هذه من بين المغالطات الصعبة التي تظهر إلى أي مدى أنّ الدّماغ يفكّر ضدّ نفسه حينما لا يعقل. ويصعب على الإنسان أن يدرك ما معنى أن يفكر الدماغ ضدّ نفسه حين لا يعقل، ذلك لأنّني أعتبر هذه المغالطة هي من أكثر المغالطات احتواء لصور المغالطات الأخرى والأخفى على الاكتشاف.
ولعلّ الكثير من المناطقة قد يلجؤون إلى استعمال مهاراتهم في التدليس باسم اليقظة المنطقية، فيستعملون المنطق ضدّ المنطق. وهذا المنحى سبق وسميته في مورد سابق بالنزعة المنطقانية، وعنيت بها أشكال من المغالطات التي تستند إلى التغليط نفسه. وهذا النوع من المغالطات يرتكز على جملة مغالطات، منها على سبيل المثال أيضا وليس الحصر: مغالطة الاحتكام إلى السلطة (Argument from authority)، وهو التلويح الذي يستعمل لإحباط حجّة الخصم استنادا إلى الاختصاص أو نذرة الممارسة المنطقية وما شابه. إنّني من خلال ذلك اهتديت إلى العقل الأداتي بتعبير هابرماس هو نحو من الانتظام المقولي أو الترابط المنطقي لخدمة مصلحة حجاجية ما. ومن هنا فهو ليس بالضرورة معصوما عن الخطأ بوصفه ليس العقل الرابط والموصل: رابط منطقي ووصل يؤمّن نحوا من العبور من الإبستيمولوجي إلى الأنطولوجي، باعتبار أنّ العقل هو هذا الكلّ الشامل وليس مجرد انتظام مقولي. وهكذا قلنا أن الدماغ حين يعقل يفعل نحو فعل معين وحين لا يعقل يفعل خلافه لنؤكّد أن الدماغ قد يعقل وقد لا يعقل، فلنبحث عن العقل في مسار العبر-مناهجية، أي تحرر الأنطولوجي من هيمنة الطريقة مع اعتبارها.
إنّ مغالطة المغالطة (The fallacy fallacy)، هي محاولة بناء مغالطة على مغالطة، أو التغليط الذي يستعمل في قيام مغالطة أخرى، وصورته في المثال التالي: "يقول خالد لصاحبه وهو يحاوره: فعلك هذا مناقض للمروءة حسب المعايير الأخلاقية للسلف الصالح.. "
- يجيبه صاحبه: أنت تحاكمني بناء على مغالطة الاحتكام إلى الموروث (Argument from antiquity)، إذن استنتاجك غير صحيح.
إنّ مغالطة المغالطة تتصيّد سوء تدبير المقدّمات وعدم القدرة على إدارة الحجاج بشكل يسمح بتقويض مغالطة الخصم واستبدالها بمغالطة أخرى حيث في الغالب يكون الذهول هو سيد الموقف بينما الخصم يكون أمام صدمة تقويض مغالطته. مثلا يقول زيد لعمرو: الطبيب يقول بأن استهلاك القهوة كثيرا مخلّ بالصحة، يجيبه عمرو: أنت هنا تستعمل مغالطة الاحتكام إلى السلطة، اذن استنتاجك خاطئ والقهوة مفيدة.
في الإعلام الذي يخوض ضروبا من الخطاب التواصلي والاحتجاجي مع الرأي العام فهو يستعمل مغالطة المغالطة، حيث يعمل على إحباط مغالطات الجمهور وزرع مغالطة بديلة لدحض استنتاجات الجمهور البديهية بناء على مغالطة الاحتكام إلى السلطة، فيكون الإعلام قادرا على انتقاء المخاطب المناسب في سياقات مناسبة.
