استقطبت ملحمة كربلاء قمم الشعر العربي على مدى أدواره وقرونه فراحوا ينهلون من تلك الوقفة التي وقفها سيد الشهداء (ع) عظمة الإباء، وعظمة الثورة، فكانت كربلاء عرقاً ينبض فيهم في كل زمان ومكان، ولعل من أقسى الفترات التي مر بها شعراء الشيعة هي الفترة العباسية التي مارست كل أنواع البطش والتنكيل ضد شعراء كربلاء شعراء الحقيقة، ولكن رغم ذلك فأن أسم الحسين(ع) وكربلاء لم ينقطع عن أفواههم، فتجد من يقول: (إني أحمل خشبتي على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها)، فحُورب الشعراء، وطُوردوا، وقتّلوا وعذّبوا بأشد أنواع العذاب من أجل عقيدتهم ونجد في قصة الشاعر عبد الله البرقي خير مثال عن الشعراء الذين عرفوا في ذلك الوقت بشدة ولائهم وتمسكهم بمنهج أهل البيت فعندما يسمع المتوكل قصيدته والتي منها:
فقلدوها لأهل البيت أنهم *** صنو النبي وأنتم غير صنوانِ
وهي قصيدة طويلة في مدح أهل البيت (ع) والتعريض ببني العباس يأمر بقطع لسانه وإحراق ديوانه فمات بعد ذلك بأيام قليلة وكان هذا دأب شعراء أهل البيت(ع) رغم قسوة السلطة، ومن الشعراء من لم يسلم حتى في قبره فـ (تتبعوه رميما) كما جرى للشاعر منصور النمري عندما أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه لما سمع عنه أنه رثى الحسين(ع) فأخبروه بأنه قد مات فأمر بنبش قبره !! وهذا ما يعطي صورة واضحة للممارسات الهمجية التي كانت السلطة العباسية تمارسها للحد من هذا الشعر ودفنه
وقد حذا الحكام العباسيون حذو أسلافهم الأمويين في إتلاف الشعر الشيعي وساعدهم على ذلك مؤرخو السلطة فعبارة: (إن كثيراً من شعره قد ضاع)، و(ضاع أغلب شعره)، و(لم يبق من شعره إلّا القليل، وأغلبه قد ضاع) تترددّ كثيراً في مقدمات المحققين عندما ينبروا لتحقيق ديوان لأحد شعراء كربلاء فدعبل الخزاعي الذي قال عنه الجاحظ: (إن دعبلاً قال الشعر مدة ستين سنة، ما ذر شارق إلّا قال شعرا) لا يحتوي ديوانه سوى على قصائد ومقطوعات قليلة وقياساً على قول الجاحظ ينبغي أن يكون ديوان دعبل الحقيقي أكبر من المطبوع بعشرين مرة على الأقل لإنه: (قال الشعر وهو صبي)، و(عاش (98) سنة)، و(لم ينقطع عن الشعر طيلة حياته) كما وصفه الجاحظ وغيره من المؤرخين، ولولا أن قصيدته التائية المشهورة التي أنشدها عند الإمام الرضا (عليه السلام) قد تناقلتها الأفواه لما سلمت من يد الاغتيال كما آلت إليه قصيدة إبراهيم بن العباس الصولي (المتوفى 243ه) في مدح أهل البيت والتي أنشدها أيضا عند الإمام الرضا (ع) والتي تزيد على مائتي بيت ولم يحفظ لنا التاريخ سوى مطلعها الذي رواه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (ج3ص83) وهو:
أزال عزاء القلب بعد التجلّدِ *** مصارع أولاد النبي محمدِ
