q

غالباً ما يكون الجواب على أي استفهام يقدح في الذهن بخصوص قضية ترتبط بأحداث تأريخية تمتد تداعياتها إلى أزمنة لاحقة: إن الحل يكمن في طي التأريخ بكل إرهاصاته، والإتجاه للمستقبل دون العودة إلى الوراء.

في الحقيقة، إن مثل هذه الإجابة تبدو سطحية ولم تلامس جوهر المشكلة، ولا تقدم أي نوع من أنواع الحلول، فجذور المشاكل التي تحدث تأريخية في أعمِّها الأغلب، وما محاولة غض النظر عن الأحداث التأريخية وتركها من دون مراجعة أو تحليل إلا رؤية ترفية لا تستند لأي منطق عقلي ومعرفي ؛ لأن هذا الإبتعاد عن الماضي المتصل بحاضر ملتهب لن ينتج سوى المزيد من الخدر الفكري، ومزيد من الأحداث التي ستتكئ على هذا الماضي مهما تظافرت الجهود للإبتعاد عنه أو نفيه . ولسنا بعيدين عن أوضاعنا الراهنة في ظل سوداوية الوحش التكفيري وامتداداته وأدواته الفقهية التي تعود لتأريخ مازال - رغم ماضويته - يمارس وحشيته بأنساق تتجدد.

وعلى العكس من رؤية هجر التأريخ، يمكن أن تكون الأحداث التأريخية ثيمة مستقبلية يمكن أن يُحتفى بها لو تمت قراءتها ثقافياً بسياقات غير خاضعة للأدلجات المختلفة، اي تُقرأ بنتائجها وأسباب بقائها الإيجابي قطعاً.

ولن تكون حادثة خالدة أهم من حادثة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على ارض كربلاء المقدسة، وكيف ظلت شعلة إنسانية عصية على كل رياح الإطفاء. وقياساً لهذه المعطيات؛ ولعمق المعنى الإنساني الذي يغلف ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السلام عليه السلام، يمكن تأسيس هوية إنسانية جمعية تستمد عناصر بقائها من كربلاء وما أنتجته من مفاهيم صارت مادة للأدبيات المختلفة سياسياً واجتماعياً وأدبياً ما يعزز الذاكرة الثقافية المستقبلية، ويبشر بمستقبل إنساني أكثر بياضاً وجمالاً.

ألوان الهوية الحسينية

ومادمنا بصدد الحديث عن هوية جمعية بملامح ذي ظلال كربلائية، لابد من لنا من استحضار الهاجس المقدس لرائد هذه النهضة الكبيرة انطلاقاً من "ما خرجت أشراً ولا بطراً إنما خرجت من أجل طلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله "، فالإصلاح بمفهوم الإمام الحسين عليه السلام يرتبط بقيمة الرسالة التي تحمَّل مهمة النهوض بأعبائها جدّه المصطفى العظيم ؛ ليتمم بها مكارم الأخلاق.

إن مكارم الأخلاق تتسع دلالياً ومفاهيمياً لتشمل مازخرت به آيات القرآن الكريم التي حثت على قيمة الإنسان العليا وأفضليته على الخلق " وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر".

لهذه المعطيات القرآنية الرائعة والتي حرص على ترجمتها لسلوك عملي الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، نهض السبط الشهيد عليه السلام بعد أن شاهد مستقبل الإنسانية ممثلة برسالة جده مهدداً بالخطر، فكانت صرخته المدوية وشعاره اللاهب (هيهات منا الذلة)، وحاشا لمن يتربى في حجر النبوة وكنف العصمة أن يستسلم او يذل، بل ظل بما قدمه من تضحيات شاخصاً إنسانياً ملهماً لكل ثائر من أجل نصرة إنسانية الإنسان مسلماً كان او غير مسلم، بل حتى وإن كان من اللادينيين.

من هنا تلونت هوية كربلاء في ظهيرة عاشوراء الملحمة بألوان متعددة .. ينهل منها كل من يريد أن يبحث بتجرد، حيث تلاشي التمايز الطبقي كما في قضية الشهيد جون رضوان الله عليه، وكذلك احترام الآخر المختلف كما في سلوك الإمام مع جيش الحر بن يزيد الرياحي قبل المعركة الفاصلة، وهو السلوك الذي كان سبباً في تحول الحر إلى معسكر الحق ، مغادراً منطق الطغيان والجور والديكتاتورية إلى منطق الإنسان والأخلاق والرقي، منطق الوصول للفوز الحقيقي، للخلود غير الزائل .

