فكل فرد إذا أراد التقدم والنجاح لابد أن يكون لديه أحدٌ الى جانبه، ينصحه بقول الحقيقة، ينتقده حتى يصبح هذا القرين مرشدا وهاديا يرفع عنه العثرات. والذي ليس عنده قرين فهو مسكين، قد لا يمتلك قرينا جيدا يصاحبه ويلازمه، فلابد له بالنتيجة أن يبحث عن قرين جيد...

بعد إتمام زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين، يطرح هذا السؤال ماذا نستفيد أو استفدنا أو سيستفيد زوار الإمام الحسين (عليه السلام) من هذه الزيارة المقدسة؟ 

من أهم الأمور التي لابد للزائر أن يستفيد منها، ويخرج بالكنز الكبير والثمين لهذه الزيارة، هي الاستقامة على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) الذي خطه لنا، من خلال تضحيته: (وبذل مهجته فيك).

وأن يستمع الزائر إلى كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) وأن يستفيد من هذه السيرة العطرة ويغيّر حياته نحو الأحسن، وذلك بالاستقامة وطلب النصيحة، وطاعة الناصح.

وعن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): (من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)(1)، أي لابد أن يكون عارفا بمعنى الإمامة ومفهومها، وما هي حقوق الإمام عليه، وكيف يجب أن يزور الإمام الحسين وهو عارف بحقه، معرفة حقيقية ومعرفة بحق الإمام نفسه، وبحق الإمامة حين يرى ويعرف مكانة الإمام الحسين (عليه السلام)، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا)(2)، يرى مقام الحسين عند الله سبحانه وتعالى، ويستمع الى كلامه (عليه السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الإصلاح ومكافحة الفساد، ويطبق كلامه (عليه السلام) من خلال التوبة الصحيحة، والمعرفة القائمة على الطاعة والعمل.

المعرفة هي الإدراك الجيد 

فالعمل لا يكفي لوحده، بل لابد من المعرفة التي تؤدي بالإنسان إلى الطاعة والالتزام كما ذكرنا في موضوع طاعة الناصح، ولكن يوجد سؤال في هذه الرواية مرتبط ببحثنا هذا (وما تأخّر)، فما تقدّم معروف المعنى والمقصود منها ذنوب الماضي، حين يتوب الإنسان لله سبحانه وتعالى، عن الذنوب والمعاصي التي قام بها سابقا، فيغفرها الله تعالى له.

هناك إشكالان حول معنى (ما تأخّر) وقد أجاب العلماء عن ذلك، أنه كيف يغفر الله لذنب لم يقع في المستقبل، والإشكال الثاني هو ان هذا الكلام تحريض على الوقوع في الذنب بداعي المغفرة!

لكن العلماء أجابوا عن هذين الإشكالين، أما نحن فنطرح الجواب هنا من خلال بحثنا فنقول:

أولا: إن التوبة عن المعاصي في حقيقتها تؤدي إلى التوبة الحقيقية، فهناك فرق بين التوبة الحقيقية والتوبة الرخوة، أو التوبة الضعيفة، أو التوبة المترددة، لابد أننا لاحظنا بعض الناس انه يصمم على التوبة، لكن يوجد في نفسه وذهنه خيط صغير في أنه يمكن أن يعود إلى هذا الشيء، فهذه ليست توبة حقيقية، وغير محصَّنة، بالنتيجة يقع في المعصية مرة أخرى في المستقبل.

لكن التوبة الحقيقية التي تنبع من تصميم الإنسان وعزمه، وإرادته واستقامته، تؤدي إلى تحصين الإنسان ووقايته من الوقوع في الذنوب والمعاصي، فالتحصين قد يكون هو معنى (ما تأخر)، وهذا يعبر عنه مفهوم التقوى، فالتقوى هي ملَكة تحصل نتيجة الممارسة المستمرة، حتى يصل الى مرحلة التحصين.

الحصانة بالتقوى 

فالزائر الذي يزور الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو مصمم على التوبة، بالنتيجة فإن الله سبحانه وتعالى يوفقه ويعطيه التوفيق على نياته، فيعصمه من الوقوع في المعصية من خلال المقدمات التي ذهب إليها، أو من خلال النتيجة العقلانية الموجودة في كل أمر، فلكل سبب مسبّب، فالإنسان الذي يتوب سوف تكون عنده حصانة ووقاية من الوقوع في هذا الأمر.

وقد جاء في بدايات سورة الفتح:

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) الفتح 1-4.

