يقول الله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(1)
((ان شهر محرم الحرام من أفضل الفرص، كشهر رمضان الكريم، لكي نعيد التفكير فيما بنينا عليه حياتنا، وفي بنيان شخصيتنا ولكي نعيد بناء شخصيتنا من جديد، وعلى كل واحد منا ان يفكر في سره: من انا وكيف أنا؟ وهل أنا سائر على الطريق الصحيح في تعاملي مع الآخرين، في الأسرة او المجتمع، ام لا؟ وما هو ناتج ذلك كله؟))2
الإضاءة الأولى: معادلة (البناء والباني والمبني) في الإصلاح
من الأمور الوجدانية المعروفة، أن عملية (البناء)، المستبطنة لوجود (باني)، هي العلة الفاعلية لوجود (المبني) الذي يمثل نتيجة عملية البناء، ومن المعلوم أن لكل بناء أساسا يرتكز عليه البناء(3)، ولا يعطي البناء نتائجه وثماره المقصودة إلا بوجود أساسه. ومن ثم كان الأساس البنائي، وفق المنظور القرآني، ذا اتجاهين رئيسين متباينين:
الاتجاه الأول: الأساس على تقوى من الله.
الاتجاه الثاني: الأساس على شفا جرف هار. وهذه استعارة تخييلية للباطل السريع الزوال. وهو ما يقابل الأساس الذي يكون على تقوى من الله.
وفي الاستعمال القرآني للمعنى الحقيقي في لاتجاه الأول بما تمثله (التقوى) من أساس متين وركن ركين، في مقابل استعمال الاستعارة التخييلية (شفا جرف هار) للأمور الباطلة التفاتة بلاغية رائعة(4)
وكل بناء لم يكن على تقوى من الله، لا بد وأن يكون على شفا جرف هار، بمقتضى المقابلة في الآية الكريمة الدالة على الانحصار في القسمين. وذلك لأن المسيرة الإنسانية نحو خلافة الله تعالى في الأرض، لا بد أن تتجه دائما نحو الصعود، فأي توقف عن الصعود والارتقاء في سلم الكمال، لا بد أن يكون مصداقا للنزول ثم الانهيار، ولا توجد حالة وسطى بين الأمرين.
وفي الخبر الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة(5)
وإذ مثلنا بـ (الإصلاح) على البناء المؤسس على تقوى من الله، فليكن تمثيلنا للأساس نفسه الذي هو التقوى، بـ (الصلاح). ويصح – على هذا – أن نقول: إن (الصلاح أساس الإصلاح)، كما صح لنا أن نقول: إن التقوى أساس البنيان الإنساني في جانب الخير، استنادا إلى منطوق الآية في مستهل البحث. وفي آيات الكتاب العزيز التي تأتي في مطاوي البحث ما يساعد على تصحيح هذه المعادلة. كما سيتضح هذا عما قليل.
وبناء على تفسير الصلاح بالتقوى، يكون المراد بالصلاح تطهير النفس وتهذيبها بالمحافظة على الفرائض وترك المحرمات، والإتيان بما ينبغي، والاحتراز عما لا ينبغي(6).
ولما كانت مراتب الصلاح والتقوى غير متناهية، ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، فقد وصف الله تعالى أنبياءه (عليهم السّلام) بصفة الصالحين. كما في قوله تعالى(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (7). وقوله تعالى (َإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (8). وقوله تعالى (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (9). وقوله تعالى(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (10). وغيرها من الآيات.
يقول السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في معرض تفسيره للآية الكريمة (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (11):
الآية الكريمة ترشدنا الى ان الهدف الذي يجب ان تتمحور عليه حياة الإنسان، وجوهر أهدافه كلها ليس ذلك كله، بل الجوهر هو الصلاح والإصلاح. وأما ماعدا ذلك فهي مظاهر وقشور، إن تسلحت بهذا الجوهر واستبطنته، فستكون لها عندئذٍ فقط كل القيمة. فالعلم -مثلا- لا يعدو أن يكون في حد ذاته مظهرا، جوهره الصلاح، لكنه لو تجرد من الصلاح والاصلاح لكان وَبالاً وفسادا ولكان طريقا الى جهنم.
أما الإصلاح فهو القيام بتهذيب النفس والتعدي من النفس إلى الغير، وذلك بحمل النفس ثم الآخرين على الصلاح والتقوى. فيقال لمن أصلح نفسه (صالحا) بنفسه، و(مصلحا) لها. باعتبارين.
(و(الصلاح) مستبطن في الإصلاح إذا لوحظ متعلَّقهُ النفس، وهو يعني ان يكون صالحا في نفسه، إضافة إلى ان يكون مصلحا لمجتمعه). (12)
فلا يمكن أن نتصور إصلاحا من دون صلاح للنفس، وعودة إلى الذات وتغيير ما في النفوس. يقول تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). (13)
ومما يؤكد ذلك أن التاريخ لم يذكر أمة من الأمم انتصرت على أعدائها في ميدان المواجهات الخارجية، دون أن يسبقه نصر داخلي أولاً لأبنائها على الصعيد الشخصي، من خلال تغيير ما في النفس وإصلاحها.
