إنّ الاختراقات الخطيرة التي حققها التضليل الإعلامي في الفترة الأخيرة على الصعيد العالمي وبالأخص العربي منه، تجلّت بالظروف الأمنية والوضع السياسي الصعب الذي يداهم البلدان من اربع جهات، فمع وجود صراع المصالح الهائل على المستوى العالمي فإن بعض الأخلاقيات تغيب أحياناً عن ساحة الإعلام، فوجدت الوسائل الإعلامية فرصتها لبث الأخبار الزائفة وأحداث غير واقعية لأهدافها الخاصة كالإسقاط والترويج والشهرة.
ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفاعلية ونفوذ أكبر، ويأخذ حيزاً كبيراً في الساحة الإعلامية، لابد من اخفاء شواهد وجوده، واثباتاته العينية، أي ان التضليل يكون ناجحاً عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، وان ما يتم بثه هو صحيح ولا يشوبه اي شائبة، اي ان ما يتم نقله هو امور ومشاهد حقيقية، وليست من وحي الإفتراض، وبإختصار اكبر نستطيع ان نشبه الأمر بمن كذب كذبة وصدّقها!.
وعلى ذلك لا نستطيع تبرأة الجهات الحكومية من عملية التضليل بحياد المؤسسات الأخرى، لأن المؤسسات الإجتماعية بجانب التعليم والإعلام جميعها تصب في مصب المصلحة العامة، فالمؤسسات التي تتنكر بزي الخداع والتضليل تراها غارقة في معترك المصالح الإجتماعية من اجل نيل اهدافها المنشودة.
ومن العروف بأن الجهات الإعلامية تتفرع الى جهات حكومية واهلية، فالحكومية غالباً ما تتسم ببث الأخبار التي تهتم بالأمور التي تدور حول سياسة البلد، وتشكيل الحكومات والرياضة، وبرامج اخرى، ولا نستطيع ان نقول بانها حيادية فقط لكونها تنتمي الى جهة حكومية، فغالباً ما يتم التستر في بث بعض الأخبار والأحداث الواقعية، امّا الجهات الأهلية فخلقت لأغراض ورسائل معينة، منها ما تكون سامية، وأخرى عكس ذلك تماماً، تحاول ان توصلها الى المتلقي العام بأي طريقة، ويحدث ان تستخدم طرق غير شرعية بنقل الأخبار الزائفة للجمهور بهدف التشكيك في جهة معينة او التسقيط السياسي مثلا!.
ويمثل التضليل او التلاعب بالأحداث والمصادر بالنسبة للإعلام نوعاً من الإنحراف الذي يرفضة كل انسان، فتجد المتلقي الواعي حينها يبذل قصارى جهده للتخلص منه عن طريق عدم الإقرار به والإعتراف بمصداقية الموضوع، او متابعة الجهات المصدرة لهذه الاخبار او الوقائع الكاذبة، والإصرار على ايجاد الحقائق التي ضللها الباطل، فمثلاً الإنحياز وسط الأزمات الكبرى يكون عاملاً محفزاً في اندفاع بعض الجهات إلى استخدام الكذب والتضليل، والإستعانة بالخطاب الشعبوي، واستنفار عواطف الناس، واستغلال ضعف السبق الصفحي، لجذب العالم نحو الخيار السياسي الذي تتبناه الوسيلة الإعلامية او اصحاب النفوذ، التي تسعى خلف المصالح شخصية.
ومع التطور التكنولوجي الحاصل والدهشة التي رافقت التقدم التقني والعلمي، وزيادة عدد الفضائيات، وتوسعة شبكة الإنترنت يعتقد الكثير بأن اخفاء المعلومة في هذا العصر بات امراً صعباً جداً، وموضوع حجب المعلومات عن المتلقي بات امر شبه مستحيل، ولكن في المقابل لا نستطيع ان نغض البصر عن السرعة التي من الممكن ان تنتقل فيها المعلومة من شرق الكرة الأرضية الى غربها، ومن جنوبها الى شمالها، فلو تخيلنا بأن المعلومة التي انتقلت الى المتلقي كانت خاطئة، وقد اخذت حيزاً كبيراً في العالم!، يا ترى على من سيقع اللوم حينها؟!، على الجهات المنتجة للخبر، ام على الجهات التي كانت سبباً في ترويج وانتشار الخبر، والتي غالباً ما يكونون اناس عاديين وقعوا ضحية الوعي المعلب، وعدم التفكر في موضوعية الخبر ومصداقيته.
