التوصيفات المعروفة والمتداولة: الحادثة، الواقعة، المقتل، المصرع، الفاجعة، الكارثة، المأساة، المحنة، الملحمة، النهضة، الثورة، المعركة، وغيرها من توصيفات أخرى تتصل بهذه الأنساق. ليست من نمط التوصيفات العادية وإنما هي من نمط التوصيفات الجادة والمهمة التي تثير الدهشة، ويصدق عليها صفة العلامة الدالة لسانيًّا وفكريًّا...
بقلم: زكي الميلاد
-1-
حركة الحسين.. وتعدّد منظورات الرؤية
تعدّدت منظورات الرؤية تجاه حركة الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهاده في كربلاء سنة 61 هجرية، وتنوّعت هذه المنظورات قديمًا وحديثًا، حالها كحال الأحداث الكبرى في التاريخ الإنساني، وذلك لعوامل وأسباب عدة، بعضها يتعلق بطبيعة الحدث وتعقيداته، وبعضها يتعلق بطريقة النظر وتنقيباته، وبعضها يتعلق بتأثيرات ومؤثرات أخرى ظرفية ومقامية.
ونلمس هذا التعدد في منظورات الرؤية تجاه قضية الحسين من تعدد التوصيفات المتشكلة، لكون أن هذه القضية من نمط القضايا التي لا تحتمل التوصيفات الأحادية، كانت وما زالت على هذا الحال قديمًا وحديثًا، وذلك لتعدد وجوهها، وتنوع صورها، وتقلب مشاهدها، وتجدد مآلاتها.
وفي هذا النطاق حضرت العديد من التوصيفات التي شاعت بين الكتّاب والباحثين أدباء ومؤرخين، وعرفت حتى بين الجمهور العريض من الناس، وحافظت هذه التوصيفات على تواترها في المجال التداولي، وحضرت في كثير من المؤلفات والدراسات التاريخية والدينية والأدبية والثقافية وغيرها.
من هذه التوصيفات المعروفة والمتداولة: الحادثة، الواقعة، المقتل، المصرع، الفاجعة، الكارثة، المأساة، المحنة، الملحمة، النهضة، الثورة، المعركة، وغيرها من توصيفات أخرى تتصل بهذه الأنساق.
ومن الواضح أن هذه التوصيفات أو أكثرها، ليست من نمط التوصيفات العادية أو العابرة، ولا من نمط التوصيفات الهشة أو الضحلة، وإنما هي من نمط التوصيفات الجادة والمهمة التي تثير الدهشة، وتلفت الانتباه، فكل واحدة منها لها إيحاءاتها وإشاراتها، ويصدق عليها صفة العلامة الدالة لسانيًّا وفكريًّا.
وعند النظر في هذه التوصيفات فحصًا وتأملًا، يمكن الكشف عن ثلاثة اتجاهات أدبية، تعددت منظوراتها وتفاوتت في طريقة النظر لقضية الحسين (عليه السلام)، وهذه الاتجاهات الأدبية الثلاثة هي:
الاتجاه الأول: ويمكن وصفه بالأدب التاريخي السردي الذي غلّب توصيفات معينة من قبيل: الحادثة والواقعة والمقتل والمصرع، وظهر في نمطين من الكتابات هما: كتب التاريخ العام، وكتب ما بات يعرف بالمقاتل.
الاتجاه الثاني: ويمكن وصفه بالأدب العاطفي أو الوجداني، الذي غلّب توصيفات معينة من قبيل: الفاجعة والمأساة والكارثة، وباقي التوصيفات الأخرى التي تنتمي لهذا النسق.
الاتجاه الثالث: ويمكن وصفه بالأدب النهضوي، الذي غلب كذلك توصيفات معينة من قبيل: النهضة والثورة والملحمة، وباقي التوصيفات الأخرى التي تنتمي لهذا النسق.
هذه هي الاتجاهات الأدبية الثلاثة التي سوف نحاول دراستها بطريقة تحليلية، بقصد الكشف عن طبيعة منظوراتها، وما بينها من فروقات متباينة.
-2-
الاتجاه الأول: الأدب التاريخي السردي
من الملاحظ أن المدونات التاريخية القديمة والمعروفة عند المسلمين، التي اعتمدت منهج السرد وطريقة الحوليات في تدوين الحوادث التاريخية، قد تطابقت تقريبًا على استعمال تسمية المقتل لكل من حصلت له الوفاة عن طريق القتل على اختلاف مناسبة الحادثة، سواء حصل القتل في حرب أو معركة أو مقاتلة أو اغتيال أو ما شابه ذلك.
وفي هذا النطاق جرى الحديث عن مقتل عمر في أحداث سنة 23 هجرية، ومقتل عثمان في أحداث سنة 35 هجرية، ومقتل حجر بن عدي في أحداث سنة 51 هجرية، وحينما وصلوا إلى حادثة كربلاء تحدَّثوا عنها بالمنهج نفسه وبالطريقة ذاتها، مختارين تسمية المقتل، ومتحدّثين عن الحادثة بتسمية مقتل الحسين.
نجد هذا التطابق في اختيار تسمية مقتل الحسين حاصلًا في أشهر المدونات التاريخية، من هذه المدونات وبحسب تعاقبها الزمني، كتاب (تاريخ اليعقوبي) للمؤرخ أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي (ت292هـ/ 897م)، كتاب (تاريخ الأمم والملوك) المعروف بتاريخ الطبري للمؤرخ محمد بن جرير الطبري (244 - 310هـ/ 839 - 923م)، كتاب (الكامل في التاريخ) للمؤرّخ علي بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير (555 - 630هـ/ 1160 - 1232م)، وكتاب (البداية والنهاية) للمؤرخ الدمشقي إسماعيل بن كثير (770 - 774هـ)، وكتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) المعروف بتاريخ ابن خلدون للمؤرخ عبدالرحمن بن خلدون (732 - 808هـ/ 1332 - 1406م)، وهكذا في باقي المدونات التاريخية الأخرى.
