أحدث الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب اغسطس 1990 شرخاً كبيراً في بنية الفكر العربي ومنظومته المرتكزة على شعارات وحدة الدم واللغة والمصير، كانت هذه الحادثة صدمة كبيرة للذين لم يقرأوا بعمق وتفحص واقعهم العربي وضرورات مرحلته الزمانية والمكانية، ومنظومتهم الفكرية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأصوات المنادية بإعادة النظر بهذه المنظومة وقراءتها مجدداً من خلال العودة إلى نقطة البدء (الكلمة) حيث أن (الكلمة تساوي الفعل).
والكلمة هنا يقصد بها ــ بحسب الداعين لها ــ الكلمة الأدبية المدونة في المنجزات الأدبية على اختلاف أجناسها، حيث أن هذه المنجزات توجِد علاقة توافقية مع الفعل. والمراهنة على الكلمة تأتي في سياق المدلولات الطيبة والإيجابية التي ستتركها على المتلقي.
يقول ابراهيم سعفان: "إن الكلمة الطيبة في حاجة إلى حماية من سدنة الكلمة الخبيثة الهشة، المروجين للأفكار الفاسدة، المتحالفين مع المبشرين الهادفين إلى هدم إيمان الإنسان العربي وسلخه من تراثه ودينه ليكون لقمة سائغة لهم"1.
يعتقد ابراهيم سعفان هنا أن أصحاب الغزو الفكري الغربي والحداثي يدفعوننا باتجاه أن نخرب أبناءنا ومجتمعاتنا وقيمنا، داعياً إلى العودة للمنابع الفكرية المستمدة من التراث العربي والإسلامي، معتقداً أن هذه العودة هي التي ستحافظ على الهوية العربية والاسلامية. والتراث ــ بطبيعة الحال ــ مجموعة من المرويات التي تم تدوينها، إذن نعود إلى الكلمة.
ولكن، هل نجزم بأن كل ماموجود في هذا التراث هو كلام طيب ومتماهي مع قيم التعايش والتسامح والاعتدال، ونبذ مظاهر العنف والتطرف؟ هل نستطيع أن نعترف في حال فتشنا جيداً وتعمقنا في تراثنا، بأن الكلام الخبيث له مساحة في المدونات التي ضمته الصفحات الصفراء في المدونات الفقهية والتاريخية طيلة قرون؟
وإذا كانت هذه الدعوات والمبادرات المنادية بالحفاظ على الهوية، وإيجاد تواصل ثقافي ومعرفي بين البلدان العربية، وتوحيد الرؤى تجاه القضايا المصيرية والجوهرية.. قد انطلقت بسبب تداعيات احتلال الكويت في العقد الأخير من القرن العشرين الماضي، لماذا لم تظهر دعوات مشابهة ومن ذات الشخصيات والنخب الفكرية بعد التداعيات الخطيرة سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً لما يعرف بالربيع العربي على بلداننا العربية؟
لماذا لم نسمع صدى الكلمة الأدبية والطيبة التي يراهن عليها عرّابو التوجهات القومية وهم يشاهدون الطائرات العربية تقصف الأبرياء في اليمن وتهدم منازلهم، بينما تجتاح قوات برية من السعودية والخليج البحرين، وتقتل الناس في شرق السعودية؟
إن مشكلة الفكر العربي تكمن في البعد المذهبي الذي يحرك أنساقه المضمرة بصورة مكشوفة.
لو تأملنا في الخطاب الذي تبناه مفكرون عروبيون أثناء الحرب العراقية الإيرانية لوجدنا تلك الأزمة الفكرية المقنَّعة مذهبياً، حيث صار العراق حامياً للبوابة الشرقية للوطن العربي، ضد إيران بِبُعديها القومي (الفرس المجوس)، والمذهبي (الشيعة الرافضة)، لكن هذا الخطاب (الكلمة الطيبة) انكسر بفعل احتلال المحامي العربي لدولة عربية فكانت الصدمة.