والإصلاح يهدف –من جملة ما يهدف إليه- إلى إعادة ثقة الأمة بنفسها، وجعل دواعي التغيير فيها من خلال صلاح النفس ومجاهدتها في ميادين الحرب المستعرة بين نوازع الخير ودواعي الشر. قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (14)
. فمن أسس بنيانه على معاني الخير وموجبات الرحمة لجدير بالبقاء والثبات، ممن كان بنيانه مؤسسا على خلاف ذلك. يقول السيد محمد الحسيني الشيرازي قده (إن البقاء إنما يكون للذي بنى أساسه على العدل والقسط، والعاقبة إنما تكون للذي رصّ بنيانه على قواعد الفطرة والعقلانية، بينما الذي أسس بنيانه على خلاف ذلك، كان مصيره الزوال والسقوط). (15)
صلاح المجتمع من صلاح الفرد
إن من يعنى بإصلاح المجتمع، لا بد أن ينصب تفكيره –أولا- بإصلاح الفرد، فإن ما يجري على الفرد من عوارض الصلاح والفساد، والصحة والسقم، والتقدم والتأخر، يجري على المجتمع أيضا، لأن المجتمع إنما هو مجموعة من أفراد. كما أن الإصلاح لا يمكن أن يؤثر أثره ويؤتي أكله ما لم يتسم بالشمولية على صعيد الفرد والمجتمع، وفي مختلف الاتجاهات والمناهج. " لكن الوصول إلى هذه المرتبة السامية يتوقف على ان يعيش الإنسان دوما حالة الموازنة والمفاضلة والتعادل والترجيح بين مشاقّ (الإصلاح) وبين متطلّبات (الأنا)، وما أصعب ذلك. اذ كثيرا ما يقتضي الإصلاح ان يسبح المرء على خلاف التيار، وكثيرا ما يقتضي إصلاح النفس جهاداً شديداً لكي يحفظها عن ان تنجرف مع المغريات ومع الأجواء ومع التيار السائد، وكثيرا ما يتلقى الإنسان على اثر ذلك الضربات والصفعات الموجعة، وقد يهمَّش، وقد يعزل، وقد يتهم "(16).
وينقل السيد مرتضى الشيرازي روايتين تحكيان بناء الإمام الحسين(ع) للنفس والمجتمع:
الرواية الأولى: ان الإمام الحسين(ع) مرّ بمساكين وهم يأكلون كسرا لهم على كساء، فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معهم، ثم قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم(17)
الرواية الثانية: مر الحسين(ع) بمساكين يأكلون في الصُفَّة، فقالوا: الغداء، فنزل وقال: إن الله لا يحب المتكبرين، فتغذى، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم، فمضى بهم إلى منزله فقال للرباب: أخرجي ما كنت تدخرين(18)(19)
وهنا نقول: هاتان القصتان على بساطتهما الظاهرية، تستبطنان سر تحول أمة بأكملها، إذ تكشف عن عمق (بنيانه) صلوات الله وسلامه عليه، وكيف يجب أن تكون عليه الأمة؟
ان هذه منهجية تربوية، علينا أن نتعلمها من سيد شباب اهل الجنة(ع) لأنه إمام واسوة وقدوة، وهو سيد الكائنات وأشرف الخلائق في زمانه، وهي ليست قصة عابرة، بل أُريد منها التعليم، لنتجسد ونتمثل هذه المُثُل والقِيَم في ذواتنا، فلو وجدت في داخل نفسي تعاليا على الناس مثلا، فعليّ أن اكسر هذا التعالي، و أحاول إصلاح ما فسد وأقوم بتهذيبه(20)
كما توجب علينا إعادة النظر في بنيانا الذي بنينا عليه أنفسنا: هل بُنيت كلّها على منهج سيد شباب أهل الجنة، وأن نعيد النظر – كذلك - في بَنيّة هذا التجمع أو هذه الدولة أو هذه الامة ثم بعد ذلك كله: تجب علينا إعادة تركيبة هذا البنيان من جديد، على ضوء القيم والمُثل العليا التي ثار لأجلها سيد شباب أهل الجنة عليه الصلاة والسلام(21)
شهر محرم فرصة للإصلاح
شهر محرم فرصة استثنائية نادرة -كشهر رمضان- لكي يعيد كل إنسان التفكير في شاكلته النفسية، وبناء الشخصية الصالحة المصلحة. وذلك لأنه يربطنا بأقدس رمز إسلامي، فهو خامس أصحاب الكساء: قادة الخلق، وأسوة العباد، وسادة الأولياء، والعلة الغائية لإيجاد عالم الممكنات.
فقد كان (الإصلاح) الرسالة التي حملها سيد الشهداء إلى كل الأجيال، والهدف من نهضته المباركة التي أعلن عنها بقوله (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)). ومن ثم كانت رسالة الإصلاح مسؤولية مناطة بكل مؤمن ومؤمنة، وليست مقصورة على رجال الدين أو من يتصدى للإصلاح.