هذا المقطع في الآيات الكريمة (ليغفر الله ما تقدم وما تأخّر)، مذكور في زيارات الأئمة (عليهم السلام)، حيث يمكن استنتاج:

أولا: بناء الحاضنات الجيدة لاحتواء الإنسان ووقايته من الوقوع في الذنب والمعصية والخطأ. فالأماكن السيئة هي حاضنات موبوءة تحت عناوين اللهو، تؤدي إلى الانحراف والوقوع في المشكلات والمعاصي.

لكن عندما تكون الحاضنة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين والإمام الحسين واهل البيت (عليهم السلام) فإنها تحصّن الإنسان من الوقوع في الذنوب والانحرافات، لذلك فقوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، تعني فتحنا لك وأسقطنا كل الأصنام، والأوثان التي تؤدي للوقوع في الذنوب.

فمعنى الفتح هو الانتصار في تحصيل التحصين بحاضنات الاستغفار، (ليغفر الله ما تقدم وما تأخر)، تعني يغفر الله عن الأمة، ويحصّنها من الوقوع في الذنوب من خلال بناء الحاضنة الجيدة، وتحطيم الحاضنات السيئة التي قامت على الفساد والافساد، وهذا الأمر يرتبط بمجتمعاتنا، وكيفية بناء حاضنات جيدة في مدارسنا وأسرنا، حتى لا يقع أبناؤنا في الانحراف والمعاصي.

فهذه الزيارات المقدسة ومنها زيارة الاربعين، هي حاضنات رائعة وممتازة لبناء الإنسان من خلال بناء سد امام توغل المعاصي ومحاصرتها.

وتؤكد الآية (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) هذا المعنى، فمع تدفق الإيمان تحصل الاستقامة في الطاعة، حيث يزداد الإيمان ويتراكم ويتصاعد، إلى أن يصبح ملَكة راسخة وسلوك ثابت في قلب الإنسان يؤدي سكونه وسكينته ويرفع القلق والوساوس من نفسه، وهذا هو معنى (ما تأخر) لأنه يرسخ الإيمان وينزع الاغلال من انفسهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الأعراف 43.

التوبة بالاستقامة والتمسك بالولاية تؤدي الى الفتح والانتصار، وكلها تؤدي إلى ازدياد الإيمان، وبالنتيجة تحصين الإنسان من الوقوع في المعاصي، ولذلك فإن طاعة الناصح التي ركز عليها أهل البيت (عليهم السلام)، هي من أهم المقاصد التي يحتاجها الزائر، حتى يثبت على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والاستقامة على طريقتهم، ويحصن نفسه من الوقوع في المعاصي والذنوب.

حقوق الناصح على المنصوح

ذكرنا في المقال السابق، ما هي طاعة الناصح؟ ونتائج طاعة الناصح، ووصلنا إلى رسالة الحقوق، التي تطرح حقوق الناصح بالنسبة للمنصوح، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام):

(وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب حمدت الله عز وجل، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتهمه وعلمت أنه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلا أن يكون مستحقا للتهمة فلا تعبأ بشيء من أمره على حال)(3)، فما هي حقوق الناصح؟

أولا: أن لا تكون متشنجا، بل ليّن الجناح، وتمكّن قلبك من قبول النصيحة، حتى يستطيع أن ينصحك. 

ثانيا: (أن تصغي إليه بسمعك)، أن تستمع له جيدا، ولا تقل مقدما أن هذا الناصح نصيحته غير جيدة، بل لابد أن تستمع إليه حتى لو اكتشفت فيما بعد أن نصيحته لم تكن جيدة، لان الاستماع بحد ذاته هي ثقافة يحتاجها كل انسان حتى يستطيع ان يفهم. 

لذلك على الإنسان أن يلين نفسه، ولا يقفل قلبه، ولا يسد أبواب تفكيره، بل يجعل قلبه مفتوحا للاستماع للآخرين، يصغي اليهم، ليفهم الدنيا من جوانب متعددة وزوايا مختلفة، فالإنسان العاقل هو الذي يستطيع أن يفهم الدنيا من خلال حسن الاستماع، وعمق الإصغاء فتخترق افكاره أعماق الحياة.

أما إذا أقفل قلبه عن كل شيء فسوف يخسر الكثير، لذا بعض الناس بمجرد أن تتكلم معه وقبل أن تكمل كلامك يقول لك، كلا، في كل شيء، فلا تقل لا، اصبر قليلا، واستمع لكل الكلام ثم تمحّص وفكر بالمعاني، في بعض الأحيان ربما لا تدرك النصيحة في وقت قولها لك، لكنها قد تفيدك في زمن معين عندما يذكّرك لاوعيك في لحظة معينة تكون بأمس الحاجة لفهم تلك اللحظة فهما واضحا.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق 37.