القناع المذهبي يُسفر عن وجهه
غير أن ذات الخطاب المُقنّع عاد بقوة بعد إسقاط نظام صدام حسين في 2003، وصعود أحزاب المعارضة ــ أكثرها شيعية ــ للسلطة، لكن البعد المذهبي أسفر عن وجهه بصراحة هذه المرة وصار اللعب على المكشوف كما يُقال، إذ صار صدام وحزب البعث على الرغم من علمانيته رمزاً للتسنن (القومي) واشتغلت الماكينة الاعلامية بفعل اللوبيات العربية المتنفذة على هذه الثيمة التي أدت إلى سقوط مدن عراقية (سُنية) بيد تنظيمات إرهابية تنتسب بشكل واضح إلى الإسلام السلفي المتطرف معلنة نفسها المحامي عما أسمته بـ (مظلومية أهل السنة والجماعة) وساد خطاب (عودة الحقوق المغتصبة إلى أهلها) وهي جملة تستبطن عودة الحكم إلى وضعه الذي تعودت عليه البلدان العربية بأن يكون ذا لون مذهبي معين، فشاهدنا القصائد التي مجدت اللغة (الفتوحات) ووو بدأت تمجد الأعمال الوحشية لجماعات التطرف والعنف حتى تلاشت القومية في مذهبيتها.
وبعيداً عن العراق، امتدت المذهبية المتشددة لتشمل بلداناً أخرى، فبعد أن كانت الدعوات ترتفع بإعادة النظر بالمنظومة الفكرية وبشعارات العرب إثر غزو الكويت، صار الصمت هو الحل إزاء التوحش الطائفي الذي جعل طائرات اكثر بلدان الخليج تقصف اليمنيين، وجيوش خليجية تستبيح البحرين، والكلمة (الأدبية الطيبة) غائبة أو متوارية، وإن حضرت فإنها تحضر مُشجِّعة
لهذه الأفعال، وتسوقها على انها انتصار لقيم حقوق الإنسان، وذلك في برامج أدبية وفنية!!
اليوم، تأخذ الأزمة الفكرية بنسقها المذهبي بعداً جديداً يتمثل في المصالح والعلاقات والنفوذ، فالسعودية تدخل في مواجهة كادت أن تكون عسكرية مع قطر، وكلا البلدين من لون مذهبي واحد، وينطلقان من رؤية موحدة تجاه أه القضايا المتمثلة بحكم الشيعة في العراق وسوريا، غير أن النفوذ دق بين الدولتين (عطر منشم) فانقسم الخطاب العروبي إلى مؤيد لأطراف الخلاف ومعارض لها.
القومية قبل وبعد الربيع
ومن خلال الأزمة بين بلدان السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة، وقطر من جهة أخرى، خصوصاً بعد اتهام قطر بأنها دعمت ثورات (الربيع العربي)، صار لابد من البحث الجد في آليات التعاطي القومي مع مفاهيم الديموقراطية وحقوق الشعوب.
إن أحد أطراف الجهة التي تعارض قطر هي من نتاج هذا (الربيع)، وربما تدخل على الخط قضية صراع الرؤيتين القومية والإسلامية، وهو الذي أنتج تعالياً قومياً على التجربة الجديدة التي مثلت سقوط الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً طويلة، حتى وإن أفرزت تجربة إشكالية بصعود للإسلاميين في مصر وتونس قبل أن تتأزم الأوضاع وتشتعل، الأمر الذي أنعش صراع الرؤيتين السابقتين، وكشف بما لا يقبل الشك هشاشة الفكر عن الطرفين خصوصاً من جانب الشعوب التي ثارت على حكامها وهي على المستوى الفقهي تلتزم بقاعدة (عدم الخروج على الحاكم حتى مع تعين فسقه) بحسب بعض الآراء الفقهية لمذاهب معينة.
إن معضلتنا الفكرية الحقيقية تتمثل في عدم تكريسنا لثقافة الحرية، في ظل تغييب مقنّع مذهبياً وقومياً لثقافة المواطنة، مع انتعاش التعبير عن الهويات الفرعية الضيقة، وهذا ماكشفته تجربة مابعد الربيع، وتجلت بأكثر صورها وضوحاً في الأزمة الخليجية الأخيرة، حيث شاهدنا مفكرين خليجيين يرفضون الحديث عن أزمتهم المكشوفة من قبل مفكرين من المغرب العربي مثلاً بذريعة أننا أبناء الخليج ومشكلتنا نحن الأولى بالحديث عنها، والبحث عن حلول لها، وهنا شتغل نسق عنصري جديد مستنداً إلى المثل الشعبي : (بيتنا ونلعب بي شلها غرض بينا الناس)، وهو ما زاد من أزمة الفكر العربي عمقاً.
اضف تعليق