وسنتحدث عن (الإصلاح) مرة بملاحظة مقوماته، وأخرى بملاحظة القائمين به.
الاستضاءة الثانية: الإصلاح بملاحظة مقوماته
إن أهم ما يميز الإصلاح الحسيني السمة الإلهية التي رافقت تفاصيل ذلك الإصلاح من ألفه إلى يائه. كون قائد الإصلاح معصوما ومرتبطا بالإرادة الإلهية. فهو تدبير إلهي أسس للمشروع الإصلاحي لمن جاء بعده من المسلمين وغيرهم من المصلحين. وإن الإرادة السماوية هي التي رسمت خطوطه العريضة وثبتت أهدافه، لحاجة الأمة إليه في ظروف قاسية تعرضت فيها الدعوة الإسلامية إلى محاولات خطيرة من (الطمس) المقصود من قبل الخط الأموي.
وقد شكل المشروع الإصلاحي الحسيني انطلاقة جديدة للحركة الاصلاحية من خلال مجموعة من المقومات، منها ما هو في مقام الابتداء، ومنها ما هو في مقام الديمومة والاستمرار.
1- مقومات الإصلاح الحسيني في مقام الابتداء
أ) اتسامه بالشمولية والتكامل.
الإصلاح الحسيني حركة شاملة متكاملة متناسبة مع عظمة الإمام المعصوم وكماله، فقد حافظت في انطلاقتها المباركة على المنهج القويم للمجتمع الإسلامي على الصعيد الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي جاء به الرسول الأكرم محمد(ص). وكان المجتمع الإسلامي –آنذاك - يعاني من الانحراف الشامل الذي أصاب الأمة بسبب سياسات يزيد الجاهلية.
فكانت ثورة الإمام الحسين(ع) الإصلاحية الشاملة متناسبة مع شمولية الانحراف الذي أصاب جسد الأمة، يقول (ع) في خطبته بالحر وأصحابه حينما أرادوا إبعاده عن الكوفة (ألا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وانا أحق من غير) (22)
ب) استناد الإصلاح إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من الواجبات العظيمة التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية والتي لها الدور البارز والكبير في الحفاظ على المجتمع الإسلامي نقيا وطاهرا لا سبيل لتسلط الأشرار عليه، هو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذ يعدّ المقوم الأساسي للإصلاح، وهو العنصر والملاك الحيوي الذي به صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. وبدونه تفقد الأمة (خيريتها)، لقوله تعالى (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (23)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – بالإضافة إلى كونه واجبا شرعيا – ضرورة اجتماعية ومسؤولية إنسانية تقع على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع المسلم في كل مجالات الحياة، إذ يجعل من كل شخص عينا ساهرة لمراقبة أي انحراف عن طريق الهدى، ليحافظ على السور المتماسك للشريعة الإسلامية ووحدة المسلمين.
وإذا تهاون الناس بهذا الواجب العظيم، واتكل كل منه على غيره، ولم يقم الإنسان المسلم بواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والإرشاد، سيؤدي ذلك إلى شعور جماعي بعدم الاكتراث لما يصيب المسلمين، وتكون نتيجة ذلك خروج زمام الأمر من أيدي الناس الصالحين، وإفساح المجال للأشرار أن يتسلموا أزمّة الأمور ومقدرات المجتمع، ويحكموا فيه بأهوائهم، فتقع الويلات والمآسي على المجتمع. وهذه الحقيقة نبه عليها الرسول الكريم(ص) بقوله (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء) (24).
فالرقابة الذاتية الحية للمجتمع المسلم من قبل أفراده، بعضهم على بعض، والتي يوفرها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هو جوهر الحركة الإصلاحية وأساسها، وهي المطلب الأساس الذي أراد الإمام الحسين(ع) إيصاله إلى أمة المسلمين، فضلا عن المتسلطين على الحكم. يقول (ع) في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية (وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين) (25)
ج) التمهيد الفكري والعقائدي والنفسي لعملية الإصلاح الكبرى. ويتمثل بالخطب العديدة التي قدمها بين يدي ثورته المباركة، والتي شكلت المنظومة الفكرية والعقائدية والسياسية والعسكرية لعملية الإصلاح. فقد كان للإمام الحسين(ع) خطب كثيرة على طول مسيرته التي امتدت من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء. وكانت كلمات سيد الشهداء في خطبه تلك نبراسا أضاء طريق الأحرار في العالم على اختلاف توجهاتهم وقومياتهم وأمكنتهم. وحكمة اقتبس منها العارفون مناهج السالكين، وبحور بلاغة انتقى منها الأدباء درر صنعتهم.