كما نال الشاعر علي بن عبد الله بن وصيف الحلاء المعروف بـ (الناشئ الصغير) نصيباً وافراً من هذا التضييع فهذا الشاعر وصفه المؤرخون بعبارات (مدائحه في أهل البيت لا تحصى كثرة) و(له أشعار كثيرة في أهل البيت(ع) لا تحصى حتى عرف بهم ولقب بشاعر أهل البيت) و(استنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم وأشعاره فيهم لا تحصى كثرة) إلى غيرها من الجمل في نفس المعنى ومع ذلك يطالعك نفس المؤرخين بعد هذه الجمل بالقول: (وأغلب هذه المدائح لم تصلنا وضاعت في ما ضاع مع شعره الكثير) وإن (له ديوان شعر مفقود) ولنا أن نتساءل أين ذهبت هذه المدائح والمراثي؟
وتتناسل تلك اليد (الأمينة) على التراث الأدبي وتمتد وتتضح بصماتها في ديوان ديك الجن الحمصي. فهذا الشاعر الذي قصده دعبل الخزاعي إلى بلده ونعته بــ (أشعر الجن والإنس)، ولم يخفِ أبو نؤاس انبهاره بشعره فقصده هو أيضاً ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك)، بقي شعره (1110) سنوات متناثراً في بطون الكتب حتى تصدّى عبد المعين الملوحي، ومحي الدين الدرويش الحمصيان لجمعه عام (1960). ولكن هذين الأستاذين قطعا كل صلة للشاعر مع أهل البيت، حتى ليُخيل إلى القارئ أن هذا الشاعر لم يدرك الإسلام!! فلم يذكرا بيتاً واحداً للشاعر فيهم رغم انه من شعرائهم، حتى انبرى الدكتور أحمد مطلوب، والأستاذ عبد الله الجبوري لصون هذه الأمانة فجمعا معه ما بقي من شعر ديك الجن في حق أهل البيت (ع) باعتمادهما على نسخة خطية بيد الشيخ محمد السماوي بلغت (39) قصيدة في (278) بيتاً بعثها إليهما الشيخ محمد علي اليعقوبي.
هكذا تلعب الأهواء والعصبية دورها في ضياع تراثنا الأدبي، وهؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم هم نموذج للكثير من الشعراء الذين ضاع شعرهم أو بالأحرى أُضيع بسبب انتمائهم لمدرسة كربلاء فالذي وصلنا من شعر كربلاء هو النزر اليسير مما قيل، وقد تتبعنا اسم كربلاء فقط من بطون الدواوين والمصادر الأدبية للشعر العباسي فتكونت هذه الحصيلة التي تعطي صورة واضحة عن معنى كربلاء في نفوس الشعراء العباسيين فنقلناها ضمن مقطوعة من قصيدة الشاعر:
1 ــــ ابن السماك الواعظ: توفي (183ه)
أبو العباس محمد بن صبيح العجلي الكوفي المعروف بـ (ابن السماك الواعظ) نسبة إلى بيع السمك كان زاهداً عابداً ولد في الكوفة وأقام في بغداد لفترة ثم رجع إلى الكوفة ومات بها وصف بالقدوة الزاهد وسيد الوعاظ له ثلاثة أبيات رثى بها الإمام موسى بن جعفر(ع) يشبّه فيها قتله مسموماً مظلوماً بمقتل جده الحسين(ع) حيث يقول:
مات الإمام المرتضى مسموما *** وطوى الزمان فضائلا وعلوما
قد مات في الزوراء مظلوماً كما *** أضحى أبوه بـ (كربلا) مظلوما
فالشمس تندب موته مصفرة *** والبدر يلطم وجهه مغموما
2 ــــ أبو تمام: (188ـــ231ه/803ـــ845م)
حبيب بن أوس بن الحارث الطائي من كبار شعراء العربية امتاز شعره بالقوة والجزالة ولد بقرية (جاسم) من قرى حوران في سوريا وهاجر إلى مصر ثم إلى بغداد فالموصل التي توفي بها من مؤلفاته (فحول الشعر والحماسة) و(مختار أشعار القبائل) و(نقائض جرير والأخطل) ويعد هو والمتنبي والبحتري من أفضل ما جادت به العربية من الشعراء وعن كربلاء يقول أبو تمام من قصيدة تبلغ (61) بيتا يذكر فيها كربلاء:
ثم يوم بـ (كربلاء) وأحدا *** ث به صدعت متونَ السلامِ
ويقول في أخرى:
والهاشميون استقلت عِيرَهم *** من (كربلاء) بأثقلِ الأوزارِ
3 ــــ الناشئ الصغير: (271ـــ366ه/884ــــ976م)
أبو الحسن علي بن عبد الله بن وصيف الحلّاء الملقب بالناشئ الصغير والمعروف بالحلاء نسبة إبى أبيه الذي كان يعمل في حلية السيوف كان من علماء الشيعة ومتكلميها وفقهائها ومحدثيها وشعرائها له كتب في الإمامة وأغلب شعره في أهل البيت(ع) وقد جمعه العلامة الشيخ محمد السماوي وهو صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها:
بآل محمد عرف الصوابُ *** وفي أبياتهم نزل الكتابُ
أقام الناشئ فترة من حياته في الكوفة وكان له مجلس في مسجدها يقرأ الشعر والناس يملون عنه وكان المتنبي يحضر مجلسه وهو صغير وسمي بالناشئ الصغير في مقابلة الناشئ الكبير المعروف بابن شرشير من قصائده في أهل البيت قصيدة يمدح بها الإمام موسى بن جعفر(ع) مطلعها:
ببغداد وإن ملئت قصورا *** قبور تملأ الآفاق نورا
وفيها يعرج على كربلاء:
(فزوروا بالغري و(كربلاء) *** وبغداد وسامرا القبورا)
4 ـــــ دعبل الخزاعي : (148ــــ246ه/765ــــ860م)
دعبل بن علي بن رزين الخزاعي من كبار شعراء أهل البيت(ع) ولد في الكوفة وقتل في قرية من نواحي السوس ودفن بها كان صديقاً للبحتري وأبي تمام وقد مات دعبل بعد أبي تمام فرثاهما البحتري بقوله:
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي *** مثوى حبيبٍ يوم مات ودعبلِ
جدثٌ على الأهوازِ يبعد دونه *** مسرى النعيّ ورمّة بالموصلِ
كان دعبل شاعراً صلب العقيدة مرهوب اللسان قيل له أنت أجسر الناس وأقدمهم حيث تقول:
إني من القوم الذين سيوفهم *** قتلت أباكَ وشرفتكَ بمقعدِ
رفعوا محلكَ بعد طولِ خمولهِ *** واستنقذوكَ من الحضيضِ الأوهدِ
وكان قد قرأ هذه القصيدة أمام المأمون وهو يشير إلى قصة طاهر الخزاعي وقتله الأمين أخا المأمون فقال دعبل قولته المشهورة: (أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها) وكان دعبل شاعراً مكثراً قال الجاحظ: سمعت دعبل بن علي يقول: (مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذر شارقه إلا وأنا أقول فيه شعراً) ولدعبل شعر كثير ولكنه أُضيع ولم يبق إلا القليل النادر قال عبد الحسيب طه: (ولو وصلنا كله لورثنا أدباً قوياً جريئاً يمثل نفس دعبل وقوتها وجرأتها) وقد تطرقنا إلى هذا الموضوع في المقدمة، تميز شعر دعبل بصدق العاطفة المستندة إلى العقيدة الراسخة في أهل البيت كما تبلورت فيه مبادئ كربلاء يقول في إحدى قصائده يصف يوم كربلاء بلوعة صادقة وحزن عميق:
(أنسيت قتل المصطفين بـ (كربلا) *** حول الحسين ذبائحٌ لم يلحدوا)
أنسيت إذ صارت إليه كتائب *** فيها ابن سعدٍ والطغاةُ الجحدُ
فسقوه من جُرَعِ الحتوفِ بمشهدٍ *** كثرَ العداةُ به وقلّ المسعدُ
وهي قصيدة بليغة تبلغ (35) بيتاً ويقول في حسينية أخرى:
