لا يمكننا قراءة الوضع اللبناني إلا ضمن الترتيبات طويلة الأمد للجغرافيا السياسية التي يجري رسم ملامحها اليوم لمنطقة الشرق الأوسط؛ والتي كانت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيران الأسبوع الماضي جزء منها؛ وذلك لما تمثله طهران من ثقل إقليمي في المنطقة؛ يمتد نفوذه من أسيا الوسطى وحتى شواطئ المتوسط مروراً بالضاحية الجنوبية حيث معقل حزب الله صاحب كلمة الفصل في كل لبنان والحاكم الفعلي لها؛ والذي هو جزء لا يتجزأ من المحور الشيعي المتحالف مع روسيا؛ والممتد من طهران إلى الضاحية مروراً ببغداد ودمشق.
ولم تكن استقالة سعد الحريري مفاجئة للمتابع للشأن اللبناني بقدر ما كانت قدرته على البقاء رئيس لحكومة لبنان منزوعة الصلاحيات كل تلك المدة؛ وفي هذه الظروف الاقليمية والذي كان مفاجئ للعديد من المراقبين للشأن اللبناني والاقليمي مع ازدياد حدة الصراع بين المحور الشيعي والسني إقليميا؛ والذي كان السيد سعد الحريري زعيماً لأحد تياراته السنية الوازنة في لبنان ضمن فسيفساء الخارطة الطائفية شديدة الحساسية فيه.
ولا شك أن خروج الحريري الإبن من الحكومة سيدخل لبنان في دوامة فراغ سياسي جديدة قد اعتادت لبنان عليه منذ سنوات، ولكن الجديد اليوم أن هذا الخروج لا يأتي كالمعتاد ضمن الصراع السياسي اللبناني بين تياري (8 و14 أذار)، ولكنه يأتي هذه المرة ضمن صراع إقليمي ذو أبعاد دولية بين محوريين إقليميين شيعي وسني؛ ودوليين بين روسيا والولايات المتحدة، وليس أدل على ذلك من إعلان الحريري الإبن استقالة حكومته من الرياض والتي تمثل اليوم عاصمة المحور السني المتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تشن إدارتها حملة دبلوماسية مدعومة بالتهديد على إيران قد وصلت ذروتها بخطاب الرئيس الأمريكي الأخير الذي رفض فيه علناً الاتفاق النووي وهدد بالانسحاب منه.
وهنا لا أحد بمقدوره إنكار الثقل الديمغرافي للوجود السني في لبنان؛ لكن في المقابل لا يوجد عاقل باستطاعته المراهنة على القيادة السنية بزعامة سعد الحريري؛ والذي اعتلى زعامة التيار كما يجري عادة في لبنان بالوراثة؛ فالرجل لا يملك أي كاريزما قيادية تؤهله لمواجهة التحديات السياسية اللبنانية ذات الأبعاد الاقليمية والدولية في لبنان، علاوة على وجود خصم سياسي قوي وذو نفوذ أمامه كحزب الله؛ إضافة إلى ان الحريري كان معظم الوقت خارج لبنان خوفاً على أمنه الشخصي؛ وتفاديا لمصير مشابها لمصيره والده الراحل رفيق الحريري؛ والذي كان اغتياله ضربة كبيرة للتيار السني في لبنان قد أدت الى إضعافه، لكن اعتلاء الحريري الابن لمقعد أبيه زاد من ضعف التيار وأفسح المجال واسعا لحزب الله للسيطرة الفعلية على تلابيب الدولة اللبنانية ضمن تحالفه الاستراتيجي مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
إن استقالة حكومة سعد الحريري هي بداية لما هو قادم على لبنان ضمن ترتيب الوضع اللبناني الفسيفسائي في الخارطة السياسية للإقليم والذي ستحدد معالمه التفاهمات الدولية الروسية الأمريكية بما يضمن مصالحهما ومصالح حلفاءهم من القوى الاقليمية الوازنة الثلاث إيران وإسرائيل وتركيا والتي لديها حق النقض؛ أما الدول العربية ومصالحها فتأتي في المرتبة الثالثة وهو ما يفتح الباب أمام كل الاحتمالات؛ ويجعل من كل الدول العربية مرشحة لتكون ساحة صراع لتلك الدول الاقليمية والدولية؛ وتبدو لبنان اليوم أكثر تلك الساحات ترشيحا نظراً لطبيعة البنية السياسية الهشة للدولة اللبنانية.
اضف تعليق