د) إحياء روح المواجهة لدى الامة وخلق الروح التعبوية لدى الجماهير المؤمنة، لمواجهة أي انحراف تتعرض له في مسيرتها على مستوى الأمة الإسلامية، أو على مستوى نظام الحكم، والوقوف بحزم وشجاعة أمام أي إرادة من قبل الظالمين والمتجبرين تحاول سلب إرادتها، يقول(ع) (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)(26) ويقول (ع)(يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله...) (27). حيث اوضح ان الخلافة قد سلبت من أهلها الشرعيين، ووضعت في غير موضعها الصحيح، من خلال اغتصاب يزيد (لعنه الله) للخلافة التي هي من حق اهل البيت عليهم السلام.
فكان إصلاحا تحريريا بامتياز، دعا إلى تحرير إرادة الأمة وإحياء ضميرها وتوعية المسلمين، وإصلاح المجتمع الذي كان يتجاذبه الخوف السياسي من جهة، وضعف الثقة العقائدية من جهة أخرى. فقد كان المسلمون يعرفون الحق وأهله، ويعرفون الباطل وأهله، لكنهم كانوا متقاعسين متخاذلين، وقد أيقن(ع) أن هذا الغرض العظيم لا يتحقق من خلال الخطب الحماسية، فكان للدماء الزكية التي سالت على أرض كربلاء الدور العظيم في إيقاظ ضمير المسلمين، وإعادة ثقة الأمة بنفسها، فأطلق(ع) صرخته المدوية في ضمير الأمة (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) (28)
هـ) وضوح أهداف ومبادئ وآليات الإصلاح، وانسجامه مع حاجة الأمة ومتطلبات الإنسان المسلم في ذلك العصر، بل وفي كل عصر. فكان (ع) يريد من خلال ذلك الإصلاح إعادة الأمة إلى واقعها الإسلامي الحق الذي جاء به النبي بعد أن اجتهد الأمويون في تغييره، وأوشك أن يتبدل تماما لصالح الشرك والنفاق، فقد أعلن يزيد الكفر صراحة وهو متربع على دست الخلافة الإسلامية، بإنكاره لرسالة النبي الخاتم(ص). بتمثله بأبيات ابن الزبعرى بقوله:
لعبت هاشم بالملك فلا..........خبر جاء ولا وحي نزل
دواعي النهضة الحسينية الإصلاحية
إن ثورة الإمام الحسين (ع) الإصلاحية لم تكن طلبا للملك الدنيوي وإنما كانت نهضته لإحياء شريعة جده المصطفى(ص) التي أراد الأمويون محوها، فكان لتلك النهضة الإصلاحية دواع كثيرة، من أهمها:
1) علاج وضع الانحراف الذي أصيبت به الأمة كنتيجة حتمية لضبابية الرؤية التي أصابتها بسبب ابتعادها عن خط الرسالة من جهة، ولتسلط الطغيان الأموي الذي بلغ ذروته بتسلط يزيد لمقدرات المسلمين، واحتلاله منصبا يمثل لدى المسلمين رأس الهرم في المنظومة التشريعية والتنفيذية من جهة أخرى. فقد أصبح العالم الاسلامي –آنذاك- على مفترق بين طريقين: طريق الحق والحرية، وطريق الباطل والذل. فكانت المواجهة الحتمية -من خلال الثورة الحسينية المباركة- حلا أخيرا، وشفاء ناجعا لمواجهة الانحراف الذي أصاب جسد الأمة الإسلامية بالشلل والبصيرة بالعمى.
ولم تكن حالة الانحراف هذه وليدة تلك الظروف، بل كانت بدت طلائعها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، واجتماع القوم في سقيفة بني ساعدة، كي ينضجوا مؤامرة كبرى على الإسلام، من خلال استلاب خلافة الرسول(ص) من صاحبها الشرعي أمير المؤمنين (ع). فتولدت –نتيجة لذلك- حالة متنامية من التزييف والتحريف في منظومة الحكم، مما جعل الامة الاسلامية غير قادرة على التمييز بين الحق والباطل، فقدت بسببها إرادتها، فلم تعد قادرة على تغيير واقعها. فأوجب ذلك وجود تيار إصلاحي يقود هذه الامة لبر الأمان، تمثل بالتيار العلوي الولائي الممتد للثورة الحسينية.
2) إعادة الوعي الإسلامي لأمة المسلمين. فقد رأى الإمام الحسين(ع) أن الجاهلية عادت بأعتى من ذي قبل، وقد بدأ المسلمون بالتخلي عن مبادئهم وعقيدتهم، بعد أن غر الأمويون المسلمين عن عقيدتهم. إذ إن هؤلاء المنافقين قد ظهروا للناس بمظهر الخلافة والنيابة عن رسول الله(ص) بعد أن جلسوا على كرسي الحكم، فاغتر بهم الكثير من الناس وانخدعوا بهم، فلما ملكوا وحكموا أحلوا الحرام، وحرموا الحلال وعاثوا في الأرض فسادا، وسبوا أمير المؤمنين(ع)على المنابر، فاستنقذ الإمام الحسين(ع) الدين من أيدي الظالمين، وانكشف قناع النفاق عن وجوه بني أمية حين أظهروا حقدهم الدفين وعداوتهم لله ورسوله، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من آل بيت رسول الله(ص) عطاشى، ولم يقنعوا بذبح الأطفال، حتى وطئوا تلك الجثث الزواكي بحوافر الخيول وحملوا رؤوسهم على أسنة الرماح، ثم ساقوا حرائر الوحي وبنات الرسالة سبايا في البلدان. فعلم الناس خروج أولئك الحكام عن الشريعة وحقدهم على رسول الله(ص) وابتعادهم عن الدين.