ولا يزال التضليل الإعلامي يستوطن الكثير من القضايا والأمور وبالأخص السياسية منها، وبالرغم من ان كل شيء بات مكشوفاً للعيان، الاّ ان المواطن يحتار في من يصدق، وبأي خبر يأخذ، فالحقيقة احياناً تضيع بين المتناقضات، وبما اننا نواكب عصر الصورة فغالباً ما نجد التضليل والتزييف الإعلامي يتربع على عرشه عن طريق صورة مفبركة كانت او حقيقية، فقد اصبح استخداماتها في الإعلام هي الوسيلة الأولى الخادعة لتشويه الحقائق، على الرغم من انها تعتبر جزء من الحقيقة ولكن غالباً ما يتم صياغتها بطريقة خاطئة، فالفبركة باتت امر سهل جداً في العصر الحالي، فبإستخدام ادوات وبرامج تقنية يمكن صناعة صورة لا تشبه الحدث والموقع الحقيقي، ومن الممكن نشرها في اي موقع من المواقع التواصل الإجتماعي، لنجدها بعد برهة من الزمن قد وصلت الى العالم اجمع، فتنقلها وسائل الإعلام دون التأكد من صحة الحدث، كما يمكن لوسائل الإعلام اخذ صورة تتعلق بحدث معين في بلد معين وتقديمها كشاهد لما يجري في بلد آخر وزمن آخر، وهذا ما نشاهده كثيراً في وضع الحروب، والأزمات، والمظاهرات، وهذا التضليل البصري يهدف غالبًا لكسب مشاعر الناس، والإٍستحواذ على عقول المتابعين، كما انه يحوي على كمية من الوحشية والعنف الذي يذهب بعقل المتابع وعواطفه لشدة قسوتها على النفس، والتأثير الكبير الذي يتركه على الأفكار والعقل، فالغرض الأساسي من هذا الفعل هو تشويه الحقائق المطروحة، وتزييف الواقع على حساب الجهات الخادعة التي تحاول زرع الفتنة والعنف في نفوس العالم.
فبعض وسائل الإعلام تستثمر هذه الصور لزراعة الكراهية والأحقاد، وإشعال الفتن في المجتمعات، وخصوصاً العربية منها، عبر تفسير الصورة ضمن صراع بين المكونات الإجتماعية والقبلية والمذاهب الدينية في المناطق والبلدان العربية، وهذا ما انتشر في الآونة الأخيرة تحت مسمى الطائفية، عندما زرعت الجهات الخبيثة، بذور الفتنة بين المذاهب والأديان وجعلت نيران الإختلاف تشتعل بين الناس.
ويعتبر التدقيق في أخبار ومصادر وسائل الإعلام التقليدية والمشهورة ضرورة لابد منها في مرحلة التشكيك، ولكن التدقيق في أخبار شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنتشر بلمح البصر بين الناس، هو أولى وأوجب، وبخاصة ان الكذب والتشويش فيها كثير. وأخطر ما يحصل هو استخدام أخبار وصور مفبركة، لتهييج الناس نحو اتجاهات سلبية، وإذا كان المرء لا يستطيع التدقيق في كل خبر، فعليه ان لا يصدّق أي خبرٍ يراه او يسمعه، كي لا يقع ضحية التضليل، ويُمَرِّرَه عبر أجهزته للآخرين، اذ انه بهذه الطريقة سيعتبر من المشاركين والمساهمين في انجاح عملية التضليل، وذلك عن طريق نشر وترويج الأكاذيب المطروحة.
فبهذه الحالة على المتلقي ان يتجاوز حدود الوعي المقيد او المعلب، ويكون في مستوى وعي وادراك ثقافي جيد يؤهله ان يفرق بين الرأي والخبر، فالشخص الإعلامي او اي انسان آخر، يستطيع ان يعبر عن رأيه من خلال النوافذ التي تتيح للإنسان التعبير عن رأيه في مواقع التواصل الإجتماعي، فليس كل ما تنشره الناس هي اخبار صادقة، حتى وان كانت مرفقة بصور او شهود عيان، لأن هنالك الكثير من المضللين المنتشرين على مواقع التواصل والشبكات بهدف تشويش الحقائق وتضليل الواقع الأمني والسياسي الذي نمر به في الوقت الحالي، فبهذه الحالة يستوجب على المتلقي ان يعرف، بأن الكلام المطروح على المواقع والشبكات، هي آراء شخصية تمثل اصحابها فقط، من الممكن ان تقبل الخطأ ولا تتفق مع الواقع الذي نعيشه، ومن غير الممكن ان تعبر عن حالة إعلامية صادقة موثوقة او حدث واقعي.
وعلى كل حال هذا العالم ليس عالماً مثالياً، ولا يعمه السلام والعدالة، كما انه لا يخلو من الكذب، والحقيقة لا تأخذ مجراها الصحيح دائماً، فمادام هنالك صدق، اذن هنالك كذب وتضليل ودجل، ونستطيع ان نقول بأن تضارب المصالح واختلافها وتضادها يجعل من التضليل الإعلامي سلاحاً فعالاً في الصراعات خصوصاً في ظل الظروف السياسية الصعبة، والتوتر الأمني الذي تعيشه البلدان العربية وخصوصاً العراق، فغالباً ما يتم ذلك عبر أسلوب القوة الناعمة، التي تؤثر ببطء وعلى المدى الطويل، وتترك آثاراً فكرية بالغة، دون أن يلاحظها الكثيرون، فإذا اتسعت دائرة التضليل على نطاق المجتمعات من الممكن ان تسبب مشاكل كبيرة، وحتى حروب وعداءات قومية ومذهبية، لن يزول تأثيرها على المدى الطويل. فالسلاح الأول لتصدي هجمات التضليل هو الوعي التام، والذكاء الخبري عند تلقي المعلومات والأخبار، إضافة الى الرقابة التي تفرضها الجهات المسؤولة قبل صدور الخبر، وفرض عقوبات وخيمة للجهات التي تصنع الخبر الكاذب وتشجع على ترويجه، وذلك لتجنب الوقوع في مصيدة التزييف والتضليل الإعلامي الذي يعتبر العامل الأول والفعال في نخر المجتمعات والرجوع بها الى الوراء.
اضف تعليق