بهذه الألوان الجمالية لوّنت ملحمة الطف الهوية الحسينية، فهل ثمة أفضل هوية منها تصلح لجمع الإنسانية على مبادئ الخير والعدل والإصلاح أعظم من هذه الهوية؟

الطقوس والتأصيل الثقافي

وطالما اننا استطعنا تشكيل هوية جمعية ملونة بالموقف الحسيني الزاهي والمتعدد الأبعاد، لابد من الإتجاه الجاد، والسعي الحثيث لتأصيل الفكر الحسيني، وإثبات مبررات رسوخه في الضمير الإنساني كل هذه الفترة الممتدة من سنة 61 للهجرة وحتى قيام الساعة، هذا الإثبات يتطلب أولاً وقبل كل شيء الإيمان واليقين بقداسة هذه القضية الكبيرة وعدم الخضوع - بغرابة مملة - للنقودات التي لاتستند على وقائع ومعطيات منطقية وعقلية في نقد آليات التأصيل ممثلة بالطقوس المتعددة شعبياً ونخبوياً، والتي تُمارس في إحياء ذكرى عاشوراء وملحمتها الخالدة، فلسنا في طقوسنا هذه جئنا بما لم تجئه الأوائل، فكثير من الشعوب على تعدد أديانها، لها طقوسها وموروثاتها التي تحترمها وتحافظ عليها، بل وتعتبر الطقوس جزءاً من ثقافتها ومن مبررات وجودها، فمالذي يمنعنا من ان نحذو حذو هذه الشعوب ؟ مع أن الفرق بيننا وبينهم هو انهم يحتفلون ويقيمون الطقوس فلكلورياً من خلال أساطير وحكايات، أما نحن فقضيتنا حية متجددة في وجدان الإنسانية، ولايمكن أن يتم اختزالها في بتنظيرات ترفية، هي قضية بطلها إنسان حقيقي وليس حكاية أو أسطورة، وقدم للإنسان في الله كل شيء فأعطاه الله تعالى كل شيء .

علينا أن نتخلص من عقدة التابعية وتقليد الغرب، وسكب متبنياته على خصوصياتنا الدينية والإجتماعية، الأمر الذي يتطلب حضور النقد الثقافي بقوة؛ وذلك ليكشف مايمكن اكتشافه من أنساق وممارسات تحاول إقصاء الخصوصية .. عبر اختلاق المبررات التي لاتمت للواقع بأية صلة، وهي في الحقيقة لن تضر قضية استمدت تأييدها وخلودها من إرادة السماء، لكن ؛ وحتى نضمن عدم التشويش على الأجيال القادمة، وإن كان تشويشاً مؤقتاً لن يصمد كما لم تصمد سابقاً كل ممارسات الأنظمة الجائرة وطغيان العصور المختلفة في إيقاف مسيرة الإحتفاء بالنهضة الحسينية، وماتلك الممارسات إلا مصداق للمقولة الشهيرة: " مهما بصقت بوجه الشمس فإنها لن تنطفئ " .

على هؤلاء المنفصلين عن واقعهم أن يسألوا أنفسهم عن الضرر الذي يحدثه فيهم ذلك التكافل الإجتماعي الهائل اثناء مسيرة الإنسان صوب الحسين الملهم، أليست مشاهد هذه الملحمة البشرية المسالمة، هي ذاتها التي تراود مخيلتهم ويحتفون بها في نصوصهم وكتاباتهم وتنظيراتهم؟ لماذا عندما تكون واقعاً ملموساً عبر طقوس أيلة وراسخة يتبرمون ويطلقون مالذ وطاب من الآراء الغريبة العجيبة؟.

إن أهم ركيزة من ركائز ترسيخ الإحتفاء بهذه النهضة الكبيرة هي عملية الحفاظ على استمرارية طقوسها متوهجة بين الأجيال، وإفهام الآخر إنها تحتفي بحرية الفكر، وحرية إبداء الرأي، وحرية الإعتراض المقدس على الممارسات المنحرفة، والقيادات الفاسدة المتجبرة، كل هذه الحريات تجلت في القضية التي يعاد إحياؤها بواسطة هذه الطقوس الإستذكارية ثقافياً وأدبياً ومسرحياً ووو…. الخ، وتجلت كذلك في المؤتمرات البحثية والعلمية التي تقام؛ لتنهل من عمقها وثراء مضامينها، مركزة على الكلمات التي صدرت من بطلها العظيم يوم الملحمة، والتي شددت على أن يكون الإنسان حراً وإن واجه خطر الموت: "آليت لاأُقْتَلُ إلاّ حُرّا… وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا"، وكذلك في قوله لأعدائه المتوحشين: "إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم".

كيف لمن يؤمن بحرية الفرد الإنساني، وبكرامة البشرية، أن يشيح بوجهه عن مثل هذه القيم بكل مالها من سمو ونبل وقيم عليا، ولايقيم لها فعاليات الإستذكار بكافة توجهاتها، ولايقوم بإحيائها ويجعلها متقدة ماستمرت مسيرة العطاء البشري؟.

إن شرط الإخلاص في تقديم الوجه الناصع لقضيتنا الحسينية الخالدة يُمَكِّنُنا من تحقيق حلم الهوية الجمعية، على وفق النسق الطفوفي الكربلائي، فسلام على الحسين ثائراً وشهيداً وجامعاً الإنسانية في هوية متحررة باقية، وعصية على الإلغاء.

اضف تعليق