وقد كان المجتمع الإسلامي في ظل الحكم الأموي قد بلغ حدا عظيما من الفساد، وعادت الجاهلية بأبشع صورها، وقد انتشرت مجالس اللهو والطرب وشرب الخمور في البلدان الإسلامية، حتى في مكة والمدينة، وعطلت أحكام الله وحدوده، وانتهكت حرمات الدين، وتسلط على رقاب المسلمين يزيد بن معاوية شارب الخمر واللاعب بالقرود والمجاهر بالفسق والفجور، وقد سلط على رقاب المؤمنين من شيعة علي (ع) سيف القتل والإرهاب.
3) إحياء مشروع الإمامة الإلهية كما يفهم ذلك من قوله (ع) " أسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب"(29). لا بسيرة الشيخين كما طُلب ذلك من أبيه في اجتماع الشورى. ويُفهم ذلك من رفضه لبيعة يزيد حيث فيها دلالة على بطلان خلافته.
2- مقومات الإصلاح الحسيني في مقام الديمومة والاستمرار
إن عملية الترابط الفكري والعاطفي لمنظومة الثورة الحسينية هي التي أسست لعملية التطور الاصلاحي في ما بعد في زمن الائمة الاطهار بعد الامام الحسين (عليه السلام)، والأجيال المتعاقبة بعد زمن الغيبة. فقد شكلت هذه الثورة الإصلاحية قاعدة جماهرية عريضة حاولت التواصل مع معطيات ونتائج وابعاد الثورة
إن مبادئ ثورة الإمام الحسين الإصلاحية ما كان ليكتب لها الخلود لولا امتزاج الفكر بالعاطفة. فإن الفكر من دون عاطفة عبارة عن مجموعة من النظريات والفلسفات السقيمة التي لا واقع لها ولا تطبيق في ساحة الحياة، وكذلك العاطفة الخالية من الفكر هي جهل وعصبية. والفكر العظيم لمدرسة أهل البيت لو لم يسق بدماء أهل البيت(ع) ودموع شيعتهم ومحبيهم ما كان له أن يخلد متحديا الظروف والأعداء. ولأجل ذلك فقد تمثل المقوم الأساس للإصلاح الحسيني في مقام الديمومة والاستمرار وعلى امتداد العصور وكرور الأيام والدهور بـ:
الشعائر الحسينية
الشعائر: جمع شعيرة، وهي العلامة الدالة، وشعائر الله هي معالم دين الله وأعلامه التي نصبها لطاعته ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه. وجعلها دالة على عظمته. لأن الشعار ينطوي على جنبة الإعلام والعلانية.
والشعائر -بشتى صنوفها وأشكالها- مقدسة، بل هي ضرورة دينية، فلا توجد فئة في المجتمع يجمعها مبدأ واحد، إلا ولها شعار يبرز شخصيتها ويجمع أتباعها.
دور الشعائر في الإصلاح
وتظهر أهمية الشعائر وفوائدها بما توجده من فاعلية على عمل الإنسان، وبما تتركه من أثر عظيم في النفوس. وبما تشكله من قيم متجسدة، إذ لو لا الشعائر لانكفأ الدين، وانقلبت مفاهيمه، ولأصبحت رايته منكوسة، بدلا من أن تكون مرفوعة عالية مرفرَفة.
ومن شعائر الله التي كان لها الدور التاريخي في الحفاظ على الشريعة الإسلامية هي الشعائر الحسينية، إذ يمثل الإمام الحسين (ع) عنصر التضحية الذي بقي الإسلام أصيلا بفضله. وبفضل الشعائر الحسينية:
1- خلّدت الغايات التي نهض الحسين (عليه السلام) من أجلها.
2- أسس المجتمع الشيعي، وتربى على روح المقاومة والرفض للظالم حتى أصبح سمة من سمات أتباع أهل البيت عليهم السلام.
3- كانت هناك الإدانة والشجب - على الدوام - للخط المناوئ لأهل البيت، والإفصاح عن عدم شرعيته، لأنها ترجمة عملية للمودة القرآنية والتولي لأهل البيت (عليهم السلام) والتبري من جاحديهم وأعدائهم.
وبعد أن أسس القرآن الكريم وجوب تعظيم الشعائر، بقوله تعالى(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (30). تطرقت الآيات اللاحقة إلى ذكر مفردة من مفردات الشعائر بقوله تعالى (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) (31).