حصل هذا التطابق في هذه المدونات على تسمية المقتل، لعلاقة هذه التسمية على ما يبدو بأدب الكتابة التاريخية، ولكون أن هذه المدوّنات قد استقت من بعضها، وجاءت تقريبًا متشبهة بعضها ببعض، ودلّ على ذلك ما أفصح عنه ابن الأثير الذي اتّخذ من تاريخ الطبري مرجعًا، وناظرًا له بصفته الكتاب المعوَّل عليه عند الكافة، ومنه حصل الابتداء، وحسب قوله: «إني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمَّله علم صحة ذلك، فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنَّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه لم أخلّ بترجمة واحدة منها... فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة، فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعت كل شيء منها موضعه... على أني لم أنقل إلَّا من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممَّن يُعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحة ما دونوه»[1].
الأمر الذي يعني أن استعمال كلمة «مقتل» في الحديث عن واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن إلَّا اتِّباعا لاستعمال هذه الكلمة من قبل في الموارد التي حصلت فيها حوادث القتل، فليست لهذه الكلمة من خصوصية في هذا الشأن، أي إنها لم تتعلّق بهذه الواقعة، ولا تحمل شيئًا من رموزها وإشاراتها ودلالاتها، وجاءت بقصد التوصيف الذي لا يستبطن موقفًا، باعتبارها الكلمة التي جرت العادة على استعمالها سابقًا وتاليًا في جميع الموارد التي حصلت فيها حوادث القتل.
لكن الذي لفت انتباهنا بشدة لكلمة المقتل ليست المدوّنات التاريخية المذكورة، وإنما نمط آخر من الكتابة التاريخية السردية تمثّل في كتابات حملت في عناوينها كلمة المقتل، وبعد أن توالت هذه الكتابات وتراكمت عرفت بكتب المقاتل وأدب المقاتل، لكونها تمثّل نسقًا في الكتابة التاريخية.
والأقرب أن هذا النمط من الأدب، تولّد من تلك المدونات التاريخية التي أخذ منها الصفة والطبيعة، أخذ منها الصفة ونعني بها صفة المقتل التي جرى استعمالها في تلك المدونات في جميع الموارد التي حصلت فيها حوادث القتل، وأخذ منها الطبيعة ونعني بها تدوين الحدث التاريخي بطريقة الحكاية السردية.
هذه هي جهة الاشتراك بين هذين النمطين من الكتابة التاريخية، لكنهما يفترقان من جهة العلاقة بين العام والخاص، فالمدونات التاريخية يصدق عليها صفة العام لكونها تعتني بتدوين عامة الحوادث التاريخية، بينما يصدق على أدب المقاتل صفة الخاص لكونها تعتني بتدوين الحوادث التاريخية في نطاق خاص، يتحدد هذا النطاق تارة بحادثة حصلت فيها مقاتل كحادثة كربلاء، وتارة بأشخاص تعرضوا للقتل كالحسين (عليه السلام).
وأكثر ما عرف به هذا النمط من الأدب «أدب المقاتل» هو الكتابات التي تحدثت عن مقتل الحسين، وكاد ينحصر بها شهرة، وذلك لتفوقها من ناحية الكم، وتواليها من ناحية الزمن، فقد عرفت بعض الكتابات التي تحدثت عن مقتل عثمان وحملت هذه التسمية في عناوينها، كما عرفت كتابات أخرى تحدثت عن مقتل حجر بن عدي وحملت هذه التسمية كذلك في عناوينها إلى جانب آخرين، لكن الكتابات التي تحدثت عن مقتل الحسين فاقتها شهرة واطّرادًا.
وعناية بهذا الجانب، وثّق الباحث الإيراني الشيخ محمد سردرودي مجموع المؤلفات المصنفة حول مقتل الحسين، القديمة والحديثة، المنشورة وغير المنشورة، ووجد أن هناك أربعة وثلاثين كتابًا غير منشور حملت في عناوينها تسمية المقتل، ابتدأها بكتاب (مقتل الحسين) لمؤلفه الأصبع بن نباته المتوفى سنة 64 هجرية وقيل بعد المائة، ويعد أول كتاب حول مقتل الحسين، ومن أسبق كتب المقاتل، واختتمها بكتاب (مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء) لمؤلفه محمود بن عثمان بن علي الحنفي الرومي المعروف باللامعي (878 - 938هـ).
أما المؤلفات المنشورة فقد وثّق الشيخ سردرودي ثمانية كتب حملت في عناوينها تسمية القتل والمقتل، ابتدأها بكتاب (تسمية من قُتل مع الحسين) لمؤلفه الفضيل بن الزبير بن عمر بن درهم الكوفي الأسدي (122 - 148هـ)، واختتمها بكتاب (عبرت المعطفين في مقتل الحسين) لمؤلفه محمد باقر المحمودي، الصادر في طبعته الثانية سنة 1417هـ[2].
وحين توقّف الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1354 - 1421هـ/ 1936 - 2001م) عند كتب مقتل الحسين مقوِّمًا لها، رأى أن أكثر هذه الكتب أجدر بأن تكون مرجعًا في شأن الثورة الحسينية من كتب التاريخ العام، وذلك من جهتين في نظره، هما:
الجهة الأولى: كون أن كتب المقتل جاءت متخصّصة بحكاية وقائع الثورة الحسينية؛ ولذا فهي أحفل من كتب التاريخ العام التي تعطي غالبًا أهمية متساوية لكل ما ترويه من أحداث.
الجهة الثانية: أن هذه الكتب وضعت من رجال ينظرون إلى الثورة الحسينية بعاطفة الحب والتقديس، واعتمدوا على مصادر لها صلة حميمة بالثورة، بينما رواة التاريخ العام كانوا غالبًا على اتصال وثيق بالسلطان، أو أنهم يؤيّدون وضعًا سياسيًّا يتعارض مع مضمون الثورة.
