لعب المنبر الحسيني والخطباء الحسينيون الذين تعاقبوا على ارتقائه عبر المراحل الزمنية المتعاقبة دوراً تنويرياً مهماً للتعريف بالقضية الحسينية وأبعادها الفكرية والدينية والأهداف السامية التي سعى لتحقيقها سيد الشهداء صلوات الله عليه باذلاً في سبيلها روحه ودمه الشريف وأهله وأصحابه منذ أن شعر بأن الخدر أصاب الأمة وبدأ يحرفها عن المسارات والقيم التي بشر بها جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعيداً عن الخوض في مراحل تطور المنبر الحسيني نجد أن صوته مازال الأعلى بين أصوات الشعائر الحسينية وذلك لامتداد دوره حتى بعد انقضاء شهري الحزن والألم في محرم وصفر.
ورغم الحضور الكثيف للموالين والمؤمنين في مجالس العزاء الحسيني، لازال البعض من النخب الثقافية يوجه سهام نقده بمناسبة او بدونها على دور المنبر لاعتبارات نراها بعيدة عن أي طرح علمي ومعرفي ينبغي أن ينشده المثقف إن اراد النقاش في موضوع ما.
ويرتفع الصوت النخبوي الناقد للمنبر الحسيني كثيراً في عاشوراء، وعندما تتم محاورته يقول بأن خطباء المنابر يرسخون الطائفية، وباعتقادنا ان هذا افتراء لايستند لأي دليل خصوصاً أن القائلين بهذا الرأي لم يجهدوا أنفسهم بمتابعة خطبة واحدة بتجرد قبل أن يطلقوا تصريحاتهم، فلم نسمع بخطيب حسيني مثلاً قال بان على شيعة الحسين قتل مخالفيهم في أي مكان فهل سمع النخبويون ذلك ولم نسمعه نحن؟!.
بل ان اكثرهم -وهذا ما لوحظ بوضوح- لا يملكون اي تصور او دراية ببعض المفاهيم العامة التي يعرفها البسطاء كالروايات الموثوق بسندها او تلك التي رويت بإسناد ضعيف أو التي لا سند لها أصلاً مايكشف عن ثقافة دينية سطحية بحيث أن المثقف النخبوي لايعرف ان الخطيب لايتحدث عن اي موضوع دون ان يذكر تفاصيله بحيادية نادرة عرفت عن اتباع اهل البيت عليهم السلام وبشهادة مخالفيهم في أكثر من مناسبة.
والكثير من مثقفينا للأسف الشديد متأثرون بموضة التحرر الغربي الذي لم يقنع حتى مواطني البلدان الغربية بدليل النسب المخيفة التي تصرح بها مؤسسات حقوق الإنسان العالمية لحالات الإنتحار التي تحدث بكثافة، ولانعرف السبب لماذا طالما أن هذه البلدان تعطي -كما تزعم- الحقوق والحريات، كما أن التناقض يبدو واضحاً في آراء أغلب النخبويين حين يتحدثون باحترام وتقدير عن عقائد وسلوكيات الآخرين فينظرون بعين الإعجاب مثلاً لمسيرات التعري المختلطة في اوروبا او بمهرجانات رمي الطماطم ومسابقات الثيران بينما يستنكرون البكاء وهو حالة إنسانية على رمز ضحى بكل ما لديه من اجل تحرر الإنسان من حالة الذل والعبودية التي تصادره وتنحدر به الى ما ينقص من قيمته العليا.
ولا اعرف ماهو الضير من بذل الطعام بهذه الكثافة والمشاركة الواسعة في هذا البذل للملايين القادمين لإحياء شعائر الحسين (اكثر المثقفين الناقدين يتناولون من هذا الطعام!) وهي الحالة التي انبهر بها الكثير من الزوار الأجانب الذين قدموا لتوثيق حالة الحج المليوني سيراً على الأقدام لإحياء زيارة الأربعين فضلاً عن انبهارهم بحالة الألفة والمحبة بين السائرين على الرغم من قطعهم لمسافات طويلة.
وبالعودة لموضوع المنبر الحسيني فأننا نجد الخطيب متوازناً في آرائه مؤمناً بقضيته ولكل خطيب خصوصية تميزه عن أقرانه في طرح القضية الحسينية، كما أن الخطباء اليوم أكاديميون وباحثون وكتاب ويعتمدون في طرحهم على الأدلة المعتبرة (نحن أصحاب الدليل) والنصوص المتفق على أسنادها فأين الطائفية إن قال الخطيب بأن سين سيء وقد اتفقت روايات الفريقين على سوئه؟
نعتقد بأن على المثقف النخبوي بحاجة لأن يتصالح مع نفسه وأن ينظر بموضوعية خالية من أي تطرف (متمدن) وأن يدرك بأن رأيه محسوب عليه سلباً أو إيجاباً، وحتى لو لاحظ حالة أو ظاهرة يعتقد أنها تسيء لجوهر هذه القضية الحسينية العظيمة فلا بأس من طرحها بهدوء ومناقشتها بدلاً من التفوه بما لا يتلائم مع قيمته كمثقف لأن مثل هكذا تصرفات تجعل الآخر ينظر له بنظرة قد تزعجه إن كان واعياً لدوره الحقيقي ولرسالته في المجتمع.
اضف تعليق