب من العلماء والقضاة من أجل كسب ودهم وتأييدهم، مع المحاباة في تطبيق القانون أو إرهابهم ليعملوا على تعطيلها.
– الاستبداد الإداري: ومن بين مظاهره فساد الحكومة التنفيذية، والمحسوبية في التعيين في الوظائف العامة، وشخصنة السلطات، وعدم الترشيد في الإنفاق العام، ومركزية اتخاذ القرار.
أما الاستبداد الديني: أي الاستبداد الذي تتم ممارسته باسم الدين، حيث تستند الممارسة الاستبدادية فيه إلى أصول وقواعد مرتبطة بالنص المقدس عبر ثنائية التداول بقوة دينية الدولة، فقد استغل الحكام وظيفتهم الدينية في إضفاء قداسة على دورهم كخلفاء وأنهم يحكمون باسم الله.
اضف تعليق