يقول السيد مرتضى الشيرازي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: قد يبدو هذا الكلام غريبا إذ لِمَ تكون (البُدن) وهي (الجِمال)، جمع (بَدَنَة) هي التي (جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ). فلماذا لم يقل الرب تبارك وتعالى: (كلمات الرسول ـ مثلا ـ جعلناها لكم من شعائر الله)، أو الصلاة ـ مثلا آخر ـ جعلناها من شعائر الله. أو الاخوة الإسلامية؟، أو الأمة الواحدة، أو العدل أو الإحسان، ونظائر هذه القيم المهمة الى أبعد الحدود؟ لِمَ لم يذكر أنها من شعائر الله؟ أي مشعِرة بالله وموصلة الى الله ؟ لماذا؟
والجواب على ذلك يظهر عندما نعرف طبيعة الإنسان وسيكولوجيته، فان الانسان بطبعه إنما يقوده الى الخير، المبدأ المتجسد والمتمظهر بالمظهر المادي المحسوس، فهذه الجِمال والبدن التي تساق في طريق الحج مع استحباب ان تُقلَّد بنعال الإنسان الذي صلى فيه أو الذي لم يصل فيه، على القولين، (وقد يرى البعض كون ذلك مثارا للسخرية، مع أن الله تعالى اعتبر هذا الفعل بالذات شعارا وشعيرة له، هي بالذات تجسيد لقيمتين عظيمتين جداً بل ثانيتهما هي أعظم القيم على الإطلاق: إذ ان القيمة التي تتضمنها هذه الحركة وهذه العملية هي (الانفاق) والانفاق قيمة مجردة غير مرئية، ولكن هذه (البُدن)التي تساق ترمز الى قيمة الإنفاق في مظهر يملأ الأبصار، هذا أولاً. ثم انها ثانياً بـ(سوقها) وإشعارها. بالنعال التي قلدت بها هذه الإبل، ترمز الى الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى.
إن الشعائر الحسينية هي مبادئ متجسدة بهذه الانحاء والألوان والأشكال لكي تذكرنا وتذكر الجميع بالقيم والمثل العليا التي جسدها سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، على طول الخط. واذا كانت (البُدن) من الشعائر بما فيها من القلائد، فكيف بسائر المظاهر التي رمزيتها مما لا تخفى على (من ألقى السمع وهو شهيد) (32)
والشعائر الحسينية من أبرز العطاء الثوري الذي قدمته مدرسة الحسين(ع) عبر العصور للحفاظ على أصالة العقيدة ونقائها، ولذلك أطلقت الكلمة المشهورة (الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء). ونتلمس هذا واضحا من خلال تأكيد أهل البيت على شيعتهم وأصحابهم على إحياء أمرهم وإقامة الشعائر التي تخلد ذكرهم ومآثرهم. فقد روي عن أبي عبد الله (ع)، قال (قال لفضيل، تجلسون وتحدثون ؟ قال نعم: جعلت فداك، قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم الله من أحيى أمرنا يا فضيل من ذكرنا، أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر) (33)
الشعائر من علل الصلاح والإصلاح
والسبب في ذلك يكمن في نقطتين رئيستين:
الأولى) لان الشعائر الحسينية جوهرها الصلاح والاصلاح، فحضورها هو حضور للصلاح والإصلاح. فإن الشعائر الحسينية عبارة عن (المبادئ المتبلورة في مشاهد مبصرة او محسوسة) فان أية شعيرةً ماهي الا مبادئ تبلورت في هذه الهيأة او ذلك الشكل او تلك الصورة.. وإن كل إنسان واعٍ لو شاهد هذه البلدة الطيبة أو غيرها مجللة بالسواد، فسينتقل فكره وذهنه الى تلك القيم العليا التي من اجلها جُلِّلت هذه البلدة او تلك المدينة واتشحت بهذا السواد المشعر بالحزن والأسى على سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب اهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليه)..والذي يمارس شعيرة (التطبير)، فانه يشير بذلك الى: أنني فداء للحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وللدين المبين، وانني جندي تحت الطلب، وهو يعبر عن هذه المعاني المجردة بهذا المظهر المتجسد الذي يملأ الأبصار ويهز الضمائر والوجدان وهذه هي رسالة (التطبير).(34)
الثانية) إن الشعائر الحسينية هي دينامو الاصلاح، وهي المولِّد والمحرِّك والمحافظ على استمرارية عملية الصلاح والاصلاح على مر التاريخ.
يقول علماء النفس ان هناك نوعين المثيرات:
(1) المثير الطبيعي. في المنعكس غير الشرطي (المنعكس الطبيعي)
وتوضيحا لهذه الفكرة نضرب لها مثالا، فلو ان إبرة شكّت يد انسان وتمثل الإبرة –هنا– المثير الطبيعي فإن (المنعكس غير الشرطي) الطبيعي هو انقباض يد الانسان بدون اختياره. وكذلك غلق الانسان عينيه عندما يسلط عليهما ضوء قاهر. والمنعكسات غير الشرطية الطبيعية في الحياة كثيرة.