(سقى الله أجداثاً على طفِ (كربلا) *** مرابعَ أمطارٍ من المزناتِ)
وصلى على روح الحسين حبيبه *** قتيلا لدى النهرين بالفلوات
قتيلا بلا جرم فجعنا بفقده *** فريدا ينادي: أين أين حماتي؟
ويقول من (تائيته) المشهورة التي تبلغ (123) بيتاً:
(قبور بجنبِ النهرِ من أرضِ (كربلا) *** معرسهم منها بشطِ فراتِ)
توفوا عطاشى بالفرات فليتني *** توفيت فيهم قبل حين وفاتي
إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم *** سقتني بكأس الذل والفظعات
5 ــــ ديك الجن الحمصي: (161ــــ235ه/777ـــــ849م)
أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي ولد في حمص بسوريا ولم يفارق حمص حتى موته يعد من كبار شعراء القرن الثالث الهجري ومن شعراء أهل البيت الكبار قصده أبو نؤاس إلى حمص وقال له: (لقد فتنت أهل العراق بشعرك) وكان لكربلاء أثر بارز في شعره منه قصيدة في رثاء الحسين تبلغ (50) بيتا منها:
(يا عين في (كربلا) مقابرُ قد *** تركن قلبي مقابرَ الكربِ)
مقابرُ تحتها منابرُ مِن *** علمٍ وحلمٍ ومنظرٍ عجبِ
من البهاليلِ آل فاطمةٍ *** أهل المعالي السادةِ النجبِ
وله أيضا رثائية أخرى متفجعة يصف بها مقتل الحسين ورفع رأسه على الرمح:
(ونظرتُ سبطَ محمدٍ في (كربلا) *** فرداً يعاني حزنَه المكظوما)
تنحو أضالعَه سيوفُ أميةٍ *** فتراهم الصمصومَ فالصمصوما
فالجسم أضحى في الصعيدِ موزّعا *** والرأسُ أمسى في الصعادِ كريما
6 ــــ عبد الله البرقي: قتل (245ه)
أبو محمد عبد الله بن عمار البرقي وشي به عند المتوكل العباسي بقصيدته التي قالها في مدح أهل البيت والتي يعرض فيها ببني العباس وغصبهم حق العلويين حيث يقول:
(فقلدوها لأهل البيت أنهم *** صنو النبي وأنتم غير صنوان)
فأمر المتوكل بقطع لسانه وإحراق ديوانه فمات بعد ذلك بأيام قليلة ذكر له المؤرخون ديوان ضخم أكثره في مدح أهل البيت (ع) ومن شعره في كربلاء قوله من قصيدة تبلغ (36) بيتا:
(إذا ذكرت نفسي مصيبة (كربلا) *** وأشلاءُ ساداتٍ بها قد تفرّت)
أضاقت فؤادي واستباحت تجلّدي *** وزادت على كربي وعيشي أمرتِ
بنفسي خدودٌ في الترابِ تعفّرت *** بنفسي جسومٌ بالعراءِ تعرّتِ
7 ـــــ منصور النمري: توفي (190ه/805م)
أبو الفضل منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك النمري الجزري البغدادي من شعراء أهل البيت روي إنه لما سمع هارون الرشيد قصيدته اللامية في مدح أهل البيت أمر أبا عصمة ـــ أحد قواده ـــــ أن يذهب إلى الرقة ــــ وكان النمري بها ــــ ويقطع لسانه ويقتله ويبعث إليه برأسه فلما وصل أبو عصمة إلى باب الرقة رأى جنازة النمري خارجة منها فعاد إلى الرشيد فأخبره بوفاة النمري فقال الرشيد فألا إذ صادفته ميتا أحرقته بالنار وروى ابن شهراشوب في المناقب إنهم نبشوا قبره، أما شعر النمري في رثاء الحسين فهو صور من بطولة شهداء كربلاء وتضحيتهم من أجل مبادئ السماء يقول واصفا ثبات أصحاب الحسين وشجاعتهم:
اضف تعليق