سنجد أمثلة من الخطاب الإعلامي خلال السنوات الفارطة وكيف أنّ مغالطة المغالطة لعبت دورا خطيرا في كيّ الوعي لدى الجمهور لدحض كلّ تساؤلاته الطبيعية بناء على مغالطة الاحتكام إلى السلطة، الذي ينتهي بتعبئة اللغة الصناعية ضدّ الطبيعية. فحين كنّا نقول: إن ما يحصل هو ليس ثورة بالمعنى التّاريخي للعبارة، كان الجواب الفوري: أنت تستعمل مغالطة الموروث التّاريخي إذن استنتاجك خاطئ، وهذا الذي يحدث هو ثورة بالمعنى الصحيح، لأنّ الثورة اليوم اكتشفت نمطا جديدا، ثورات من دون زعيم أو قائد. ويمكن أن نعطي أمثلة أخرى نظير:
ـ هناك حسابات دولية وإقليمية تستغلّ الحراك لأغراض تخدم الإمبريالية والاحتلال
ـ هذا الذي تقوله يقوم على مغالطة نظرية المؤامرة، إذن كلامك باطل، فليس هناك أي حسابات جيوسياسية.
ومثال آخر:
ـ واضح من البداية أنّ هذه الثورات لن تصل إلى نتيجة لأنها منذ الوهلة الأولى راهنت على الدعم الأمريكي والتدخل الخارجي..
ـ أنت تستند إلى مغالطة العمالة، ونحن هنا نتحدث عن التقاء مصالح وليس رهانا، إذن كلامك باطل، لا توجد عمالة.
ومثال آخر:
ـ ها قد ظهرت صحّة موقفنا، لقد أنتج التعاون مع الإمبريالية والرجعية خرابا واليوم بتنا أمام انهيار كيانات..
ـ أنت تستند إلى مغالطة الفورية في تحقق نتائج الثورات، بينما الثورة الفرنسية لم تحقق أهدافها إلاّ بعد عشرات السنين، إذن استنتاجك باطل فلا يوجد خراب أو انهيار للكيانات.
وهكذا يمكن أن يصار إلى استعمال المغالطة انطلاقا من دحض مغالطة أخرى. واضح أنّه في المثال الأول يستند الخصم إلى فكرة غامضة، لأنّ الثورات لم تنجح بعد لتؤكّد على أنّ غياب القيادة التاريخية لم يعد ممكنا، كما في الثاني تكمن المغالطة البديلة في لعبة ألفاظ ومغالطة اختزال واقع جيوبوليتيكي ضخم بناء على مغالطة إلتماس المشاعر (Appeal to emotion)، باستعمال مفهوم الحرية ومواجهة الاستبداد وحقّ الشعوب في تقرير المصير. كما أننا في الثالث نرى اعتماد مغالطة التماثل بين حادثة وقعت في التاريخ وحادثة وقعت في الحاضر ولما تنتهي بعد. تكمن المغالطة هنا في كونها لا تكشف عن واقع وإنما شيء يعكس انتظارات ومغالطة الممكن. الاستنتاج أصبح مقدّمة في قياس مع الفارق. وستجد أنّ بؤس هذه المغالطة يتجلّى بوضوح لدى الخبير بأشكال وصور المغالطة في الإعلام في أنّ المغالطات نفسها التي يستند إليها المخاطب هنا تنقلب في مواقف أخرى مثيلة، أي أنّ مغالطة المغالطة تعمل من كل الجهات وفي كل الجهات في وسائل الإعلام المعنية بتزييف الحقيقة و"تسطيل" الرأي العام.
هنا قد تكون المعطيات صحيحة ولكن طريقة الإقناع يشوبها بعض الضعف أو غير مقنعة أو أنّ نقيضها يمتلك سحر الصورة وشيطان التقنية. هنا ندرك أنّ ليس كل حقيقة هي بالضرورة مقنعة كما أنه ليس بالضرورة كلّ باطل ليس مقنعا. فالمنطق وحده ليس عاصما أمام فعل ما أسميناه بالملاوغة.
في القادم: مغالطة رجل القشّ
* إدريس هاني -مفكر مغربي
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية
اضف تعليق