(2) المثير الصناعي. في عملية المنعكس الشرطي (المنعكس غير الطبيعي)
وهو ان تُوجِد ترابطا بين ظاهرة معينة وبين مبدأ معين، عن طريق كثرة التكرار، وإنما سمي بـ(المنعكس الشرطي) لاشتراط التكرار إلى أن يجسد هذا المنظر ذلك المخبر ويعكِسه، أو يستدعي تلك القيمة او ذلك المبدأ.
ومن أمثلة المنعكس الشرطي فيما يرتبط بمبحثنا هي المظاهر والتجسدات المختلفة للشعائر الحسينية، فإنك عندما تنظر الى شخص متجلل بالسواد في شهر محرم، فان هذا مثير صناعي يذكرنا بالمبادئ والقيم التي ثار لأجلها سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كذلك المشاة او اللاطمون على الصدور(35). فكانت الشعائر الحسينية دينامو الإصلاح باستحقاق وامتياز.
(البكاء والإبكاء) توبة وبناء
البكاء والإبكاء من مصاديق الشعائر التي تحافظ على استمرارية المنهج الإصلاحي لسيد الشهداء. لأن الباكي على مصيبة الحسين (عليه السلام) يعبّر عن شدة العلاقة والانجذاب نحوه، والرفض لأعدائه والتجاوب مع الحدث. ولا شك في أنه بهذا القدر من المعرفة نوع تضامن مع ولىّ الله تعالى والصراط الحق والمعروف، وإنكار المنكر، لا مثل الجمود والحياد الذي يعني انعدام الحمية الدينية، والذوبان في المنكر والانفعال به، بالإضافة إلى أن البكاء عليه(ع) ترجمة لأصلي التولّي والتبرّي.
ويتضح من قول الإمام الصادق(ع)، السالف الذكر، في الباكي على الحسين(ع) "فخرج من عينه مثل جناح الذباب" أن الإمام يركز على إحياء المناسبات التي تستذكر مصائب ومآسي وظلامات أهل البيت (ع) والتفاعل معها نفسيا وعاطفيا بالبكاء، لأن التفاعل الوجداني والعاطفي هو الذي يحافظ على مشعل الفكر والعقيدة المحمدية متقدا وضّاءً.
بكاء السماء والأرض على الحسين(ع)
إن كتب السير والتاريخ مليئة بالروايات والقصص التي تتحدث عن الحوادث الكونية التي حصلت عند شهادة الإمام الحسين(ع)، فقد اسودّ الكون ساعة استشهاده حتى شوهدت النجوم وقت الظهيرة، ومطرت السماء دما وترابا أحمر، ونبع الدم من الشجر، ولم يُرفع حجر الا وجد تحته دم عبيط، وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة (36)
وروي عن الإمام الصادق(ع): أن السماء بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم، وان الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد، وان الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف والحمرة، وان الجبال تقطعت وانتثرت وان البحار تفجرت وان الملائكة بكت أربعين صباحا على الحسين (عليه السلام) (37)
معنى بكاء السماء والأرض
ولكن ما معنى بكاء السماء والأرض؟
نقول: إن البكاء هو مظهر من مظاهر الحزن، فإن الإنسان حينما يحزن قلبه، تترجم العين هذا الحزن على شكل دموع، فالبكاء أثر الحزن، وبكاء السماء هو الآثار التي تحصل فيها بسبب حزنها كالعواصف والزلازل والاحمرار وغيرها.
وإذا كانت السماوات والأرض تبكي على سيد الشهداء، فمن الأولى أن تبكي عليه عيون شيعته ومحبيه.
يقول السيد مرتضى الشيرازي: والخطباء يتصدون لهذه المهمة بالذات ـ جزاهم الله خير الجزاء ـ لكننا نرى ان هذه المسؤولية ليست مسؤولية الخطباء فقط، بل على الطبيب ايضا أن يُبِكي الناس على سيد شباب أهل الجنة، وعلى المهندس أو المحامي أو الاستاذ الجامعي أو المدرس أو المعلم في أسرته أو على طلابه، وذلك لعظيم الاجر المترتب على ذلك.(38)
يقول الامام (عليه السلام):" من أنشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى وأبكى عشرة كتب لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى وأبكى خمسة كتب له الجنة، ومن أنشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى وأبكى واحدا كتب لهم الجنة ومن ذكر الحسين عليه السلام عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنة"(39)
السر في اختلاف العدد
1) لعله من باب التفضُّل، أي إن من أبكى مائة، فإنه يستحق الجنة، ولكن الله تعالى تفضلا منه يعطي الجنة لمن أبكى أقل من هذا العدد، ولو كان شخصا واحدا. وهناك نظائر لهذه الرواية، في أبواب أخرى.
