q

الخفوت مفردة تشي بالضمور والتراجع، فإذا خفتَ الشيء ناله الانطفاء، وإن قلنا خفتت النار أي أنها زالتْ، وقلَّ أو انعدم تأثيرها، فماذا نعني بخفوت الليبرالية، وهل هذا الرأي جزافي لا ينطلق من شاشة الأحداث العالمية، أم ثمة أسانيد تثبت هذا الرأي وتؤكد وجوده بالفعل؟.

الفيلسوف جون لوك هو أول من طرح هذا المفهوم للتداول الفكري، وألصق به صفات من قبيل الحرية وعدم التمييز أو المساواة، هذان المبدءان ظهرا الى العلن مع ولادة الليبرالية في القرن السابع عشر، وقد انبهر الجمهور الغربي به، لاسيما أنه مطعَّم بنفحات الحرية ومؤازَر بركن المساواة الجاذب للسواد الأعظم من الأنام، فحتى أولئك الذين لا يعانون من انعدام المساواة ينبهرون بها، وكانوا يروْن فيها الفكر القادر على محو الفوارق بين السلطة والناس.

وقد وصف مفكرون مهتمون بالليبرالية ومنهم جون لوك على أنها (فلسفة سياسية أو رأي سائد تأسست على أفكار الحرية والمساواة. وتشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حين أن المبدأ الثاني وهو المساواة يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية، ويتبنى الليبراليون مجموعة واسعة من الآراء تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين). ونحن نتحدث عن الليبرالية أبان نشوئها وتطورها، أي قبل تسلل الانحطاط لها، وقبل أن يخفت بريقها كما هو الحال في العصر الراهن.

ولكي لا نجافي الحقائق، لابد أن نفرق بين الليبرالية الكلاسيكية خاصة في عصر نشوئها وولادتها الأولية، وليبرالية عصرنا، فقد برزت الليبرالية بحسب مؤسسها المذكور في أعلاه (كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي، ورفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك الوقت من امتياز وراثي، دين دولة، ملكية مطلقة والحق الإلهي للملوك).

وحينما نعرّج نحو عمق هذا المفهوم الفلسفي الفكري السياسي، فإننا سنلحظ قيما متفائلة استطاعت أن تستبدل القيم البالية وتطيح بأنظمة دكتاتورية وراثية من الصعب اقتلاعها من الجذور، لكن من تبنى المبادئ النقية لليبرالية قبل تشويهها، أفاد منها فائدة كبيرة، وكسب العقول المتطلعة الى عالم أرقى.

وقد تطورت الليبرالية بحسب مفكريها وفلاسفتها الأوائل (جون لوك، توماس هوبز، جان جاك روسو، كانت) عبر أربعة قرون ابتداءً من القرن السادس عشر حيث ظهرت نتيجة الحروب الدينية في أوربا لوقف تلك الصراعات باعتبار أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم وأن حرية الفرد هي الأصل، وقد اقترح الفلاسفة - المنوَّه عنهم في أعلاه- نظرية العقد الاجتماعي والتي تفترض أن هنالك عقداً بين الحاكم والمحكوم وأن رضا المحكوم هو مبرر سلطة الحاكم.

السؤال الصادم هو لماذا تراجع الفكر الليبرالي، وأية إجابات يمكنها شفاء الغليل؟.

إن من يسوح في تاريخ الليبرالية، سوف يجد فيها تضاريس وأسباب وعوامل مشجعة على نقل العالم الغربي، من الأنظمة الملكية الوراثية، الى أنظمة سياسية أكثر حداثة، وهذا بحد ذاته يعني قبولا لها في أوساط الجماهير، بالأخص أن فكرها الجديد حمل في طياته قدرة تقويض الأصنام التقليدية، وأشعل ذلك أوار الحماسة في نفوس الجمهور الأعمّ، فاندلعت ثورات أطاحت بالنظم القديمة، لتحل محلها نظم جديدة جعلت من الفكر الليبرالي سكة يتقدمون في ضوئها.

في عصرنا الحديث تسللت الى الليبرالية أفكار (غريبة) لا تتساوق مع طبيعة الخلق البشري، فلطّخت المساحات البيضاء في النفس البشرية، لتحيلها الى واقع يسخر من الإنسان، ويطيح بشأنه العالي كما يرد في أديان الكتب كالإسلام الذي يرى بأن البشر خُلِق في (أحسن تقويم)، ومثلما تطفئ الرمال ألسنة لهب النيران، أطفأت أفكار السخرية والتفسخ وهج الليبرالية القديم.

حتى في العالم الغربي الذي وُلدت فيه الفلسفة والفكر الليبرالي، يحدث الخفوت على نحو لا يقبل الريبة، فالخفوت الليبرالي لا يجري في تضاريس مناوئة له، ولا بين أوساط كارهة لهذا المفهوم الفكري الفلسفي، فبات من المفروغ به، أن الليبرالية سلّمت أسلحتها وأعلنت استسلامها في الجغرافيات المضادّة لها، وإن أُعلِن عكس هذا، فسوف يدخل في عداد الفكرة والأخيلة لا أكثر.

لماذا هذا الخفوت والاستسلام، السبب الأول أن الليبرالية (الجديدة)، باتت تسبح ضد التيار، تحت تبرير أجوف مفاده (حرية الإنسان، أو الحرية الفردية)، فهل يُسمح بتكسير أطر القيم الصالحة، لمجرد أن يكون (الإنسان حرا)، وأية حرية هذه التي تقود البشرية نحو المجهول؟، لم تعد هذه ليبرالية جون لو، ولا هوبز، ولا تنتمي لمعظم المؤسسين، وفي الوقت الذي يظن المشجعون لليبرالية بأنها تتطور وتتميز، فإنهم يدفعون بها الى الخفوت والانطفاء التام.

لم يكن جون لوك مشجعا على التفسخ، وليس هذا هدف الفلاسفة الذي أفنوا أعمارهم كي يصنعوا عالما مغايرا للسائد الفكري والسياسي والاجتماعي، وما أرادوه وقصدوه هو عالماً (حراً) حافظاً للقيم، وليس مهشماً لها، ولا مقوضا لأصولها، ولو قورن بين ليبرالية الأمس أبان الولادة، وذلك التغيير الضارب في الأعماق، وبين ليبرالية (الآن) الهشة، لاكتشف المشجعون خطأهم الإستراتيجي.

إنهم عجزوا عن التفريق بين الحرية الأصيلة للفرد، والقائمة على القيم الحافظة لمكانة الفرد الاعتبارية، وبين التحرر الخاوي القائم على مزاجية بائسة ناتجة عن السماح بحرية ضاربة (للقيم الصالحة)، وقد يكون هذا التصوّر مسمارا أخيرا في نعش الليبرالية المغلّفة بالانحلال والتفسخ، أية حرية فردية هذه التي تتنكر للمكانة المعنوية للمجتمع، ولماذا يتم إسناد الفرد وإهمال الجمع الذي يسعى لحماية ذاته الجمعية من التفسخ (والزواج المثلي)، واقتران رئيس برئيس ثان، أو وزير بوزير آخر؟؟.

هذا هو الوجه الليبرالي المعاصر، فأمر طبيعي جدا، أن يمضي هذا الفكر ناحية الخفوت، وليس بعيدا أن ينطفئ كليةً، فالسباحة ضد التيار ستأخذ السباح نحو الضمور والتراجع، وقد ظهرت علامات تلوح في الأفق، تعطي إثباتات قاطعة عن انحدار هذا الفكر غير المنضبط باتجاه النهاية.

اضف تعليق