ثالثا: أن يتحمل المنصوح المعاناة والألم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش)(4)، فحتى لو كان في النصيحة ألم، فهذا من شروط الاستماع للنصيحة، بأن تصبر على الألم الذي يمكن أن تسمعه من الإنسان الناصح.

الإنسان حساس، نرجسي، لا يتقبل النصح، وقد يعتبر ذلك مسّ بشخصه أو ذاته، بالنتيجة هو يعاني ويتألم، ولكن إذا تعلّم الإنسان على تحمّل النقد، فإن بالنتيجة سوف يعتاد تحمل الألم من الناصح، وهكذا تصبح النصيحة بالنسبة له خالية من المعاناة بل قد يصل الى مرحلة يلتذ بالنصيحة.

الحقيقة لا تكتمل إلا مع الآخرين

وقد ورد في الروايات عبارة (القرين الناصح)، فما هو المقصود من هذا القرين؟

القرين الناصح كما ورد في الروايات الموجودة، أن الإنسان الفرد هو وجه واحد من الحقيقة، فالحقيقة لا تكتمل إلا مع الآخرين، فعن الإمام علي (عليه السلام) (المؤمن مرآة المؤمن، لأنه يتأمله فيسد فاقته ويجمل حالته)(5)، لأن كل واحد منهم يكمل الآخر، فمن البرمجة المهمة التي يحتاجها كل انسان في حياته وسلوكه، أن يكون له صديق جيد، قرين ناصح.

 القرين هو الذي يقارن ويلازم ويصاحب، فأما أن يكون قرين خيرٍ أو قرين سوء، (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) النساء (38)، أي لابد أن يكون لكل شخص قرين، فإذا لم يكن قرينا صالحا، فهو قرين سيّئ، فالشيطان يكون له قرينا يغويه. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) الصافات 50/51.

في يوم الحساب يقول الإنسان لقد كان عندي قرينا، فحاسب هذا القرين، لماذا تحاسبني أنا؟ ولكنك أنت الذي اخترت هذا القرين، وهذه إشارة لنا بأننا لابد أن نختار القرين الصالح لنا.

هذا يعني أولا أن الإنسان يحتاج في كل الأحوال إلى قرين، والشيء الثاني لابد أن يكون القرين الذي اختاره قرينا ناصحا، ينصحه ويرشده ويدلّه بالنصيحة الجيدة، ويهديه إلى الصراط المستقيم، وليس يضحكه ويغشه حتى يقوده الى الهاوية.

فكل فرد إذا أراد التقدم والنجاح لابد أن يكون لديه أحدٌ الى جانبه، ينصحه بقول الحقيقة، ينتقده حتى يصبح هذا القرين مرشدا وهاديا يرفع عنه العثرات.

والإنسان الذي ليس عنده قرين فهو مسكين، قد لا يمتلك قرينا جيدا يصاحبه ويلازمه، فلابد له بالنتيجة أن يبحث عن قرين جيد، أما من له قرين، ولكنه قرين سوء، فهذا سوف يتعرض إلى معاناة كبيرة، ولذلك على الأب والأم والعائلة، أن يعرفوا أصدقاء وقرناء أبنائهم ماذا يقولون او يستمعون وأين يذهبون؟

الموبايل قرين خطير 

الآن أصبح القرين للأسف الشديد، في هذا العصر المتقدم أو الحالي هو الموبايل، وشبكات التواصل الاجتماعي، وهي من قرين السوء الذي يغوي الإنسان، فأينما تذهب ترى الأطفال والمراهقين والشباب وهم ممسكون بالموبايلات، ويتصفحون المواقع، وحين تسألهم ماذا تتصفحون، لا يقولون شيئا، اين يذهبون في أية مواقع يتصفحون؟

الآباء لا يعرفون ذلك، ولا يراقبون أطفالهم، وهذه مشكلة كبيرة جدا، لأن الموبايل قرين سوء بالنسبة للأطفال، وعندما يحاسبهم الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة، من هو القرين، إنه الموبايل، فهذا خطأ كبير، هذا تدمير للإنسان أن تضع الموبايل بيد ابنك منذ نعومة أظفاره فيصبح قرين سوء له، ماذا يقدم هذا الموبايل للطفل من معلومات، هذا خطر كبير، بل كارثة بحد ذاته.