ومن جهة النقد، يرى الشيخ شمس الدين أن ثمة مآخذَ على كثير من كتب المقتل فيما يتّصل بتدوين الأحداث، فإن الحماس والحب قد يدفعان في بعض الحالات إلى تدوين أخبار معينة دون أن تنال حظّها من التحقيق، وربما يكون بعض هذه الأخبار مجرَّد استنتاجات وآراء شخصية، إلى جانب التعبير عن الموقف بعبارات عاطفية، وأكثر ما وجدت هذه الظاهرة في كتب المتأخرين من مؤلفي المقتل[3].
مع هذه المآخذ النقدية، إلَّا أن الشيخ شمس الدين يرى في هذا النمط من الكتب أهمية وقيمة، وأنها تصلح في نظره لأن تكون موضوعًا لدراسة علمية واسعة وعميقة، تشتمل على دراسة تاريخ نشوء هذا النوع من كتابة التاريخ وتطوره، ومعرفة منهجه ومحتوياته، والأسلوب الذي كتب به، وعلاقته بلغة الكتابة في المجالات الأخرى، باعتباره يحتوي على مادة غنية وغزيرة ومتنوّعة، ظلّت ممتدة في جميع العصور الإسلامية، وبقيت منتشرة في جميع الأوساط والمجتمعات منذ القرن الهجري الأول إلى عصرنا الراهن في نهاية القرن الرابع عشر الهجري[4].
-3-
الاتجاه الثاني: الأدب الوجداني
عرف هذا الاتجاه بالأدب الوجداني لأنه غلَّب التوصيفات الوجدانية والعاطفية في طريقة تكوين المعرفة بقضية الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو اتجاه قديم يرجع إلى القرون الهجرية الأولى، وبقي حاضرًا وممتدًا إلى هذه الأزمنة الحديثة، وشهد تراكمًا كبيرًا على مستوى الأدبيات شعرًا ونثرًا، وما زال محافظًا على وجوده، ثابتًا في موقفه.
يحسب لهذا الاتجاه أنه فجّر في ساحة المسلمين أقوى عاطفة حصلت تجاه الحسين وقضيته، وبرع كثيرًا في هذا الجانب، ومثّل أعظم نجاحاته، وتفوّق على باقي الاتجاهات الأخرى في إبراز هذا الجانب العاطفي الحزين الذي جعل قضية الحسين ليست فقط دافئة بل ملتهبة في القلوب، وبصورة لا تنطفئ لا مع توالي الأيام، ولا مع تقادم الزمان، ولا مع تعاقب الأجيال.
ومن هذه الجهة، فقد أظهر هذا الاتجاه وفاء واضحًا تجاه الحسين وقضيته، ومن سلك هذا الدرب شعر براحة ضمير في إظهار قسط من الوفاء كان متحفزًا إليه وشغوفًا به، أمام قضية تستحق أعلى درجات التفاني والوفاء، قضية مثّل فيها الوفاء عنوانًا كبيرًا، فالحسين كان وفيًّا لقيمه ولمبادئ رسالة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وضرب وأصحابه مثلًا ساميًا في التضحية والوفاء.
وكان طبيعيًّا انبثاق هذا الاتجاه، وتلوّنه بهذا الطابع العاطفي الطاغي، والثبات عليه والبقاء ممتدًا مع الزمن، فهذا الطابع لم يأتِ من فراغ، ولم يتشكّل بدافع الرغبة، ولا بفعل الميول الذاتية، وإنما حصل بتأثير حادثة هزّت الضمير الإنساني، وآلمت الوجدان، وأوجعت القلوب، وفجّرت أنهارًا من الدموع ظلّت سيّالة ولم تجف، إنها حادثة كربلاء وما أدراك ما حادثة كربلاء.
الحادثة التي حار الباحثون والمؤرخون قديمًا وحديثًا في وصفها وفي طريقة الحديث عنها، فحين أشار إليها العالم المصري جلال الدين السيوطي (849 - 911هـ/1445 - 1505م) قال عنها: «لا يحتمل القلب ذكرها»[5]، ورأى فيها صاحب الفخري محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي (660 - 709هـ/ 1262 - 1309هـ) بأنها من أشهر الطامات، وقال عنها: «هذه قضية لا أحب بسط القول فيها استعظامًا لها واستفظاعًا، فإنها قضية لم يجرِ في الإسلام أعظم فحشًا منها»[6].
واعتبرها الأديب المصري خالد محمد خالد (1339 - 1416هـ/ 1920 - 1996م) بأنها الفاجعة التي تذيب الصخر وتصهر الحديد[7]، وعدَّها الدكتور علي سامي النشار (1917 - 1980م) بأنها أكبر حادث في تاريخ الإسلام السياسي والروحي[8].
وهكذا تتعدد الانطباعات وتتنوع قديمًا وحديثًا وبين الفِرَق كافة، كاشفة عن الطابع العاطفي ومغلِّبة له في توصيف حادثة كربلاء، بما يؤكد واقعية هذا الاتجاه الذي حاول أن يكون معبّرًا صادقًا وشفّافًا عن حادثة وصفت بالفاجعة والطامة والمحنة والمأساة وغيرها من أوصاف تحمل أشد معاني الوجع والألم والحزن.
وقد توالت في هذا النطاق الكثير من المؤلفات، وظلّت تتواتر بلا توقف، وسجّلت تراكمًا بقي ممتدًا من الأزمنة القديمة إلى الأزمنة الحديثة، ويعدُّ كتاب (مثير الأحزان) للشيخ جعفر بن محمد بن جعفر الحلي المعروف بابن نما (567 - 645هـ) من أقدم المؤلفات المعبرة عن هذا الأدب، وفي الأزمنة الحديثة يحضر كتاب (نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم) للشيخ عباس القمي (1294 - 1359هـ).
