لنعد إلى كتاب "فخ العولمة"، ونقرأ بلغة الأرقام: "ليس هناك مكان آخر يبدو فيه التدهور بينا للعيان كما هو بين في الموطن الأصلي للرأسمالية المضادة: الولايات المتحدة الأمريكية. فالجريمة اتخذت هناك أبعادا، بحيث أصبحت وباءا واسع الانتشار.
ففي ولاية كاليفورنيا (التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية)؛ نلاحظ ما يلي:
أ- فاق الانفاق على السجون، المجموع الكلي لميزانية التعليم.
ب- وهناك 28 مليون مواطن أمريكي ـ أي ما يزيد على عشر السكان ـ قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفقه الدولة على الشرطة "(1).
ثم ان هونتنغتون يستند على مجرد نبوءة لهنري كيسنجر القائلة بأن القرن الواحد والعشرين سيشهد "على الأقل ست قوى عظمى هي الولايات المتحدة، أوربا، الصين، اليابان، روسيا ومن المحتمل أيضا الهند ؛ بالإضافة إلى عدد كثير من البلدان المتوسطة أو الصغيرة ".
والقوى الست المذكورة تنتمي ـ حسب كيسنجر ـ إلى " خمس حضارات متباينة ". كما سيجعل الموقع الاستراتيجي والنمو الديموغرافي وموارد النفط، من بعض الدول الاسلامية قوى مؤثرة.
من هذا كله يستخلص هونتنغتون أنه "في عالمنا الجديد، أصبحت السياسة المحلية إثنية، والسياسة العامة حضارية، لقد غدا الصراع بين القوى العظمى صداما بين الحضارات.
في هذا العالم الجديد لن تكون الصراعات الشاملة المهمة والخطيرة صراعات بين الطبقات الاجتماعية، بين الأغنياء والفقراء وبين مجموعات محددة وفق معايير اقتصادية، بل بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة. ستشتعل الحروب القبلية والصراعات الاثنية، داخل هذه الحضارات نفسها ").
هكذا يطرد الفكر الدرامي عند منظري السياسة الغربية المؤسسين لها؛ ليقولوا ان القرن الحالي سيكون قرن الحروب الحضارية وحرب تحقيق الهويات القرن بتلك الصورة الدرامية التي تذكرنا بحروب العصور الوسطى.
نعم سيشتعل القرن الحالي فقط لأن الغرب يمتلك زمام المبادرة، فهو عالم القطب الواحد، على مستوى الأحداث الدولية والسياسة العامة، وهذا عكس ما كان يؤكد عليه منظرو السياسة الغربية ونبوءات دهاقنتهم.. فمصائب العالم اليوم من قطبية الغرب وليس من بروز الحضارات.
وبهذا يكون من منتهى العته والغباء ان نعتقد ان التاريخ "يغضب" من الحضارات الأخرى وينتقم للغرب، إما بإدارة عجلته إلى الوراء (هونتنغتون) وإما بإعلان توقفه عن الحركة (فوكوياما)؟ !. لكن الواقع انه ليس عتها ولا غباءا انما هو المكر السيء (ولا يحيق المكر السيء الا باهله)، واقول مكر لان فيه قدرة على التنظير، خاصة عندما يخلق نوعا من التجاوب لدى الناس. والتجاوب عادة ما يأتي من الكتابة عن موضوعات مطلوبة لدى القارىء، أو تزحزح قناعاته إما بتهويل أو بتخويف أو بترغيب.. أو بما يجري هذا المجرى. وكتاب هونتنغتون أصاب في القارىء جانبا ما من الجوانب المذكورة، وضرب على وتر من الأوتار المثيرة للاحساس لدى الغربيين عموما.
انظر ماذا يقول مؤلفا كتاب "فخ العولمة" عن كتاب هونتنغتون؟ ما موقع "صدام الحضارات" من مظاهر العولمة الراهنة؟
خلص المؤلفان إلى التقويم التالي لكتاب هونتنغتون: "كان الأستاذ في جامعة هارفارد صموئيل ب. هونتنغتون قد نشر في عام 1993 في مجلة Foreign Affairs، وهي المجلة الأمريكية المرموقة في أوساط المثقفين والمهتمين بالسياسة الخارجية، بحثا نال شهرة واسعة يطرح في عنوانه السؤال عن "صراع الحضارات". وكانت نظريته القائلة بأن المستقبل لن يتحدد من خلال اختلاف النظم الاجتماعية ـ كما كان الحال إبان الحرب الباردة ـ بل سيتحدد من خلال ما يدور بين الحضارات من صراعات دينية وثقافية، قد نالت اهتماما واسعا في الدول الصناعية الغربية على وجه الخصوص. ولا ريب في أن هونتنغتون قد أيقظ في بحثه هذا الفزع القديم الذي كان يهيمن على أوربا، حينما اجتاحها قرنا بعد قرن، العرب والأتراك والروس").
اذن هو المكر فهذا الكتاب ادن "أيقظ الفزع القديم" لدى الناس، وهذا سبب شهرته! فهولا يحمل نظرية أصيلة عن الحضارات، ولا يقدم تصورا جذريا عن مسار التاريخ.
انه يدخل في ذلك النوع من الكتابة التي تستفز مشاعر الناس، وتؤلبهم على حقد الآخر، وتحرضهم على الحذر والالتئام والتكتل في الفئة والطائفة والجماعة وتحفزهم على التحضير للاقتتال مع الاخرين.
وهذه شيطانية لا مثيل لها تعمل على تفتيت الانسانية وتحضيرها للصراع، واول ما سيظهر منه تقطيع اوصال الدول.
ان الاتجاه الذي اتخذه الاقتصاد الغربي اليوم وصار على اساسه الالتئام والتكافل والتكتل، فيما يسمى الاتحاد الاوربي والحلف الاطلسي يخالف تنظيرات فوكوياما وهنتنغتون لان شعوب اوربا وامريكا من اعراق وسلالات وهويات مختلفة..
إن (الفزع) في نفس فوكوياما وهنتنغتون داخلي ـ إذن ـ وليس خارجيا، لأن الاحساس بالفزع لا يمكن أن يطفو على سطح الشعور إلا إذا كان هناك تهديدا فعليا لحياة الانسان. والتهديد لا يصبح مؤثرا إلا في حالة الاصطدام بالعوائق التي توضع أمام السير العادي لحركية المجتمع، أي عندما يتم المساس بما هو ضروري لكي يستمر كقوة اوربا في اتحادها.
فأين هو العدو المزعوم الذي يهدد الغرب؟
وعليه ان نتساءل اذن: من هو هذا العدو بالضبط: هل هو العربي أم المسلم أم الزنجي أم الأسيوي.. أم من؟ ام هل هو إنسان العالم الثالث الذي يبحث عن لقمة العيش ولا يجدها إلا بالكاد؟
وهل الحروب القادمة المزعومة يمكن أن تجري بين الضعفاء والأقوياء (اقتصاديا وعسكريا)؟
نقرأ في (فخ العولمة) الجواب التالي: (بما أن 95 بالمائة من الزيادة السكانية تتركز في أفقر مناطق المعمورة، لذا لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت ستندلع حروب أم لا، إنما صار يدور حول طبيعة هذه الحروب وحول من سيحارب من؟)
وسينقلب السحر على السحر ولكم الويل مما تصفون
اضف تعليق