2) الجنة لفظ له مصاديق كثيرة ومتعددة. فانه لفظ عام يستبطن مفردات وجنانا كثيرة، كما أن للجنان مراتب ودرجات، وهنا نجد أن بعض الأشخاص بإبكائهم مائة من الآخرين يستحقون مرتبة أعلى تلك المراتب العالية من الجنة، أما الذي يبكي عشرة أو واحدا فله مرتبة أخرى منها وهكذا.
إشكال وجواب
الإشكال: كيف يكون من أبكى ولو واحدا، ممن وجبت له الجنة ؟(40)
والجواب: ان هذا البكاء يهيئ الطريق الى الجنة(41) كالاستغفار (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً)، لكن بعد ذلك على الانسان أن يصمم ان لا يعصي الله سبحانه وتعالى، فانه إن بكى وأبكى او استغفر سبحانه وتعالى فقد محيت ذنوبه ووجبت له الجنة، لكنه ان عصى الله سبحانه وتعالى فلعله بذلك يحبط عمله، او لعله بذلك يستحق عقوبة في لحظات الاحتضار أو البرزخ أو القيامة – على حسب أنواع المعاصي ودرجاتها(42)
الاستضاءة الثالثة: الإصلاح بملاحظة القائمين به
إن منزلة الأنبياء والمرسلين من أفضل منازل الخلق لتبليغهم رسالات ربهم، وصاروا بسبب ما قاموا من إصلاح في أممهم أفضل الخلق وأزكى العالمين نفوساً، وأكملهم علوماً.
ومن هنا يتبين أهمية هذا الواجب العظيم، وفضل الدعاة الصالحين إلى الله عز وجل على بقية الخلق، وكيف يصيرون به خلفاء النبوة، ونواب الرسل بسيرهم على منهاجهم وطريقتهم، من نصيحتهم للأمة، وإرشادهم الضال، وتعليمهم الجاهل ونصرهم المظلوم، وأخذهم على يد الظالم وأمرهم بالمعروف وفعله، ونهيهم عن المنكر وتركه والدعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين، والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين، والجدال بالتي هي أحسن للمعاندين المعارضين، فهذا حال أتباع المرسلين وورثة النبيين.
خواص القائمين بالإصلاح
1) إن الذي يقوم بعملية الإصلاح لا يؤثر عمله في النفوس ولا تؤتي محاولاته الإصلاحية ثمارها المرجوة منها ما لم يطبق الإنسان هذا الواجب على نفسه ويصلحها أولا ثم يصلح غيره، وإلا صار كما يقول الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى.....طبيب يداوي الناس وهو عليل
2) ولابد أن يكون المصلح، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر -كي يقوم بعملية الإصلاح- عالما بمواطن المعروف فيشخصه ويأمر به، وعالما كذلك بمواطن المنكر، فيشخصه وينهى عنه، لا سيما في هذا الزمان الذي شوهت فيه الحقائق، وقلبت فيه الموازين، وصار ينظر إلى المعروف أنه منكر، وينظر إلى المنكر أنه معروف. وقد أخبر رسول الله (ص) عن حالة المجتمع هذه قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، بقوله(ص) (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ فقال نعم، وشر من ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا) (43)
3) وينبغي على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتحلى بالحكمة وحسن الأسلوب في إيضاح الحق، لقوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (44)، لأن طريق القسوة والغلظة في الإرشاد والإصلاح يضر أكثر مما ينفع.
وقد توفرت كل الشروط والكمالات في شخصية سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع) للقيام بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكان قائد الثورة الإصلاحية التي لا ينفك أثرها الطيب إلى قيام الساعة، فقد امتلك الإمام الحسين(ع) من الصفات ما لم تمتلكه قيادات الثورات الإنسانية الأخرى، فهو ابن بنت رسول الله وهو المعصوم الموصول بالسماء، وهو ابن علي عليه السلام الذي أقام بسيفه الدين ونور ببلاغته وحكمته العقول.
يقول الإمام الحسين (ع) في رسالته إلى سليمان بن صرد الخزاعي "علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله " وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله "(45)
الآفات المترتبة على الأمة بترك الإصلاح
1- العذاب العام، الشامل لكل أفراد الأمة. ويستفاد ذلك من فاء النتيجة في قوله تعالى (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (46)، بسبب الطغيان والإفساد، المقابل لعملية الإصلاح، في قوله تعالى((الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ)) (47)
إن السكوت عن العصاة ومجاراتهم لهي من موجبات العقاب والهلاك، لان السكوت عليها يغري أصحابها على التمادي والاستفحال، وبالتالي انتشار الذنوب وتفشيها في المجتمع، وذلك قد يتعدى إلى كل طبقات المجتمع الإسلامي. يقول تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (48)
يقول الإمام الحسين(ع) في مسيره إلى كربلاء "ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما. إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء الديانون"(49)
2- الذلة والهوان والفقر: إن الإصلاح أمر من الله، وتضييع أمر الله أمر يكون موجبا للانتقام الإلهي. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء(50)
3- عدم استجابة الدعاء. إن ترك الإصلاح من موجبات عدم استجابة الدعاء. وقد روي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم(51)
اضف تعليق