أما وجه الملاحظة التي تسجّل على هذا الأدب، فيمكن تحديدها في أمرين هما:
الأمر الأول: الاستغراق الكلي في البعد العاطفي، والاكتفاء بهذا البعد الأحادي في النظر لقضية الحسين، وعدم الالتفات إلى الأبعاد الأخرى على أهميتها، فلا جدال في أن حادثة كربلاء هي مناسبة عاطفية، لكنها لا تنحصر في هذا البعد ولا تتضيق عليه، وليست هي مناسبة للحزن والبكاء والحداد فحسب، تتحدد في أيام معدودة تنتهي بانتهائها، وسرعان ما يرتفع الحزن والحداد، وترجع الأمور إلى حالها لا تغيير فيها ولا تبديل، وكأن شيئًا لم يكن.
وحقيقة الحال أن هذه مناسبة تصدق عليها المقولة البليغة مبنى ومعنى أنها مناسبة العَبرة والعِبرة، في دلالة على ارتباط العاطفة والعقل في هذه المناسبة، فالعبرة –بفتح العين- تدل على جانب العاطفة، والعبرة –بكسر العين- تدل على جانب العقل.
ثانيًا: بتأثير البعد العاطفي الطاغي حصل تساهل وتعمّد أحيانًا في نقل وذكر حوادث ووقائع غير ثابتة، لتعظيم الجانب المأساوي والمفجع والحزين في حادثة كربلاء، بقصد استدرار عاطفة الناس، ودفعهم للبكاء، ورفع منسوب حزنهم، وهي الحالات التي من دونها لا تكتمل صورة عاشوراء في نظر من ينتسبون لهذا الأدب.
هذه القضية أثارت حفيظة المحققين علماء وباحثين ومؤرخين، الذين أظهروا نقدًا ولومًا وتوبيخًا لأولئك الذين نقلوا أو اخترعوا مثل تلك الحوادث والوقائع، واصفين لها بالأكاذيب، ومعتبرين أنها تشوِّه السيرة الحسينية وتسيء إليها، وتجعلها موضع شك وريب، وتثير حولها الشبهات والظنون، بالشكل الذي قد يبدد التأثير المعنوي والعاطفي والوجداني لحادثة كربلاء.
وتأكيدًا لهذا الموقف النقدي، يمكن الإشارة إلى رأيين مهمين من جملة آراء كثيرة ومتوالية في هذا الشأن، هذان الرأيان هما:
الرأي الأول: ذكره المحدث الشيخ عباس القمي عن كتاب (الأربعين الحسينية) للميرزا محمد بن محمد تقي القمي (1276 - 1341هـ) قوله: «وأضحى جماعة من ذاكري المصائب لا يتورَّعون عن اختراع وقائع مبكية، وكثر اختراع الأقوال منهم، واعتبروا أنفسهم يشملهم الحديث «من أبكى فله الجنة»، وشاع هذا الكلام الكاذب مع الأيام حتى صار يظهر في مؤلفات جديدة، وإذا حاول محدِّث أمين مطَّلع منع هذه الأكاذيب، نسبوها إلى كتاب مطبوع أو كلام مسموع، أو تمسّكوا بقاعدة التسامح في أدلة السنن، وتوسَّلوا منقولات ضعيفة توجب اللوم والتوبيخ من الملل الأخرى، كجملة من الوقائع المعروفة التي ضبطت في الكتب الجديدة، في حين أنه لا عين ولا أثر لهذه الوقائع عند أهل العلم والحديث»[9].
الرأي الثاني: ذكره السيد محسن الأمين (1284 - 1371هـ/ 1867 - 1952م) في مقدمة كتابه (المجالس السنية) الصادر سنة 1923م، وحسب قوله: «ولكن كثيرًا من الذاكرين لمصاب أهل البيت (عليه السلام) قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها، لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة، وزادوا ونقصوا فيها لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحة الأخبار وسقمها، حتى حفظت على الألسن، وأودعت في المجاميع، واشتهرت بين الناس ولا رادع، وهي من الأكاذيب التي تغضبهم وتفتح باب القدح للقادح، فإنهم لا يرضون بالكذب الذي لا يرضي الله ورسوله»[10].
هذه لمحة سريعة عن صورة ما سميته بالأدب الوجداني، ما له وما عليه.
-4-
الاتجاه الثالث: الأدب النهضوي
حاول هذا الاتجاه أن يتمايز عن الاتجاه السابق الموصوف عنده بالاتجاه التقليدي، وأن يتفاضل عليه منهجيًّا ومعرفيًّا، ساعيًا لتكوين خطاب يتخطَّى الجانب العاطفي يتفهمه ولا يتضيق به، خطاب يستند إلى معرفة بالفلسفة العامة للقضية الحسينية من جهة ضبط وتشخيص المقاصد والغايات القريبة والبعيدة.
وإذا كان الغالب على الاتجاه السابق هم الخطباء وأهل المنبر، فإن الغالب على هذا الاتجاه هم المفكرون وأهل النظر الذين حاولوا العبور بواقعة كربلاء من الماضي إلى الحاضر، والانتقال بها من جانب الضعف والانكسار إلى جانب القوة والإقدام، وربطها بفلسفة تبعث في الأمة روح النهضة والإصلاح، ولتكون كربلاء مصدر إلهام لأحرار العالم وهم يتطلّعون لقيم الحرية والعدل والكرامة.