لذلك لابد أن نبحث عن القرين الصالح في حياتنا وفي حياة أبنائنا، وحياة مجتمعاتنا، مطلوب منا أن نتوسل بالإمام الحسين (عليه السلام) عندما نزوره، ونطلب لنا، لأنفسنا ولأبنائنا، القرين الناصح الذي يرشدنا ويهدينا إلى طريق الصلاح، ويبعدنا عن القرين السيّئ. 

الواعظ الذاتي

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من لم يكن له واعظ من قلبه، وزاجر من نفسه، ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه)(6)، اي يعطي مجالا للعدو بحيث يتسلّط عليه، فالإنسان هو أو المجتمع هو الذي مكّن نفسه من الوقوع في براثن وحبال الأعداء، والأعداء كثيرون واخطرهم الشيطان، والعدو الخارجي الذي يطمع في الاستيلاء والاستعباد، والعدو الداخلي هو الذي يفتقد في قلبه الردع والوعظ، حيث لايستنفره قلبه لفعل الأشياء الصالحة.

القلب هنا معناه الفكرة، والفرق هنا بين القلب والنفس، ان القلب مرتبط بالأفكار، (إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها) كما قال الإمام علي (عليه السلام)، فالقلب وعاء للأفكار، فالإنسان حين يستقبل الأفكار من الخارج سيضعها في قلبه، فالقلب هو مكان تتجمع فيه الأفكار، فعلى الإنسان أن يضع في قلبه أفكارا جيدة، حتى تعطيه الوعظ السليم دائما.

هذا هو معنى النصيحة للنفس، أي أن الإنسان ينصح نفسه من خلال زرع الأفكار الجيدة في قلبه، وأيضا يحتاج إلى زاجر من نفسه من خلال التقوى التي تحصن الإنسان من الحسد والحرص على الدنيا والطمع ومن الكذب والخيانة، هذه الأمراض النفسية الموجودة في داخل الإنسان هي بالنتيجة معادية له، فيزجر الإنسان نفسه ويردعها لكي لا يقع في الرذائل.

استراتيجيات لبناء المرشدين

بالنتيجة ما الذي يحدث اذا (لم يكن له قرين مرشد)، حيث قال قرينا مرشدا ولم يقل قرينا صالحا، فربما يكون القرين صالحا لكنه قد لا يكون مرشدا، ويمكن أن يكون قرين خير لكنه غير قادر على الإرشاد، وليس لديه القدرة على أن ينصح، فتكون نصيحته ليست بالمستوى المطلوب، بحيث يعطي الهداية والإرشاد.

فمن أين تأتي بهذا القرين المرشد؟ وأين نجد هذا القرين خصوصا في المجتمع العشوائي الارتجالي، الذي لم يشتغل على تربية وتنظيم نفسه جيدا، حيث لن نعثر على هذا القرين، لذلك لابد أن نعمل وتكون لدينا استراتيجيات لبناء المرشدين الصالحين.

الآن مثلا يوجد في بعض المجتمعات مرشد نفسي، مرشد تربوي، مرشد اجتماعي، يرشد الأطفال والمراهقين، أو حتى الكبار، ويعالج مشكلاتهم النفسية، ولكن نحن نحتاج إلى أن تكون عندنا حاضنات، ومؤسسات تبني المرشدين الصالحين الذي يقومون بمعالجة المشكلات الأخلاقية والعقائدية للناس منذ نعومة أظفارهم.

هذه القضية لم نشتغل عليها، رغم أنها من الواجبات الملقاة علينا (ومنح النصيحة)، فلكي نبني النصيحة لابد أن نبني المرشدين الصالحين في المجتمع، من خلال المدارس الجيدة، من خلال الحوزات العلمية وإقامة الندوات الثقافية، ونخرّج قرناء صالحين أو أشخاص مرشدين يرشدون الناس إلى حل مشكلاتهم.

الآن يوجد أناس كثيرون لديهم مشكلات وأزمات اجتماعية، أسرية، أخلاقية، نفسية، فيحتاج هذا الأمر إلى بناء استراتيجي عميق، لحل المشكلات بأن يكون لدينا تخريج مستمر للقرناء الصالحين، والمرشدين الذين يستطيعون أن يحلوا مشاكل الناس، حتى لا يستمكن الأعداء من السيطرة على أبنائنا وعلى أنفسنا.

السيطرة النفسية بالغزو الثقافي

 (يستمكن عدوه) لا تعني السيطرة عليه جسديا فقط، وإنما يسيطر عليه نفسيا وفكريا، وهذا هو معنى الغزو الثقافي، وقد طرحنا سابقا مفهوم الاستلاب، يستلب شخصيته فيصبح تبعيا، مقلدا للآخرين، ومستوردا لثقافتهم وأفكارهم، فالإنسان الذي ليس لديه مرشد سوف يأخذ من أفكار الآخرين كما هو الحال اليوم في مجتمعاتنا.

