قطبان متناقضان يقودان العالم ويؤثّران عليه بالفكر والفعل، القطب الأول دعاة الفكر التنويري الإنساني، على اختلاف مشاربهم، يدخل ضمن هذا القطب (الفلاسفة، المفكرون، رجال الدين، المثقفون، والمبدعون عامةً)، هذا الفريق الفكري، قد يشط عنه بعض ممن يُحسَب عليه، وهؤلاء هم حاملو العقول المتطرفة (الشاذة) ومنهم شذّاذ الآفاق، أولئك الذي يسعون الى تسميم الفكر البشري بنظريات مريضة مكللة بالكراهية والأحقاد.
القطب الثاني المناقض لدعاة الفكر التنويري، هو القطب الرسمي في عالم اليوم، ويدخل في إطاره جميع الحكومات والسلطات التنفيذية في دول العالم، وهؤلاء يمكن تسميتهم بطلّاب (السلطة)، وفي الأغلب الأعم تكون جل مآربهم محصورة في الوصول الى العرش أو دفة الحكم، بغض النظر عم مشروعية هذا الوصول بطريقة الانتخاب والتداول السلمي أو بطريقة الاستحواذ على السلطة بالقوة، بالطبع يُستثنى من هؤلاء حكومات أثبتت النتائج أنها قدمت لشعوبها خدمات جليلة ما يجعلها ليست في حالة تناقض مع الفكر التنويري.
لماذا يحصل التناقض بين هذين القطبين اللّذين يتجسد فيهما صراع (الفكر والسلطة)، لابد أن تقف وراء هذا الصراع مسببات، يختصر المحللون معظم الأسباب التي تحرك هذا الصراع، في تخوّف أرباب السلطة ورعاتها من سلطة الفكر الهائلة، وتأثير القاطع على مآربهم وفوائدهم، لذلك نلحظ ما يُشبه المقت الرسمي الدائم للمفكر ورجل الدين الداعية والمثقف الأصيل، فهؤلاء يشكلون حجر عثرة في طريق المسؤولين الرسمين كي يمنعوهم من الاستئثار بالسلطة، ومص دماء الشعوب علنا وخفية.
هنا يصطف الرسميون في العالم وفق وشائج سرية وأحيانا معلنة، كي يؤلفوا توليفة سلطوية عالمية، تتعامل مع بعضها لدرء خطر الفكر التنويري عليها، يجمع بينها هدف محاربة الأحرار من ذوي الفلسفة البناءة والتوجّهات العادلة، ذلك أن المولعين بالسلطة لا يؤمنون بالفكر المعتدل ولا الثقافة الوسطية التي تحترم الرأي الآخر ولا تسعى لتقويضه، هنا يحدث التصادم بين القطبين، ما يدفع بهما الى إشهار أسلحتهما بوجه الطرف الآخر.
ما هو سلاح رعاة الفكر التنويري، إن هؤلاء القوم لا يؤمنون بالتطرف، ولا يتخذون من الكراهية سبيلا نحو أهدافهم، إنهم في الحقيقة يعتمدون بصورة كلّية على تأثير الكلمات في العقل المستقبِل، وهكذا فإن الفكر المعتدل المُصاغ بكلمات واضحة المعنى، هو السلاح الأمضى لحاملي الفكر التنويري الوسطي، فما هو سلاح القطب الآخر ونقصد بهم الرسميون من مريدي السلطة وما تدرّه عليهم من مكتنَزات المال والذهب والقوة والسلطان، إن سلاح هؤلاء باختصار شديد هو إثارة الكراهية في العالم أجمع، وهذا ما يحصل حاليا للأسف الشديد.