ويمكن الكشف عن هذا الاتجاه الموصوف بالأدب النهضوي، من خلال ثلاثة نماذج بارزة تنتمي إلى ثلاث بيئات عربية وإسلامية هي العراق ولبنان وإيران، وارتبطت بأشخاص لهم منزلتهم الفكرية والإصلاحية، وجاء اختيارهم من جهة تعدد المفاهيم التي فضّلوها وحاولوا إبرازها وتأكيدها ولفت الانتباه إليها، وتحددت في ثلاثة مفاهيم هي: (النهضة والثورة والملحمة)، وبهذه المفاهيم بنيةً وتكوينًا عُرف هذا الاتجاه بالأدب النهضوي، وبها تمايز من الاتجاهين السابقين.
وهذه النماذج الثلاثة نعني بهم:
1- العالم العراقي السيد هبة الدين الشهرستاني (1301 - 1386هـ/ 1884 - 1967م) الذي أبرز مفهوم النهضة في كتابة (نهضة الحسين).
2- العالم اللبناني الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي أبرز مفهوم الثورة في كتابه (ثورة الحسين.. ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية).
3- العالم الإيراني الشيخ مرتضى المطهري (1340 - 1400هـ/ 1919 - 1979م) الذي أبرز مفهوم الملحمة في كتابه (الملحمة الحسينية).
النموذج الأول: مفهوم النهضة
لعل كتاب (نهضة الحسين) من أسبق التأليفات الحديثة التي أبرزت مفهوم النهضة في الحديث عن قضية الحسين، ويصلح هذا الكتاب أن يؤرخ له من جهة اقتران قضية الحسين بمفهوم النهضة، المفهوم الذي كان مهمًّا الاقتراب منه وادماجه في الخطاب الحسيني، وتأكدت أهمية هذه الخطوة أنها جاءت من عالم له تاريخ حافل في الإصلاح الديني هو السيد هبة الدين الشهرستاني.
اختار السيد الشهرستاني كلمة النهضة في عنوان كتابه المذكور، وترددت في متن الكتاب وتواترت تسميات مركبة مثل: النهضة الحسينية، وحسين النهضة، والحسين الناهض، لكنه لم يتوقف عند كلمة النهضة بوصفها مفهومًا حديثًا بحاجة إلى تحليل معرفي، وهي المهمة التي تندرج في إطار بناء المفاهيم.
من جانب آخر، لم يشرح السيد الشهرستاني لماذا اختار مفهوم النهضة، وأعطاه صفة الأفضلية على باقي المفاهيم الأخرى المتداولة في هذا الشأن، خاصة وأنه بصدد التعامل مع مفهوم حديث لم يكن مألوفًا كثيرًا في أدب الخطاب الحسيني.
ولا نعلم على وجه الدقة إن كان هو أول من استعمل هذا المفهوم في الحديث عن قضية الحسين، أم أن هناك من سبقه إليه، ولعله كان الأقدر آنذاك في الكشف عن هذا الأمر إما على سبيل الظن أو على سبيل اليقين. عدم التفات السيد الشهرستاني لهذا الأمر فوَّت عليه إمكانية أن يكون مؤرّخًا لعلاقة مفهوم النهضة بالقضية الحسينية.
لكن الذي نعرفه من سيرة السيد الشهرستاني أنه كان قريبًا من مفهوم النهضة، ومن النسق الفكري الحديث الذي جاء منه هذا المفهوم، فقد تفتَّح على هذا النسق وتواصل معه منذ وقت مبكّر، واصطبغت به شخصيته الدينية والفكرية، وأصبح مضرب مثل للذين سلكوا هذا الدرب من بعده.
وقد أبرز هذا الجانب عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي (1913-1995م) وميّزه في شخصية السيد الشهرستاني، قائلًا عنه: أنه في أوائل القرن العشرين كان «من أكثر الناس ولعًا بالمطبوعات المصرية، بحيث صار مرجعًا لها عند الراغبين فيها من شبان الملائية ومتجدديهم، وقد اتّخذ له حلقة دراسية في جامع الطوسي كان يدرس فيها بعض مبادئ العلوم الحديثة التي استمدها من المجلات والكتب المصرية... ولهذا رأيناه في جميع كتبه ومقالاته يحاول أن يبرهن للقراء أن الدين الإسلامي قد سبق العلوم الحديثة بنظرياته، وأن تلك العلوم لم تأتِ بما يناقض الإسلام أبدً»[11].
ويذكر للسيد الشهرستاني أنه خطا خطوة مهمة في تدعيم مفهوم النهضة وعلاقته بالأدب الحسيني، متحدثًا عن قضية الحسين بوصفها نهضة، داعيًا للنظر إليها والتعامل معها بهذا الأفق النهضوي البعيد والواسع، وليس بوصفها حادثة أو واقعة أو مصيبة حصلت في التاريخ، وعُدَّت من حوادث الماضي، ولا يجري تذكُّرها إلَّا بقصد إظهار الحزن لا غير.
وفي هذا الإطار كشف السيد الشهرستاني عن منهجه، الذي تحدد في أمرين هما:
الأمر الأول: له علاقة بالجمهور العام، والحاجة لبيان حقيقة الحركة الحسينية ومزياها وآثارها، وقد ألمح السيد الشهرستاني إلى ذلك بقوله: «فقد حدا بي إلى تأليف كتابي هذا، غفلة الجمهور عن تاريخ الحركة الحسينية وأسرارها ومزايا آثارها»[12].
الأمر الثاني: له علاقة بالصفوة الخاصة وبالذات قراء المأتم الحسيني، الذين أراد السيد الشهرستاني أن يقدم لهم عملًا جمع فيه حسب قوله: المحاكمات التاريخية، والنظريات الاجتماعية، والمرويات الموثقة.
أما لماذا اختار السيد الشهرستاني مفهوم النهضة في دراسة وتحليل حركة الحسين (عليه السلام)، فيمكن الكشف عن ذلك في ثلاثة عناصر مترابطة، هي:
أولًا: يرى السيد الشهرستاني أن ما قام به الإمام الحسين في حقيقته وحكمته يمثل نهضة، والنهضة بحسب تعريفه هي: قيام جماعة أو فرد بما يقتضيه نظام الشرع أو المصلحة العامة، وشاهده على ذلك الحركة التي قام بها الحسين (عليه السلام).
