التعصب ليس له وجهة واحدة أو صيغة متعينة وليس له مبرر حصري، فالتعصب قد يكون عنصري يستند الى اللون، وقد يكون قومي يستند الى العرق، وقد يكون طائفي يستند الى الدين، فاللون والعرق والطائفة هي مبررات الصراع في تاريخ الانسان، ولغة الحرب المستأنفة في تاريخ الشعوب.
ولا أقول تاريخ الدول لان محرك الدول في الصراع هو المصالح/الثروة والسلطة، لكنها تلجأ الى تبرير هذا الصراع أمام شعوبها بدواعي اللون والعرق والطائفة، وهكذا تذهب الشعوب ضحية إدعاءات دولها أو قادتها السياسيين، بل حتى الصراع الذي تخوضه الجماعات الداخلية يندرج ضمن هذا التقييم في طبيعة الصراعات، وتشتغل هذه المبررات هنا على مستوى قادة هذه الجماعات السياسية.
وتستند الصراعات التي تنشأ عن التعصب بكل ألوانه وأشكاله الى صناعة ثقافة وأيديولوجية الكراهية للآخر وضرورة ازاحته له بوصفه خطرا دائما وليس خطرا عابرا، ولغرض الخلاص من ديمومة الخطر فان تسويق النفي للآخر وتبريره في هذه الحالة يجد له آذانا صاغية في ثقافة الكراهية، ولم تخلو ثقافة الكراهية أو تتخلى عن مقولة الشعب المختار، وهي مقولة وان كانت توراتية المنابع والتاريخ الا انها تحولت الى معيار التماسك والايمان لدى كل الجماعات التي تتغذى في وجودها الاجتماعي والثقافي على مباديء التعصب، وتنمو في ظلال هذه المقولة ثقافة الكراهية، وهنا تأخذ مقولة الشعب المختار ونتاجها في التعصب منحى معرفي واجتماعي خطير، وبناء على النظرية النفسية الاجتماعية فان تفسير التعصب يكمن في العلاقة بين المعرفة والسلوك، وهكذا ينشأ التعصب في السلوك عن المنحى المعرفي الذي توفره مقولة الشعب المختار.
ان الابعاد السيكولوجية وعوامل التنشئة الاجتماعية تلعب دورا أساسيا في تفسير التعصب، فالسلوك بين الجماعات يعتمد التنظيمات المعرفية التي تكّون مواد ومعايير التنشئة الاجتماعية، وتتشكل من خلالها القيم النفسية في الدفع باتجاه سلوك متعين، والخاصية الذاتية التي تنشأ بفعل هذه القيم الخاصة تمارس ذاتية مفرطة أو غير سوية في تشكيل ثقافة الكراهية وسلوك التعصب.
وتستند تلك المواد المعرفية أو المعارف التي تؤسس للكراهية ثقافة وللتعصب سلوكا الى المنحى التاريخي في وراثة الموقف من الآخر الذي ينظر اليه على انه عدو تاريخي، وهي عبارة طالما رددها العدوانيون والمندفعون بقوة أيديولوجية في محاربة الآخر، وسمة تلك الايديولوجيا انها موروثة عير التاريخ الذي هو حدث لكنه يتحول الى تراث/ثقافة في حالة رسوخه وانبناء دلالات اجتماعية ونفسية على أساس منه، هكذا تحولت واقعة المسيح وصلبه كحدث تاريخي الى التراث المسيحي وغرست في الضمير المسيحي تعميم كراهية اليهود، رغم ان من قام بمحاولة صلب المسيح هم الفريسيون وليس الشعب اليهودي، وحين ألغي هذا التاريخ في أوربا الحديثة أزيحت دلالته في الذات المسيحية والاجتماعية الاوربية التي شكلها التراث المسيحي بانضمامه الى التراثين الاغريقي والروماني، لكن تنظيماته –أي التراث المسيحي- المعرفية الأخرى ظلت قائمة ولم يسع التاريخ الاوربي الحديث الى ازاحتها بكاملها، بل ظلت تنوء بها الذات الاوربية تجاه الآخر وهي ما أدت الى ظهور الأصولية المسيحية واليمينية الجديدة وفي ظلها تحركت العنصرية والنازية الجديدة، بل عادت كراهية اليهود الى الشعارات التي يرفعها اليمين الاميركي المتطرف، فضلا عن الكراهية المعلنة للمسلمين والمكسيكيين والمهاجرين، والغريب أن أميركا بدأت تستشعر الخطر حصرا مع إعلانات الكراهية لليهود فيها وهو ما أدى بالمسؤولين الأميركيين الى ادانة سياسة ترامب اليمينية.
ان فضاءات المعرفة أو تنظيماتها تصوغها وتؤطرها أو تنظمها أفكار وتصورات البشر المعاصرين أو الذين على حافة المعاصرة للحدث، وهي تنشأ بالمقارنة مع الآخر الذي هو على الطرف الآخر من الحدث أو النقيض الذي يريد توجيه الحدث لصالحه، من هنا يكون تنظيم المعرفة باتجاه الآخر يصب في صالح الافكار والتصورات التي تتشكل منها تلك الفضاءات، لكن غالبا ماتكون على حساب الآخر وتشويه التصورات المتعلقة به وبذلك تنمو توجهات التعصب نحو الآخر.
وبموازاة صعود الاصولية السلفية في عالمنا، شكل صعود الموجات اليمينية والعنصرية والاصولية المسيحية في الغرب وأمريكا تعبيرا خطيرا عن إحياء المعارف الاوربية القديمة لاسيما العنصرية منها، وهو ما يفسر احتجاجات وتظاهرات اليمين المتطرف في أمريكا ضد أعمال ازالة رموز العنصرية وتماثيل أبطال الجنوب الاميركي في نظر اليمينين الاميركيين.
ان الوقت الذي تحرك فيه المعتدلين الاميركيين والمنادين بالمساواة والغاء التمييز العنصري واحتجاجاتهم المناوئة لليمين الاميركي انما يكشف عن احساس خطير انتابهم بازاء تحركات العنصريين واليمينيين البيض والذي لم تكشفه وسائل الاعلام الاميركي الا اخيرا تحت ضغط التظاهرات المناوئة والمعادية بعضها لبعض، وقد أسهم صعود الرئيس ترامب الى البيت الابيض في الكشف عن حجم العنصرية الفاعل اجتماعيا في امريكا ومواقف اليمين الاميركي المتطرف، انها مواقف تستند الى المعرفة التي رسختها قيم الرأسمالية والتي أمّنت الاستغلال سلوكا مبررا، فأعقبه التمييز بين طبقات مستغِلة وطبقات مستغَلة، لكن التمييز ظل يبحث عن أو يؤسس مقوماته الثقافية في اللون والعرق والدين وتوكيد مقولة رسالة الرجل الابيض الذي يحق له الاستغلال باعتباره وشعبه مختارا من الله التي كان المستعمرون البيض الاوائل لأميركا يستمدون مشروعيتها أو تمثلها من الكتاب المقدس.
اضف تعليق