الى أين يمضي الرسميون بعالم اليوم؟، أول الذين يتم توجيه هذا التساؤل لهم، حكومات الدول الكبرى، فثمة تساؤلات كبيرة وخطيرة يتم توجيهها لهم، ألا ترون العالم وهو يحترق، لماذا يتم تمزيق الشعوب والأمم والدول (لاسيما المتأخرة منها)، بسلاح الكراهية وتأجيج الفتن، وإنهاض الضغائن من سباتها، وتحريك المتناقضات بين مكوناتها، حتى يقتتل الكل مع الكل، ولكي تصفو الأجواء للحكومات ومن يتبع لها من دوائر (مخابرات واستخبارات وعصابات ومافيات)، والأسانيد كثيرة عن ذلك!.
لقد بات مكشوفا للمتابع، من هو القطب الذي يدفع بالعالم باتجاه الحرائق والصراعات، قد تكون هناك بعض الحكومات تنأى بنفسها عن الدخول في هذه اللعبة القذرة، لعبة تحطيم الأمم والشعوب وتمزيق الدول بالكراهية، ولكن بات مكشوفا أيضا من هم الرسميون الذي يدفعون عالمنا هذا باتجاه التدمير الشامل، قد يقول قائل إن كل شيء في هذا الإطار يتم بإتقان، وكل شيء محسوب ومبرمج مقدّما، بيد أن التفاصيل الجانبية تتضاعف، وتشكل خطرا متزايدا قد يذهب بعالمنا هذا الى حافة الدمار.
فالرسميون ممن يقودون دولا كبرى وأخرى قوية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، يركزون فكرهم ونظرهم وتفكيرهم على ما يمكن أن يجنوه من نشر الكراهية بين الشعوب، بينها وبين بعضها، أو بين مكونات الشعب الواحد، فمن ينشغل بالكراهية يكون من الصعب عليه التنبّه لمن يسرقه أو يطمع به أو يسعى لسرقة ثرواته، تماما مثل حالة (الاصطياد بالماء العكر)، فكلما يكون الماء (مخبوطا) قلت الرؤية فيه أو انعدمت، لهذا لا يسمح الرسميون بالصفاء والوضوح مطلقا.
أجواء الصفاء تصنعها الوسطية، ودحر الكراهية داخل مكونات الشعوب، وفيما بين بعضها البعض أيضا، حالة الاعتدال إذا سادت لن تكون هناك ضغائن ولا أحقاد، سوف تصفو الأجواء الإنسانية بين الجميع، لكن في أوضاع وأجواء صافية نقية مثل هذه، سيغدو من المستحيل على الرسميين الكبار ومن يعاونهم أن يسرقوا أو يتنمّروا على غيرهم من الأمم والشعوب.
وهكذا يحرص هؤلاء ونعني بهم قطب السلطة وأربابها، ما بوسعهم الى عدم السماح للفكر بقيادة العالم نحو الوسطية وإطفاء مواقد وبؤر الكراهية، لأن هذا يعني ببساطة، نهاية امتيازاتهم وموت سلطاتهم وضمور كنوزهم واحتراق خزائنهم، وتنبّه شعوب العالم الى الأساليب والوسائل التي تضمن لهم حياة أكثر حرية وكرامة، من خلال اعتماد مبادئ الحوار الحضاري البناء، على المستويين الداخلي والخارجي، أي بين الشعب الواحد وما يضم من مكونات مختلفة، أو بين الشعوب مع بعضها حتى لو كانت هنالك خلافات فكرية أو سياسية او عرقية فيما بينها.
فالحوار البناء، والاعتدال، والوسطية، وإطفاء نار الكراهية وهي في مهدها، سبل لا مناص منها لتخليص العالم من المآل المرتقب، وهو للأسف مآل يمكن اختصاره بكلمة واحدة، إنه (الدمار القادم) الذي لا يبقي ولا يذر، حتى هؤلاء اللاعبون الكبار بالنار، لا يمكن أن يفلتوا من عصف الدمار الهائل، الأمر الذي ينبغي أن يوجب عليهم قراءة النتائج المرتقبة بعقل واعٍ سليم، لا تدمروا العالم بالكراهية، ليس أمامكم سوى الوسطية والاعتدال.
اضف تعليق