ثانيًا: حاول السيد الشهرستاني ربط نهضة الحسين بنهضات التاريخ الإنساني، فحقيقة النهضة في نظره أنها سيّالة في الأشخاص والأمم، وفي الأزمنة والأمكنة، لكن بتبدل أشكال، واختلاف غايات ومظاهر، وما تاريخ البشر سوى نهضات أفراد وجماعات وحركات أقوام لغايات كبرى، ولم تزل ولا تزال في الأمم نهضات أئمة الهدى تجاه أئمة الجور، كنهضة الحسين وغيرها.
ثالثًا: اعتبر السيد الشهرستاني أن نهضة الحسين تمثل المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ، لربط هذه النهضات بنهضة الحسين، وحسب قوله: «لا عجب أن عُدَّت نهضة الحسين (عليه السلام) المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ، وحازت شهرة وأهمية عظيمتين، فإن الناهض بها الحسين رمز الحق ومثال الفضيلة، وشأن الحق أن يستمر، وشأن الفضيلة أن تشتهر»[13].
وتأكيدًا لهذا الموقف، يرى الشهرستاني أن «نهضة الحسين من بين النهضات قد استحقت من النفوس إعجابًا أكثر، لا لمجرد ما فيها من مظاهر الفضائل، وإقدام معارضيه على الرذائل، بل لأن الحسين (عليه السلام) في إنكاره على يزيد كان يمثل شعور شعب حي، ويجهر بما تضمره أمة مكتوفة اليد، مكمومة الفم، مرهقة بتأثير أمراء ظالمين، فقام الحسين (عليه السلام) مقامهم في إثبات مرامهم، وفدى بكل غالٍ ورخيص لديه، باذلًا في سبيل تحقيق أمنيته وأمته من الجهود ما لا يطيقه غيره، فكانت نهضته المظهر الأتم للحق، حينما كان عمل معارضيه المظهر الأتم للقوة فقط من غير ما حق أو شبهة حق»[14].
ومن جانب آخر، عد الشهرستاني نهضة الحسين ينبوعًا لحركات اجتماعية، وحسب قوله: «عدت نهضة الحسين (عليه السلام) ينبوع حركات اجتماعية باقية الذكر والخبر في ممالك الإسلام، خففت ويلات المسلمين بتخفيف غلواء المعتدين، فأي خير كهذا الينبوع السيّال والمثال السائر في بطون الأجيال»[15].
النموذج الثاني: مفهوم الثورة
في التأليفات الحديثة يعد مفهوم الثورة من أكثر المفاهيم تطبيقًا وتفضيلًا في توصيف حركة الإمام الحسين (عليه السلام) ومنذ أن عرف هذا المفهوم أصبح متفوِّقًا على باقي المفاهيم الأخرى القريبة منه والبعيدة، وبقي محافظًا على هذه المنزلة المتفوقة، ولم يتراجع أو يتقهقر.
ولا نعلم على وجه التحديد متى بدأ استعمال هذا المفهوم، وليس هناك على ما يبدو من أرخ له في هذا السياق، لكن الأكيد أن شهرته حصلت في الأزمنة الحديثة، وارتبط من ناحية الانتساب بالاتجاه الموصوف بالأدب النهضوي.
وفي هذا السياق يأتي كتاب الشيخ محمد مهدي شمس الدين الموسوم بـ(ثورة الحسين.. ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية)، ومع أنه قد لا يكون أول كتاب ولا حتى من أوائل التأليفات التي وصفت حركة الحسين بالثورة في عناوينها، إلَّا أنه يعد من التأليفات المبكرة، إذ يرجع تاريخه إلى بدايات ستينات القرن العشرين.
مع ذلك فإن هذا الكتاب يصلح أن يكون نموذجًا لمقاربة مفهوم الثورة توصيفًا لحركة الحسين وتطبيقًا عليها، وذلك للاعتبارات الآتية:
أولًا: مع أن هذا الكتاب يعدّ من بواكير تأليفات الشيخ شمس الدين، ويأتي في المرتبة الثالثة في سلسلة مؤلفاته بعد كتابيه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) الصادر سنة 1955م، و(دراسات في نهج البلاغة) الصادر سنة 1956م، إلَّا أنه في انطباع بعض يعدّ من أفضل التأليفات في موضوعه.
وقد أشار الشيخ شمس الدين لمثل هذا الانطباع في مقدمة الطبعة الرابعة الصادرة سنة 1977م، ملمحًا به على لسان ما سمعه من الآخرين، فحين وجد ما لقيه الكتاب في طبعاته الثلاث من لقاء كريم حسب وصفه، رأى أن «السر في ذلك ما قاله عن هذا الكتاب كثير من العلماء والمثقفين الذين نحترم علمهم وحيدتهم، أنه أفضل ما كتب عن ثورة الحسين على الإطلاق»[16].
وتدعيمًا لهذا الانطباع، يرى الشيخ شمس الدين أن كتابه قد «عالج ثورة الحسين من زوايا جديدة، وكشف عن أبعاد جديدة، وأعماق بكر فيها، جعلتها من خلال التفسير الذي قدمه هذا الكتاب، ذات مضمون يتسق مع التطلعات التي يحملها الإنسان المعاصر إلى مجتمع تسوده العدالة، وتحكم علاقاته الروح الإنسانية وكرامة الإنسان»[17].