هناك الكثير من الناس في مجتمعاتنا يستوردون سلوكياتهم وأفكارهم وأخلاقياتهم وحياتهم، من المجتمعات الأخرى بصورة سيئة، هذا يعني غياب الإرشاد الصحيح، والإرشاد السليم، أو غياب الاستعانة بالمرشدين الصالحين لأبنائنا، فالقرين المرشد يعد من أهم الاستراتيجيات التي يحتاجها الإنسان في حياته.

بالإضافة إلى الأصدقاء الصالحين، هناك بعض الناس يبحث لأبنائه عن أصدقاء من نفس الطبقة، مثلا إذا كان غنيا، سوف يبحث عن أصدقاء أغنياء لأبنائه، أو إذا كان من طبقة معينة يبحث لأبنائه أصدقاء من نفس الطبقة، أو يختار له أصدقاء على مزاجه، ولكن هذا لا يعني الصداقة الصالحة، بل قد يكون معناها الصداقة السيئة، اصدقاء السوء الذين يوقعون الآخرين في الانحراف (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا) النساء/38.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الصديق الصدوق من نصحك في عيبك وحفظك في غيبك وآثرك على نفسه)(7)، هذا هو الصديق الذي يجب أن تختاره لأبنائك، الذي يبين عيوبك، ولا يمدحك كذبا وتملقا أو مجاملة، ولا يسقطك في غيابك ولا ينتقص منك، حيث يقدّمك على نفسه.

والمعنى الدقيق للصداقة يعبر عنه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (من لم ينصحك في صداقته فلا تعذره)(8)، فالصديق هو الذي يصدّقك ويصْدقكَ، ومن أهم علامات ذلك النصيحة والنصيحة الجيدة.

الاسترشاد الذاتي بالعمل الصالح

والقرين الآخر الذي ينصح الإنسان، هو العمل الصالح، فعن الإمام علي (عليه السلام): (القرين الناصح هو العمل الصالح)(9)، هذا مفهوم جميل ورائع، فكيف يمكن أن يكون العمل الصالح كالقرين الناصح؟

ذلك انه كلما ابتعد الإنسان عن الأعمال السيئة واقترب من الأعمال الصالحة سيؤدي ذلك الى عملية تنمية الذات إيجابيا، فتتراكم الخبرة العميقة والفهم الصحيح، وتحقيق القدرة على الاسترشاد الذاتي، فالعمل بحد ذاته يرشد الإنسان، من خلال التجارب الذي يخوضها، فهي عملية تقدم في حياة الإنسان فتعطيه عملية تراكم، فكلما يكون عمله صالحا يتقدم أكثر، مثل العلم الذي يكون تراكميا، فكلما تعلّم الإنسان علما في هذا اليوم يزدد علما، وإذا كان مؤمنا يزدد إيمانا، كذلك فإن العمل الصالح يزدد صلاحا.

فيكون العمل الصالح للإنسان قرينا ينصحه، ولا يجعله ينحرف عن الطريق المستقيم، لذا فإن أهم خطوة في حياة الإنسان في بناء الحاضنة الايجابية هو تراكم العمل الصالح الذي يكون حاضنا للإنسان مع الناصح القرين، والعمل الصالح بحد ذاته هو نصح للإنسان وعدم وقوعه في الخطأ، وبالنتيجة يعطيه العمل الصالح تجارب جيدة وناجحة في حياته، فكيف إذا اقترن ذلك بناصح أمين يحصنه من الانحراف والسقوط، مثل اهل البيت (عليهم السلام) وتراثهم المعرفي العظيم، عندما نغترف منهم المعرفة ليغفر الله لنا من ذنوبنا ما تقدم وما تأخر، فنحقق الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

* حوارات بثت على قناة المرجعية في مناسبة زيارة الأربعين 1445

..................................

(1) كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - الصفحة ٢٦٤.

(2) الإرشاد - الشيخ المفيد - ج ٢ - الصفحة ١٢٧.

(3) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٥ - الصفحة ١٧٨.

(4) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٦٣٨.

(5) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - الصفحة ٤١٤.

(6) الأمالي - الشيخ الصدوق - الصفحة ٥٢٦.

(7) غـُرَرُ الحِكَم ودُرَرُ الكَلم، الآمُدي، رقم: 9729.

(8) غـُرَرُ الحِكَم ودُرَرُ الكَلم، الآمُدي، رقم: 9506.

(9) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٦٨.

اضف تعليق