ثانيًا: مثل هذا الكتاب (ثورة الحسين) حلقة متصلة بحلقات أخرى، جاءت في سياق مشروع دراسة وتحليل وتنقية السيرة الحسينية، فبعد هذا العمل جاء كتاب (أنصار الحسين دراسة عن شهداء ثورة الحسين.. الرجال والدلالات) الصادر سنة 1975م، ومثل الحلقة الثانية في بنية المشروع، ثم جاءت الحلقة الثالثة متمثلة في كتاب (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي) الذي تغيّر عنوانه في الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1996م وعرف بعنوان (واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي)، وكان يفترض أن يتمم المشروع بحلقة رابعة بعنوان (قصة الثورة)، لكنها الحلقة التي لم ترَ النور.
توالي هذه الحلقات جعل منها تذكّر ببعضها، وتلفت الانتباه دائمًا إلى أول عمل افتتح بها، ونعني به كتاب (ثورة الحسين) الذي تأكّدت قيمته وتعاظمت منزلته بالحلقات الأخرى التي اتصلت به، وجاءت من بعده، فلم يكن مجرد عمل منقطع أو مبتور، بل مثَّل عملًا اكتسب صفة الامتداد والتراكم، متخطيًا كثيرًا من التأليفات الأخرى التي لا امتداد لها ولا تراكم.
ثالثًا: اختار الشيخ شمس الدين مفهوم الثورة في كتابه المذكور، وكان ملتفتًا بشدة لهذا المفهوم، وقاصدًا له، ومتبصّرًا به، وداعيًا لإحيائه وإحياء التاريخ المتصل به في الأمة، ومطالبًا بتوجيه الاهتمام نحو دراسة الثورات في التاريخ الإسلامي، وناظرًا لكتابه في هذا السياق، معتبرًا ثورة الحسين الثورة الأولى، وواصفًا لها بأنها أم الثورات في تاريخ الإسلام.
وتأكيدًا لهذا المنحى يرى الشيخ شمس الدين «أن ثورة الحسين من بين جميع الثورات في تاريخ الإسلام الحافل بالثورات، هي الثورة الوحيدة التي لا تزال ذكراها حيّة غضّة في حاضر المسلمين كما كانت كذلك في ماضيهم، وهي الوحيدة من بين الثورات، التي دخلت في أعماق الوجدان الشعبي فأغنته واغتنت به، أغنته بشعاراتها وأفكارها وأخلاقياتها وأهدافها النبيلة، واغتنت بتطلعاته ومطامحه عبر العصور، وما ذلك إلَّا لأنها أم الثورات في تاريخ الإسلام»[18].
وحين التفت الشيخ شمس الدين لناحية المنهج رابطًا له بمفهوم الثورة، رأى أن هناك قصورًا في منهجين متّبعين في دراسة حركة الحسين، ويعني بهما منهج السرد التاريخي المحض الذي يركّز على عنصر المأساة، والثاني المنهج الجمالي التاريخي الذي يسلّط الضوء على الفضائل والرذائل الشخصية لأطراف الصراع.
هذان المنهجان -في تصور الشيخ شمس الدين- «يفشلان في تحقيق هدف معاصر له أهمية بالغة في تحقيق التكامل الحضاري والوعي السياسي لدى الإنسان المسلم بوجه خاص، حيث إن الباحث لا يستطيع وفقًا لهذا أو ذاك أن يفهم ويقدم الثورة الحسينية إلى الإنسان الحديث على ضوء المعطيات المعاصرة في المسألة الاجتماعية، ولا يستطيع أن يكتشف عناصر الديمومة والاستمرار في الثورة، هذه العناصر التي تجعل من الثورة شيئًا ذا صلة بالحاضر الحي، قادرًا على إغناء الحاضر، وتزويده بعناصر من الفكر والرؤية تجعل النضال في حقل المسألة الاجتماعية يجمع إلى جانب الحداثة، الأصالة الضرورية للحفاظ على سلامة الشخصية الإنسانية من التشويه أو الذوبان في غمرة المتغيرات المتسارعة لحضارة مادية غير إنسانية، هي الحضارة المادية الحديثة»[19].
بهذه الاعتبارات يصلح كتاب (ثورة الحسين) أن يكون نموذجًا تطبيقيًّا لمقاربة مفهوم الثورة توصيفًا لحركة الإمام الحسين (عليه السلام).
النموذج الثالث: مفهوم الملحمة
تفرّد الشيخ مرتضى المطهري في لفت الانتباه لمفهوم الملحمة، توصيفًا مفضَّلًا لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) مبرزًا لهذا المفهوم في عنوان كتابه الكبير والمثير للجدل (الملحمة الحسينية) الواقع في ثلاثة أجزاء، متحمّسًا لهذا المفهوم، ومضيفًا به مفهومًا جديدًا يلتقي مع نسق المفاهيم الحديثة التي تميّز بها الأدب النهضوي.
اختار الشيخ المطهري هذا المفهوم وكان قاصدًا له لا لفرادته وإنما لصدقيته، وكونه معبِّرًا -في نظره- عن حقيقة الحركة الحسينية، وملتفتًا فيه إلى جانب المفهوم بناءً وتكوينًا، ومنطلقًا من منظور يرى فيه أن ثورة الحسين هي ذات حقائق متعددة، وقد تفاوتت حولها التحليلات والانطباعات على طول التاريخ.
ومن بين هذه التحليلات والانطباعات المتعددة والمتفاوتة، فضَّل الشيخ المطهري مفهوم الملحمة، ويقصد به الحماسة التي تعني الشدة والصلابة، ويمكن استخدامها بمعنى الشجاعة والحمية.
ولمزيد من الفرز والتحديد يرى المطهري أن أهل الأدب يقسمون المنظومات الشعرية إلى أنواع مختلفة، منها: المنظومة الغزلية، والمنظومة الرثائية، والمنظومة المدحية، ومنها المنظومة الحماسية التي تفوح برائحة الغيرة والشجاعة والحمية والرجولة، وكما يصدق هذا التقسيم على الشعر يصدق كذلك على النثر.
انطلاقًا من هذا المعنى تساءل الشيخ المطهري: هل يمكن اعتبار واقعة الحسين (عليه السلام) واقعية حماسية؟ وهل يمكن تسمية الحسين بالشخصية الحماسية؟
لا شك -عند الشيخ المطهري- أن شخصية الحسين هي شخصية ملحمية وحماسية، ويرى أن مفتاح شخصية الحسين يبرز ويتبلور في الحس الملحمي والحس الحماسي، ولن نجد في العالم كله شخصية ملحمية مثل شخصية الحسين، ولن نجد ملحمة حماسية مثل ملحمة الحسين، سواء على صعيد درجة القوة والطاقة الكامنة، أو من جهة العلو والسمو الإنسانيين، ولذا فهي ملحمة الإنسانية، والحسين هو نشيد الإنسانية وليس له نظير[20].
وقد استند الشيخ المطهري في هذا الموقف، إلى حس نقدي كان حاضرًا ومؤثرًا في هذا الاختيار، فالحسين -في نظر المطهري- كان بطلًا وليس رجلًا مسكينًا، وحين نرثي الحسين إنما نرثي بطلًا، وإلَّا فإن رثاء رجل مسكين مستكين مظلوم لا حيلة له ولا يد، أمر لا يحتاج إلى بكاء، ولا معنى لبكاء الأمة عليه، داعيًا لحذف الشعارات التي توحي بالذل والمسكنة، وتتباين مع روح المقاومة الحسينية مثل شعارات: يا مظلوم، ويا غريب، ويا يتيم.
وفي نصٍّ دالٍّ على هذا المعنى، قال المطهري: «ابكوا البطل، وأقيموا مجالس الرثاء والعزاء للبطل، حتى تولِّدوا إحساسًا بالبطولة والشجاعة في أنفسكم، واجلسوا في رثاء البطل عسى أن تنعكس ظلال روح البطل على أرواحكم، وتزداد غيرتكم تجاه الحق والحقيقة، وتنذروا أنفسكم للعدالة، وتصبحوا من المقاتلين ضد الظلم والظالمين، وتصبحوا أحرارًا وتقدروا معنى الحرية، اجلسوا في رثاء البطل حتى تعرفوا معنى عزة النفس، وما معنى الشرف والإنسانية! حتى تعرفوا ما معنى الكرامة!»[21].
وحين التفت الشيخ المطهري إلى الجانب المأساوي في واقعة كربلاء ناقدًا له، رأى أن التركيز على هذا الجانب كان دافعًا لاختلاق الأكاذيب، وحسب قوله: إن «الرغبة اللامسؤولة لرؤية واقعة كربلاء، وبشكلها المأساوي من طرف الناس، كانت هي الدافع لاختلاق الأكاذيب. ولذلك فإن أغلب التزوير والكذب الذي أدخل في مواعظ التعزية، كان سببه الرغبة في الخروج من سياق الوعظ والتحليق في خيال الفاجعة، وبعبارة أخرى: فمن أجل شد الناس إلى صورة الفاجعة التاريخية وتصويرها المأساوي، ودفع الناس إلى البكاء والنحيب ليس إلَّا، كان الواعظ على الدوام مضطرًا للتزوير والاختلاق»[22].
لكن المطهري عاد ووازن رأيه تجاه الجانب المأساوي، قابلًا به في إطار رؤية شاملة وجامعة، فقد وجد أن واقعة الإمام الحسين (عليه السلام) جاءت لتعبِّر -حسب وصفه- عن عرض مسرحي حماسي ونهضوي ومأساوي ووعظي، لذا رأى عدم جواز نفي الجانب المأساوي، ولا حتى جانب المظلومية، وشرح ذلك بقوله: «نحن بدورنا لا يجوز أن ننفي الجوانب التي ركّز عليها البعض أحيانًا، كالجانب المأساوي والحزين، أو عرضهم لجانب المظلومية في الحركة الحسينية، لكننا نقول: إن كل ذلك صحيح شرط أن ينظر إليه في سياق الشمولية والجامعية، التي تطبع حركة النهضة الحسينية ككل، ممَّا يجعلها حركة توحيدية كاملة، جامعة لكل الدرجات والمراتب»[23].
لكنني وجدت الشيخ المطهري قد وقع في نوع من الإرباك له علاقة بجانب المفهوم، فبعد أن فضَّل اختيار مفهوم الملحمة في توصيف حركة الحسين (عليه السلام) حاسمًا هذا الاختيار ومدافعًا عنه، إلَّا أنه رجح في مكان آخر تفضيل تسمية أخرى تتّسم بالعمومية وتفتقر إلى قوة المعنى، هي تسمية الحادثة، وبالصيغة الثنائية المركبة حادثة كربلاء.
واللافت في اختيار هذه التسمية، أنها جاءت في سياق البحث عن المفهوم، وبطريقة مقارنة مع كلمتي نهضة وثورة، وحسب قول المطهري: «إنني عندما أستخدم تعبير حادثة وليس نهضة أو ثورة، فإنما لاعتقادي بأن هاتين الكلمتين لا تعبران تمامًا عن عظمة هذه القضية، ولما كنت لم أعثر على كلمة مناسبة تبيّن هذه العظمة، لذلك ارتأيت استخدام هذا التعبير الكلي، وأقول حادثة كربلاء ولا أقول ثورة لأنها أكثر من ثورة، ولا أقول نهضة لأنها أكثر من نهضة»[24].
ويتأكد هذا النوع من الإرباك المفهومي عند المطهري، عند معرفة أن تسمية النهضة تكررت كثيرًا وتواترت في كتابه، قاصدًا بها توصيف حادثة كربلاء، كما أنها وردت في عنوان كتاب آخر له موسوم بـ(حقيقة النهضة الحسينية).
هذه لمحة مركزة عن أبرز الاتجاهات الأدبية التي اعتنت بدراسة وتحليل حركة الإمام الحسين (عليه السلام).
اضف تعليق